أسطول الحرية درس في المقاومة السلمية
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
من الناس من أساء فهم المقاومة السلمية وجعلها رديفاً للاستسلام والانبطاح والانهزامية..
ربما كان أحد أسباب هذا الربط غير المنطقي بين السلمية والاستسلامية هو تصدر أشخاص ليس لهم رصيد من الثقة الشعبية والسياسية للحديث عن المقاومة السلمية، مما زهد الناس فيها ، مع أن الحق هو أن يتقبل الإنسان الفكرة الصحيحة أياً كان قائلها.
بغض النظر عن دافع ذلك الفريق من الحديث عن المقاومة السلمية والذي قد يكون من باب المناكفة الفصائلية وتبرير تنازلاته السياسية وإجراءاته في ملاحقة المقاومين..
المقاومة السلمية هي خيار راق وفعال..ويقوم بدور ضاغط ومؤثر على الاحتلال..وما نشهده الآن من مأزق أخلاقي وإعلامي وسياسي للكيان عقب معركة أسطول الحرية هو أكبر برهان..
المقاومة السلمية تعني تحييد أي شبهة وذريعة يمكن أن يتسلح بها الاحتلال لتبرير جرائمه ولإظهار ممارساته بأنها نابعة من مخاوف أمنية.. وبذلك تظهر الصورة أمام العالم على حقيقتها وتصبح المعادلة:إرادة شعبية للحرية والاستقلال يقابلها قمع وإرهاب صهيوني.
وسر المأزق العميق الذي وقع فيه الاحتلال بمجزرته ضد أسطول الحرية أنه واجه بالبوارج والطائرات والجنود المدججين بالأسلحة نشطاء سلام مدنيين أعلنوا أنهم جاءوا في مهمة إنسانية وأنهم لا يحملون إلا مساعدات طبية وغذائية وألعاب أطفال..
ولو أن هؤلاء النشطاء كانوا يحملون أسلحةً وواجهوا الرصاص بالرصاص لما وجدنا هذا الغضب العالمي تجاه الاحتلال، ولتفهمت الدول أكاذيب الاحتلال بأنهم كانوا يدافعون عن أنفسهم. لذا فقد أحسن هؤلاء النشطاء صنعاً حين أعلنوا أنهم لن يدافعوا عن أنفسهم مهما فعل الصهاينة، حتى لا تنحرف الوجهة ويضيع الهدف..
هذه المواجهة غير المتكافئة عسكرياً هي التي ألحقت العار بكيان الاحتلال، وأوقعته في صراع مكشوف مع الضمير الإنساني..
فاستنفر الأحرار في كل العالم وخرج مئات الألوف يهتفون لحرية فلسطين وسقوط الاحتلال، وحتى الدول الصديقة للكيان اضطرت أمام عاصفة الغضب الشعبي إلى إدانة الجريمة .
والاحتلال لا يطيق أن تنقلب المعادلة على هذا النحو، لذلك فإنه غالباً ما يدفع إلى عسكرة المواجهة..لأن ذلك يريحه ويخلق له مبررات يستند إليها في خطابه الإعلامي، ويسوق نفسه بأنه ضحية للإرهاب المسلح، ويكسب بأكاذيبه تعاطف المغيبين عن الحقيقة..
المجزرة التي حدثت في مياه البحر الأبيض المتوسط هي نقطة تحول تاريخية بكل المقاييس، لأنها أظهرت الصورة الحقيقية التي طالما سعى الاحتلال لإخفائها، فافتضحت حقيقته بأنه دولة عصابات إرهابية وقراصنة، يواجهون إرادة الحق والحرية والعدالة .
لذلك وجدنا هذه التفاعلات العالمية وحالة الغضب غير المسبوقة على الاحتلال، وبدأت قناعات عالمية في التشكل بأن هذا الكيان صار عبئاً على العالم..
إن المزيد من الجهد في هذا الاتجاه من شأنه أن يعمق مأزق الاحتلال ويزيده عزلةً في العالم كما فعل بأشياعه من قبل في جنوب أفريقيا فسقط نظام الأبارتهايد العنصري..
