قراءة في عشر قصص قصيرة جدا للقاص المغربي إسماعيل البويحياوي




نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
القاص إسماعيل البويحياوي


د مسلك ميمون

إسماعيل البويحياوي ـ كما عرفته ـ رجل في رجلين . رجل في الحياة ؛هادئ متزن بشوش طلق دائم الابتسام و الإشراق ، صاحب مستملحات و طرائف ، محب لأصدقائه تبلغ به الرقة و الوداعة حدا تدمع عيناه و رجل ثان مختف متوار ،لا يظهر إلا في الكتابة لا يمت للرجل الأول بصلة ، يتقمص دور السّارد ، و يلج بالمتلقي عوالم العمق و التساؤل ، في الذات والمجتمع والكون
يقول عن نفسه في حوار أجراه معه القاص عبد الله المتقي : (إسماعيل البويحياوي الإدريسي من مواليد 1960 بقرية من قرى خميس الزمامرة بدكالة، ترعرع برباط يعقوب المنصور في حضن عائلة بدوية هو ابنها البكر المدلل، رغم أنها لا تملك سوى الحب البسيط و الكد الدكالي المشهور من أجل لقمة الخبز. كان والده المرحوم يريد أن يكون ابنه حافظا للقرآن الكريم ، لكن نصيحة الفقيه جعلته يغير رأيه ويرسله للمدرسة العصرية فتغير مسار حياته.خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تتلمذ فيها لكبار الأساتذة والنقاد والشعراء والكتاب والمثقفين المغاربة والعرب. أنا رجل جدي جدا يقدس الواجب حتى سدرة التعب ،غاوي عشق واقتناص مناسبات اللّمة والفرح واللقاءات مع العائلة والأهل والأصدقاء. أحب لحظات الخلوة والتأمل والرياضة والمشي على شواطئ البحر والطبيعة والسفر. )
صدرله :
ـ أشرب وميض الحبر " الصادرة عن منشورات الديوان ( 2008)
و" طوفان " التي نشرها في القاهرة عن سندباد للنشر والإعلام (2009) ،
و مجموعة قطف الأحلام ـ التنوخي للطباعة والنشر و التوزيع المغرب(2010)

عن علاقته بالقصة و الكتابة يقول :
(أوّل نص قصصي كتبته بعنوان " رمان عويشة ". بعدها وجدت نفسي أكتب القصة القصيرة جدا من قلبي وذاتي وخيالي. خلطة ذات وقلب وخيال..
أكتب استجابة لحاجة داخلية أولا...أكتب لقارئ مفترض أتخيله عارفا أو راغبا في المتعة و المؤانسة و المعرفة الإبداعية. عاشقا للعبة معانقة الحروف وفك الرموز وارتحاق مكنوناتها والانغماس في عوالم التخييل السامية. )
أمّا عن القصة القصيرة جداً و تسميتها فيقول :
(أنا أراها طوفاناً مختزلا في قطرة ماء.. تبرق و تزخ قطرات ماء زلال يختزل العالم والإنسان بسعة القلق والغابة والحلم . أعتقد أن تعدد الأسامي صحي جدا ويعكس غنى وتعدد ما يمكن تسميته متغيرات القصيرة جدا أو تحققاتها النصية المستعصية على الجمع في سلة واحدة. بعضها قصة صغيرة جميلة وارفة العناصر القصصية، وبعضها قطرات متناهية في الكثافة، وبعضها ومضات تلتمع معاني ودلالات وحقائق في كل اتجاه.، وبعضها توظيف للنكتة وتعدد معاني الكلمة. وأرى أن قوتها في انفتاحها وارتحاقها من كل الأجناس عبر خرمها الإبداعي القصير جداً الذي لابد أن يترك أثره.
يساعد الحذف والإضمار والاختزال على كتابة القليل والأقل الذي يقول الكثير والأكثر. ويساعدني على تسريع الإيقاع القصصي ، وخلق المفارقة وتحقيق الومض ومنح القارئ فرصة المشاركة في بناء المعاني والدلالات والمقاصد وتأويلها. . لكنني لا أكتب ما أراه أو أسمعه مباشرة. لا بد من عملية اختمار. )


