أفكارٌ و ملاحظاتٌ حول الّلغةِ :

د. شاكر مطلق
- Dr.med. Shaker MUTLAK


( وردت هذه الأفكار و الملاحظات في إطار التعقيب الذي قدّمتهُ حول بحث أ . د. محمد محفّل – قسم التاريخ , كلية الآداب, جامعة دمشق , بعنوان " أصول الّلغة و الكتابة في المنطقة العربية " ,وكان قد قدّمه ضمن أعمال " الملتقى الفكري الثاني : رؤية علمية للتراث العربي الإسلامي " , الذي انعقدَ في حمص – سورية مابين 13 إلى 18 / 5- 1989 ) .

- إطلاق لفظُ لغويٍّ على شيءٍ ما , يشكّل الخطوةَ الأولى في عملية فهمه و التعامل معه , و مزجه في الحياةِ
الإنسانيةِ , لأن الأفكار و المعاني لا يمكن لها أن توجد إلا في رموزٍ يستحيل فهمها من دون الرجوع إليها مرةً أخرى , و أستطيع القولَ أنْ لا معنى لها و لا وجود لها خارج دماغ الإنسان .

- الُّلغةُ هي أهمُ مظهرٍ لوجود الجماعةِ و المحافظة على كيانها , بعد غريزة البقاءِ بالطبع , التي تحافظ على كيانها العضوي بل على وجودها الفِزيولوجي - المادّي من خلال دَرءِ الأخطار عنها , ودفعها لكسبِ أسباب العيش و الحفاظ على الحياة و بالتالي فهي من المظاهر الأهم لتطور الجماعة أيضاً , وأدّت , منذ أكثر من 500 ألف عامٍ في فترة إنسان الصين , إلى اكتشاف النار و إنتاج أدوات العمل و أخيراً إلى نشوء ما يسمّى بالحضارةِ .
هذه الرموز, التي تحتوي أو تشيرُ إلى المعاني , يسميها العالم الروسي الشهير " بافلوف " - صاحب المنعكس الشَّرطي الشهير - بـ ( الإشارات الثانية للواقع ) و يقْصرُ وجودها على الإنسان , في بحثه حول " العمل و المُخ " ,
و يصنفها في نطاق ما يسميه ( النظام الثاني للإشارة و العمل الخَلاق ) , و يشير ,- على سبيل المثال – إلى أنَّ كلمة ليمون تثيرُ , من خلال التصوّر , إفرازَ الّلعاب عند الإنسان لأنه يشكل عنده فعلاً انعكاسياً مشروطاً للنظام الثاني للإشارة , بخلاف ما هو الحال عليه عند الحيوان .
ورد هذا في الفصل السابع – ص 95 - من البحث أعلاه.

يقول " كارل ليفي ماركس " - في كتابه " رأس المال " جـ - 1 / موسكو 1961 , ص 178 - :
" إنّ ما يميّز أسوأ مهندسٍ معماريٍّ من أفضلِ أنواع النّحل , هو أنّ المهندس المعماريَ يقيمُ بناءَهُ في خيالهِ أولاً قبل أن يرتفع إلى الواقع ... " .
من خلاله نرى أن خاصة التفكير المجرّد , هي ميزةٌ يتّسمُ بها الإنسانُ فقط.

- العالم الروسي الشهير " بافلوف " – صاحب " المُنعَكس الشّرطي " - ، يقدّم في " الأعمال المختارة " , موسكو عام ؟ ,ص 285 , مجموعةً من الأفكار الهامّةِ حول الموضوع , أحاولُ تقديمها مبسَّطةً فيما يلي :
ترتبطُ عمليةُ التّأمل في الأفكار المجرّدة , ارتباكاً وثيقاً بالكلمة , أي بالجهاز المعقّد للكلام , و هو من أهمّ ما اكتسبه
الإنسانُ التاريخي خلال عمليّة العمل الجماعي , حيث تُشكلُ الّلغةُ التّوسعَ غير العادي للذّاكرة , التي تفقِدُ , في الُّلغةِ،طابعَها الفرديَّ لتصبحَ ذاكرةَ الجماعةِ .
الكلام يشكّلُ الآن إشاراتِ الإشاراتِ , أي الإشاراتِ عن العالمِ المحيطِ بنا , و هي إشاراتٌ ثابتةٌ و محدّدةٌ , بخلافِ تلك الأخرى الموجودةُ في نظامِ الإشارة الثاني , من كلامٍ وكتابةٍ و رسمٍ و عدٍّ ...