لا نجادل في أن المقاومة العسكرية هي حق مكفول سماوياً وأرضياً للشعوب الواقعة تحت الاضطهاد، ولكن لنكن صرحاء ولنتحدث بفقه الموازنات بين ما هو مفيد وأكثر إفادة..
الواقع يقول بأن المقاومة العسكرية في قطاع غزة مكبلة بالحسابات والضغوط السياسية خاصةً في مرحلة ما بعد الحرب، وهل يجادل أحد في أن عمليات المقاومة العسكرية انخفضت بنسبة تزيد عن 90% بعد الحرب؟
نتفهم هذه الظروف ونعذر فيها، ولكن ما دام الأمر كذلك فلماذا لا نبحث عن بدائل أخرى في هذه المرحلة تحقق ذات الأهداف التي تسعى إليها المقاومة العسكرية من إيلام للاحتلال..
الفعاليات الشعبية في أنحاء العالم، والمعركة الإعلامية لصناعة الرأي العام العالمي، والملاحقات القضائية لمجرمي الحرب الصهاينة وتشجيع المقاطعة الاقتصادية والثقافية والأكاديمية لكيان الاحتلال هي أمور في غاية الإيلام للاحتلال..
المقاومة السلمية ليست خياراً عبثياً ولا سهلاً، ولكنه خيار مؤثر وفعال ..وهي لا تهدف إلى استعطاف السياسيين وتملقهم، ولكنها تستهدف إيجاد حالة تضامن شعبية حول العالم تضغط على حكوماتها وتجبرها على الانصياع للحق والعدالة.
ميزة المقاومة السلمية أنها تستطيع أن تحشد كل الطاقات الإنسانية ويمكن لأي شخص في أي مكان من العالم أن يمارسها من موقعه، كما قرر عمال الموانئ السويدية أن يقاطعوا السفن الصهيونية لمدة أسبوع.
المقاومة السلمية تستثير كوامن الخير في أعماق الفطرة الإنسانية، فالاعتداء على أسطول الحرية أوجد حالةً من التحدي والإصرار فسمعنا حتى لحظة كتابة هذا المقال عن عشر مبادرات لإرسال قوافل جديدة ، وسمعنا من مئات اليهود تعبيرهم عن الشعور بالعار من الاحتلال، كما أن هذه المجزرة استفزت الإعلامية الأقدم في البيت الأبيض هيلين توماس لمخاطبة الصهاينة بأن يغادروا فلسطين ويعودوا من حيث أتوا.
المقاومة السلمية قادرة على حشد التأييد العالمي، وهي الكفيلة بأن تعمق مأزق الاحتلال الأخلاقي، وفي المقابل أن تعيد إظهار الوجه الأخلاقي لقضيتنا العادلة في العالم بعد أن تلوثت بصور الاقتتال الداخلي من جهة وأكاذيب الاحتلال من جهة أخرى..
سمعت أن الاحتلال في سياق ردة فعله على الفضيحة فإنه يفكر في إقامة معرض يضم عشرات الصواريخ الفلسطينية، وصوراً للقتلى الصهاينة من أجل خلط الحق بالباطل وترويج دعاية مضادة يخدع بها العالم..
أجزم بأن إسرائيل تتمنى من الأعماق في هذه المرحلة أن يقوم الفلسطينيون بعمل عسكري ما لإنقاذها من ورطتها، وإعادة المعركة إلى المربع المريح لها: مربع المواجهة العسكرية حيث الفلسطينيون بعتادهم العسكري المتواضع في مواجهة آلة القتل الصهيونية الجبارة..
إن العاقل يختار ميدان المواجهة الذي يمتلك فيه عناصر قوة أكثر، وهذا ما ينبغي على الفلسطينيين فعله..
إذا كان عنصر قوة الاحتلال هو التفوق العسكري فإن عنصر قوتنا الأهم هو التفوق الأخلاقي وعدالة القضية التي نناضل من أجلها..
والله أعلى وأعلم..