*

(1)

أضغــاث

و أذلك الحاكم الظالم و الجوع العارم، فتوضأت ، و صليت ، و أقمت الليل .
و عند بؤبؤ الفجر تجلى لك اليقين من منامات السلف الصالح .إثرها تهللت أساريرك و أنت تهوي من رحم رؤاك تمضغ
أ
ل
ف
س
ؤ
ا
ل
.
.
.



الق ق ج عند الأستاذ إسماعيل البويحياوي ذات نفس غرائبي تجريبي. تقيم مفاصلة مع المعتاد و المتداول ، و تنصهر في بوتقة خليط من الرؤى، و الأحلام، و التّجريد، و الخيال الذي لا يحده ،و لا تنهيه ضفاف . و من تمّ جاءت نصوصه ذات نسقية متمردة على المألوف . نص ''أضغاث'' من النصوص التي تبدو عادية لأنّها تمتح من التراث : ( الحاكم ، السلف الصالح ..) و من الدين ( توضأت ،صليت، أقمت الليل، الفجر، اليقين .. ) و على مستوى الألفاظ القديمة أيضا: ( الظالم، العارم،البؤبؤ، تهللت، أساريرك،تهوي ..) و تلك خاصية تكاد تكون عامة في نصوص البويحياوي فهو إن اعتنق التجريب كنهج فلم ينسلخ عن قيمه و مبادئه و تراثه، بل يرمي إلى أن يكون التّجديد و التّجريب في صلب اللّغة مع تثويرها. و من ذات الرموز الدينية مع حسن توظيفها . و مع التّراث في دلالته النّهضوية .. دون رسوخ في متاهات الجمود و التّقديس ..
النّص يبدأ بواو العطف إشارة إلى كلام معطوف عليه محذوف.يرى السّارد لا داع لذكره ، و من واجب المتلقي استعادته ،و فهمه، في إطار تراكبي ، و فهم عام للنّص .
هناك ظلم و جور و استبداد و قهر .. و هناك فقر و شظف عيش و جوع ، و لا يملك المغلوب على أمره إلا التّوسل،و التّعبد، و الصّلاة ، عسى الله يكلأه بلطفه و رحمته ..و جاء الفرج ـــ كما اعتقد ـــ مع الفجر، في شكل حلم من الأحلام ، من منامات رجالات الله الصّالحين ، فاستبشر المقهور خيراً. و أدرك أنّ في غياب الجميع بقي الله معه، فتهللت أساريره .و هو يهوي من رؤاه يلوك أ ل ف س ؤ ا ل في شكل عمودي يدل على الانسياب إلى الأسفل . و يبقى السّؤال : لماذا الانسياب إلى الأسفل ؟ و لماذا لم يكن الارتقاء إلى الأعلى ؟ و لماذا المقهور يمضغ ألف سؤال و هو يهوي ؟
ذاك ما ينبغي أن يصل إليه المتلقي . فنصوص البويحياوي تثير الأسئلة و لا تهتم ببسط الأجوبة. و هذا من عناصر الحداثة في الفن الأدبي و في القصة بخاصّة .
و حتى ندرك بعض خفاي النص . نمضغ نحن أيضا بعض الأسئلة : هل طرح النّص أسباب ظلم الحاكم ؟ لا . هل واجه المقهور الظلم بمقاومة ؟ لا . هل زماننا زمن الرؤى الصّالحة و المعجزات ؟ لا . أمام هذه اللاءات ، و انعدام الاستجابة لقوله تعالى : ( و قل اعملوا..) يبقى من الطبيعي أن يهوي المقهور إلى الدرك الأسفل من الذّل والهوان . و تبقى الأسئلة هي الأسئلة ..و عملية الانتصار على الحاكم الظالم أو القضاء على الجوع .. مجرد أضغاث أحلام ليس إلا .