- " لينين " يدعو , في ملاحظاتهِ الفلسفيّةِ , إلى فهمِ انعكاسِ الطبيعةِ في الفكرِ الإنسانيّ على أساسِ بروز التّناقضاتِ و على أساسِ حلِّها .
هذه التّناقضاتُ الداخليةُ هي مميزةٌ لنظام الإشارة الثاني ( عند بافلوف ) الذي يشكلُ الأساس الفزيولوجي للإدراك , أي للوعي أو الأفعال الواعية , و بالتالي للسلوك الإنساني بعامةٍ .
هذا الوعي, الّذي هو في المحصّلة – حسب رأيي – نتاجُ المادّة في أرقى أشكالها تنظيماً , يتمُّ من خلال عملية المَنطوقِ , ضمنَ ما يسميهِ " أ . سامو يلوف " بالإيقاع الفزيولوجي الدَّوريّ لموجات الإثارةِ , أي لما يسمّى بـ :
" الفونيم " ( وهو الوحدة الصوتية , أي الصوت الثابت في الكلام المتشكل من مجموعةٍ من " الفونيمات " , و هي ظاهرةٌ فزيولوجيةٌ معقدةٌ , و فعلٌ انعكاسيٌّ سمعيٌّ- صوتيٌّ خاصٌّ في ( المجموعة الَّلغوية ) الموجودة في كلِّ لغاتِ العالم , الّتي هي في المقام الأول متتابعاتٌ محدّدةٌ لمجموعةٍ من " الفونيمات " , التي يتراوح عددها في الكلمة الواحدة من ( 1 – 16 ) , و بمتوسط 8 فونيمات , و التي لا يزيد عددها في لغات العالم عن 50 " فونيم " , و حيث يتكون المقطعُ فيها – أي في الّلغةِ – من عدّة وحداتٍ صوتيةٍ ( فونيمات ) , يتراوح عددها عادةً من ( 2-3 ) , وحيثُ تتكون الكلمة فيها – و هي العنصر الأساسي في الإعلام – من عدّة مقاطع .
إنّ ما يستعملُ في الكلام و الكتابةِ يشكّلُ حوالي 2000 – 2500 كلمة , بما فيها كلمات الوصل , مثل حروف الجر
و الضمائر و أسماء و حروف الوصل , للتعبير من خلال حوالي 100.000 كلمة معبّرة عن المعنى .

-الغرانيم ( وحدة الكتابة ) يتطلّبُ في عمله مشاركةَ الأفعال الانعكاسية المشروطةِ البصريّة , ذات الأساس الفزيولوجي للّغة المكتوبةِ , وهو فعل انعكاسٍ بصريٍّ – حركيٍّ , كما هو ( الفونيم ) فعل انعكاسٍ سمعيٍّ – حركيٍّ .

- هناك ارتباطٌ بين تطوّر الكلام و الشّغلِ أشارِ إليه " فريدريش إنجِلز ", في مسألة ارتقاء النّوع , أي أنّ مرحلة التحول و التّطور في الكلام – بسبب ظهور مجالات عملٍ جديدةٍ : علوم فضاء , ذرّة , كيمياء , فيزياء الكم الخ . .. لم تنتهِ بعدُ , لأنّ عملية الشّكل التي تنتمي إلى نظام الإشارة الثاني , يقعُ أساسُها بالفعل في النظام الأوّل .
هذه العملية , التي لا تزال مستمرةً – إذن – تسمح لنا بالحكم على شخصية الإنسان من خلال قدْرتهِ على خلْقِ شيءٍ جديدٍ , بخلاف الحيوان الّذي لهُ ذاتيّـتهُ, و لكن ليست لهُ شخصيتهُ – تحضرني الآن 6 / 2010 مقولة المفكر الألماني " مارتن هايدغَر " حول الكيْنونة : ( الكائنات تكون , و الإنسان يوجد ) - ، وبالتالي فإن التأثيرَ الإيجابيّ لأداء المراكز المخيّة العليا يكون من خلال عملية النشاط العملي , كما تقول الماديّة الجدليّة بخلاف , ما تقولهُ الفلسفةُ المثاليّةُ , التي تعتَبرُ الفكرةَ هي الأولى و ترى بأنَّ الوعيَ خبرةٌ داخليّةٌ و ليس هو أحد وظائف المُخ التي تعكسُ الواقعً الماديَّ .
=====================
E.-MAIL:mutlak@scs-net.org