*

(2)


أركيولوجيا رؤيا

حكى ابن الجوزي في '' سلوة الأحزان '' أن إبراهيم التّميمي كان إذا سجد تسقط العصافير على ظهره تحسبه قطعة حائط لطول سجوده و كثرة خشوعه .
يعرف راوي الرواة أن إبراهيم خلف أبناء و حفدة أعبد و أحلم .
تمرّ الأيّام . يبني الحكام على ظهورهم قصورا فخمة ..تختال الدبابات و الطائرات و ي ت م ز ق الوطن
طبعا يطول السجود
و يحلو الخشوع
حتى أخمص
الرؤيا .


الإركيولوجيا هو علم الحفريات و التّنقيب و البحث..كأرحيولوجيا الشّعوب الأصلية مثلا Indigenous archaeology و منها أيضا أركيولوجيا المعرفة ، و و الأدب و اللغة و الفكر و المصطلح ...و في الأدب هو البحث عن الدلالة و المعنى داخل النّص ، فهو عملية كشط و تنقيب أمّا الرؤيا جمع رؤى ما يراه النائم عكس رؤية بمعنى وجهة نظر . إذاً نحن بصدد الحفر في الرؤيا/ الحلم . من خلال ما حكاه ابن الجوزي في '' سلوة الأحزان ''
الشّخصيات في هذا النص :
ابن الجوزي : ابن الجوزي، هو أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي التيمي البكري. فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم (510هـ/1116م - 12 رمضان 592 هـ) ولد وتوفي في بغداد. حظي بشهرة واسعة، ومكانة كبيرة في الخطابة والوعظ والتصنيف، كما برز في كثير من العلوم والفنون. يعود نسبه إلى محمد بن أبي بكر الصديق. '' و يكبيديا ''
إبراهيم التميمي: ناسك متعبد .
راوي الرواة : رمز للتاريخ .
الأبناء و الحفدة : مَن نهجَ نهْج إبراهيم التميمي و أكثر .
الحكام : رمز الظلم و الاستبداد و القمع ..
النّص يجعلنا أمام رؤية تاريخية. و يدفعنا فنيا لمارسة فعل التنقيب في الرؤيا /الحلم و يظهر ذلك الفعل التّاريخي في التّالي : (حكى ابن الجوزي ــــــ يعرف راوي الرواة ــــ تمر الأيّام ــــ ) التاريخ لا يرحم فهو يحاصر الفعل الإنساني و يدونه و يشهد على الحدث و يوثقه ..فإبراهيم التميمي/الرمز، الذي استغرقته العبادة لدرجة التفاني خلّف أبناء و حفدة بالغوا و ازدادوا في المبالغة فاستسهلوا على الحكام و استغلوا أبشع استغلال و بنيت من خضوعهم و دروشتهم و استكانتهم قصورا شامخة / رمز البذخ . قاد ذلك كلّه الوطن إلى الهاوية حين عثت دبابات و طائرات العدو خراباً و دماراً، فمزّق الوطن ، و أهين الشّرف و انتهكت الأعراض و دنست المقدسات .. و مع ذلك ظل إبراهيم التّميمي يعيش في أبنائه و حفدته لأنّه شكل رؤيا/حلما و سعى إليه. و صار ذلك غاية لدى الأبناء والحفدة . ''و طبعاً يطول السجود و يحلو الخشوع حتى أخمص الرؤيا .''
النص إذا عملية انتقاد للوضع السّكوني الذي يجعل من الحياة أحدية البعد. محدودية الجانب .. و يثير الأسئلة . هل نحن في زمن إبراهيم التميمي؟ و هل نحن في حاجة لتعبد صوفي ؟ و هل زمننا ووضعنا المتردي بين الأمم ، يسمح أن ننقطع إلى غاية و نهمل باقي الغايات الأخرى ؟ و ما رأي الدين في ذلك ؟ إن عملية أركيولوجيا هذه الرؤيا تبين أن التّطرف في كلّ شيء ليس من الدين ، بله الحياة.و النّص مع ذلك قابل لتحميل دلالات أخرى . لأنّه ليس من النّصوص المعيارية التي تنحصر فيها الاحتمالات الدلالية في معنى واحد . ما يعرف في المصطلح الأصولي ب ( قطعي الدلالة ) بل على العكس من ذلك فطريقة الكتابة عند البويحياوي تسمح بتعدد القراءات ..

*

(3)

الوطـــن

تخيل أنك ، وفقاً لحلمك، الذي أصاب كبد الاحتمال،استنفدت صلاحيتك كمواطن صالح . تخيل قتلوك أو نفوك أو ما لا تريد معرفته..تخيل أسعفك حلمك في اختراق مئات التقلبات..أنك فعلا هناك في سراديبك تحكي لحواسك عن ميلاد وطن الباطن و فضاعات عصر الوطن الحجري البائد الذي كنت من آخر ضحياه .


قصيصة تختلف في أسلوبها . السارد لا يحكي و اقعة ما بل يحمل المتلقي على التخيل: ( تخيل أنك .. تخيل قتلوك ..تخيل أسعفك حلمك ....) فخاصية التّخييل تتلبس فكر القاص في كلّ إنتاجه القصصي . و يؤمن أن العملية الإبداعية إنما تتبلور في ردهات الخيال لانتاج الحقيقة التخييلية المتقصدة . و التخييل fiction أعمّ و أشمل من الخيال Imagination لأنّه يعني كتابة فنية لا تعكس الواقع مباشرة أو غير مباشرة
و إنّما خلق و إبداع جديد برؤية مختلفة لا أساس و لا صلة لها بمرجعية واقعية . و هو ما نجده في كتابة البويحياوي و لقد صرح بها هنا في هذا النص . فدعوة السّارد إلى التخيل دعوة فنية صرفة لا علاقة لها بما هو واقعي و ذاك هو المبتغى لنتأمل :
1 ـــــــ [ تخيل أنك ، وفقاً لحلمك، الذي أصاب كبد الاحتمال،استنفدت صلاحيتك كمواطن صالح ]
2 [ تخيل قتلوك أو نفوك أو ما لا تريد معرفته ]
3 [ ..تخيل أسعفك حلمك في اختراق مئات التقلبات..أنك فعلا هناك في سراديبك تحكي لحواسك عن ميلاد وطن الباطن و فضاعات عصر الوطن الحجري البائد الذي كنت من آخر ضحياه .]
و الأسئلة التي قد تثار بسبب التخييل و لا تثار بغيره في النص المعياري :
ـــ كيف تستنفد صلاحية المواطن الصالح ؟
ـــ كيف يمكن مع الصّلاح تخيل القتل أو النفي ؟
ـــ كيف يمكن للمخاطب أن يحكي لحواسه عن ميلاد وطن الباطن ؟
ـــ و ما المراد بوطن الباطن ؟
و من هذه الأسئلة و غيرها تنثال الرؤى في أقيانوس التّخييل الجميل الذي يتشكل تشكلا مختلفا، كالتّخييل الرمزي، و الفانطاستيكي، و الأسطوري، و التّاريخي، و الشّاعري، و الواقعي، والرمانسي ...
و هنا في هذا النص وظف التخييل الرمزي و نجده في التالي : تخيل ؛ ثلاث مرات . الحلم ؛ مرتان .الوطن ؛ مرتان : و طن الباطن و الوطن الحجري .

*

(4)

بيعـة الأحلام

الراوي الأول
و في الساحة العامة أشرف الحاكم بنفسه على إحراق رجل أصابه مرض الحلم بسقوط الإمبراطورية .
الراوي الثاني
و شاع بين الرعية أنّ العديد ممن أصيبوا بوباء الأحلام الشيطانية أبعدو إلى الجبال .
الراوي الثالث
و انتهت المحنة باحتفال أسطوري بانتصار الإمبراطور على الجائحة .
الراوي الأخير
و عاش الناس حتى شاهدوا الإمبراطور حافيا عاريا راكعا يبايع الأحلام المتوحشة تربعت على عرش المملكة.


نادرا ما يكون في الق ق ج رواة متعددون (أربعة ) . و نادرا ما يحدث هذا الكم من الأحداث المتوالية : ( إحراق رجل ) + ( الإصابة بحلم إسقاط الإمبراطورية ) + (إشاعة الخبر بين الرعية ) + ( الإبعاد إلى الجبال ) +( الاحتفال الأسطوري ) + (انتصار الإمبراطور على الجائحة ) + ( مشاهدة الإمبراطور حافياً عارياً ) + ( مبايعة الأحلام المتوحشة ) + ( تربع الأحلام على عرش المملكة ) حقا جاء ذلك في شكل ومضات سريعة ، و في إيجاز بلاغي ، و تكثيف لغوي ، نسقية من التّخييل الرمزي ( الرواة ، مرض الحلم : الشيطاني و المتوحش،الإمبراطور، الجائحة، )
و الفحوى يترجم المقولة ( دوام الحال من المحال ) فالحاكم المستبد الذي كان يحضر إحراق معارضيه الذين كانوا يعملون لإزاحة نظامه. و الذي حسب أنه قضى قضاء مبرماً على جذور المعارضة. سرعان ما شاهد الناس الأوضاع تتغير و يصبح الحاكم المستبد( الإمبراطور ) حافيا عاريا يبايع المعارضة التي استولت على دواليب الحكم . و من تمّ ينتصر النّص للمستضعفين في نضالهم و استماتتهم . من أجل إحقاق الحق .

*


(5)

كثافــة
في تلك الليلة تعطل قلمي. كنت في مكتبي، جبلا عجوزا تورم شموخه.. غادرت مرتفعاتي و تسللت إلى دواخلي ..
هكذا وجدت نفسي أغني مع الشعراء يصدحون في شراييني ، و أصفق للرواة يوزعون دفقات قلبي على الحالمين و العذارى و المحرومين .
ثمّ لاحت لي كريات عجيبة بعيدة . كثفت نفسي أناغي أدق أليافي . كنت أتضاءل ، أتضاءل، و أتضاءل .
لحظتها أفقت طفلا
خفيفاً رشيقا
وامضاً
أقطر
قصصاً
قصيرة
جداً .



الكتابة عن هذا الفنّ الجميل لم تعد مقتصرة على الباحثين و النّقاد . بل ساهم فيها المبدعون أنفسهم مثلما فعل القاص الأستاذ حسن البقالي في مجموعته ( مثل فيل يبدو عن بعد ) و هو يقصد بذلك الق ق ج . و يأبى القاص إسماعيل البويحياوي إلا أن يساهم في هذا الاتجاه بهذا النّص الذي هو سيرة تحول فسيولوجية غريبة (الكاتب) من جبل شامخ يعانق السحاب ارتفاعاً إلى تورم ، و عجز، و مغادرة للمرتفعات الشاهقة ، و الانكفاء إلى الداخل، إلى سماع صدى الشرايين، و الاحتفاء بدقات القلب من أجل الحالمين و العذارى و المحرومين .. و في قمة هذا التّحول الإبستملوجي البنيوي .. تجلت كريات صغيرة عجيبة ، أغرته بالتكثيف condensation ، و الالتفاف، والإضمار ..في مناغاة للألياف الباطنية فشرعت عملية التضاؤل كمسيرة قدرية حتمية . و فجأة ؛ كانت قمة التحول، الطفولة ، و الخفّة، و الرشاقة، و الإماضة ، و كانت القصص القصيرة جداً .
إذاً؛ التّحول في الحجم، لم يأت من ذات نفسه: رواية ، قصة ،قصة قصيرة، ق ق ج . و إنّما كان التّحول بدء من المبدع الذي له الفضل في كلّ هذه الأجناس و هو تحول إلى الداخل لاستنطاق ذرات الذّات ، في عملية مساءلة ذاتوية خالصة سرعـــان ما أصبحت وميض إشارات تشع هنا و هناك في إطار نظام إيحائي connotative و ذلك بفضل التّكثيف اللّغوي، أو الدّلالي،أو البنائي ، أو التّجريدي ، أو السيكولوجي أو عن طرق الحذف و الإضمار ..أو توظيف الرمز..
يرى فوكو أن ( الإشارات التي تؤول لا تدل على الخفي إلا بمقدار ما تشبهه) كما يرى النفري في باب التّكثيف و الإيجاز : ( كلّما اتّسعت الرؤية ضاق الكلام ) .و حين يأتي هذا النص حاملا عنوان : الكثافة ، و موضوعياً يقصد الق ق ج ، فذاك يدلّ على أنّ من أبلغ سمات هذا الجنس : بلاغة التّكثيف. كما هو في هذا النّص المعبر.

*


(6)

المـــوت

طائرات و دخان و أنقاض
ثم صبية في حضن أم نازفة.
يبرد ثدي الأم، تبكي الطفلة.
ثم تخترقان خط الموت .
.................................
تستيقظ القصة من كوابيسها المتلاطمة ،
تهرع إلى السّارد
فلا تجد سوى
ج
ث
ة
ح
ز
ي
ن
ة


نص ''الموت'' يعود بنا إلى التّخييل . النّص يشهد على موت صاحبه.نوع من الكتابة الغرائبية : السّارد يتحدث عن طائرات حربية تقوم بغارات فتخلف دخاناً و أنقاضاَ ..وصبية صغيرة مذعورة باكية ..في حضن أم جريحة ينزف دمها بغزارة.سرعان ما تفقد حرارة الحياة .. وفجأة يأتي الدمار الأكبر .. و لا شيء بعد ذلك إلا الدخان و الأنقاض ...ماتت الأم و طفلتها ..و لم يعد هناك من يتم السّرد ..( تستيقظ القصة من كوابيسها المتلاطمة ، تهرع إلى السّارد
فلا تجد سوى جثة حزينة ) الكلّ أصبح ضحية الهمجية و البطش و الغطرسة .. و هذا ما نلحظه في الحروب الظالمة إذ فضلا عن الضحايا من المواطنين الأبرياء هناك ثلة من الصحافيين الذين يستشهدوا فداء الواجب .

فنيـــا :

1 ـ يلاحظ أن طريقة الكتابة جاءت تعتمد الصّورة المكتوبة من حيث الشّكل.
إذ ينقسم النّص إلى قسمين قسم يتولاه السارد فيحكي وضع الدّمار و الدّخان و وضع المرأة الجريحة و ابنتها إلى أن يكون الدّمار فاصلا بين الحياة و الموت و عبر عنه بنقط متوالية .................
ثمّ يأتي القسم الثّاني من النّص فيسرد بواسطة سارد و فاعل افتراضي sujet virtuel، يتحدث حديثاً غرائبياً عن النّص و كيف شهد استشهاد صاحبه فأمسى جثة حزينة .
2 ـ ( جثة حزينة ) و كيف كتبت أحرفا مستقلة في شكل عمودي رمزا للانحدار إلى النهاية و الموت .
3 ـ توظيف حروف العطف خمس مرات : الواو(2) ، ثم (2)، الفاء
4 ـ مزاوجة بين الجمل الفعلية (5) و الجمل الاسمية (3)
5 ـ القفلة من النوع الصادم المفاجئ .
همسة : العنوان جاء مطلقاً ( الموت ) و لكن الموت في النّص له خصوصية الاستشهاد، و التّضحية و الرّمز.. و ليس موتاً عادياً طبيعياً و إن كان مهما تغيرت الأسباب فالموت واحد .

*

(7)

أمي و ابنتي

كانت أمي تحضن بنتي.التفت إلي و سقتني نظرة أيقظت الطفل المنسي في .
أبوكِ الكهلُ هذا ابني . لعب هنا حتى كبر .ابني أنا .و وضعتْ رأسي على صدرها .و بينما أنا في الحضن ، الذي في الحضن ، غمست يد في شعري ، فتحرك في دواخلي دفء حليب دافق على شفتي. لحست شاربي . و تنسمت شذى الجنة ، و أنا أراني هناك بعيداً بعيداً أحمل بين يدي صبية كأنها أمي أو بنتي.


نص ''أمي و بنتي'' يعود بنا إلى الحميمية التي يجدها القاص في الحديث عن الأهل و الأسرة . إذ ترق العبارة , و تحلى التراكيب، و يتجلى الدفين من المشاعر ، و تنثال الومضات الصادقة متلاحقة في عذوبة و نسقية أثيرة . ( كانت أمي تحضن بنتي.التفت إلي و سقتني نظرة أيقظت الطفل المنسي في . ) هذا الطفل الحاضر الغائب الذي يبقى ما بقيت الأم . لأنها تأبى أن ترى ابنها كبر و لو صار كهلا (أبوكِ الكهلُ هذا ابني . لعب هنا حتى كبر .ابني أنا .و وضعتْ رأسي على صدرها ) يا لعطف الأمومة ! و يا لحبها السامي ! ذلك العطف و الحب الذي يبقى ما بقيت .. و هو في حضنها الدافئ بالحنان الذي ليس بعده حنان أحسّ إحساساً غريباً فقال:( غُمستْ يد في شعري، فتحرك في دواخلي دفء حليب دافق على شفتي. لحست شاربي. و تنسمت شذى الجنة . ) ثم طار به الخيال ، إلى عوالم الطهر و الجلال، إلى حيث ما لا عين رأت و لا أذن سمعت (أراني هناك بعيداً بعيداً أحمل بين يدي صبية كأنها أمي أو بنتي. )

فنيـــــاَ :

1 ــ من خلال هذا النص نشعر بروح التجديد في الكتابة . فالكاتب لا يكرر نسقية نصوصه، و لا يعمد إلى القالب الجاهز Stéréotype. و هذا يبدو واضحا من خلال النصوص السابقة.
2 ــ التناص أو التنصيص la textualité و نجده في '' و تنسمت شذى الجنة '' و و في هذا تلميح للحديث النبوي : عن معاوية بن جاهمة ان جاهمة جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت أن أغزو, وقد جئت أستشيرك فقال هل لك من أم؟ قال نعم,, فقال فألزمها فإن الجنة عند رجلها رواه النسائي وابن ماجة, وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله قال أمك حية ؟ قلت نعم قال صلى الله عليه وسلم ألزم رجلها فثم الجنة رواه الطبراني .
3 ــ توارد نسقية التخييل من خلال إستراتيجية الإيجاز و الانزياح : (التفت إلي و سقتني نظرة أيقظت الطفل المنسي في...غمست يد في شعري ، فتحرك في دواخلي دفء حليب دافق على شفتي.)
همسة : يبدو : ( التفت إلي و سقتني..) هفوة رقن و أصلها التفتت إلي ثم هناك هذه العبارة التي تبدو مقحمة و ليست في النص (الذي في الحضن )

*

(8)

دمعة القصة

انحنيت على جثة أبي ألف وجهه بنظرة فراق . سقطت مني دمعة. فتح عينيه النديتين في عيني.
عانقني طويلا.
قبل جبيني
و دس
دمعة
وقصة
في
كفي
.
.
.


النص كسابقيه ينتمي إلى مجموعة ( قطف الأحلام ) ص50 بسيط و واضح على عكس كتابة القاص التي تتسم في الغالب بالعمق و التكثيف ، لدرجة الإبهام أحياناً .
أنّ ذكرى السيد الوالد و هو يحتضر ، ذكرى مؤلمة ، يشق على الإنسان أن ينساها أو حتى يتناساها. إنّه الوالد ، الرجل الذي أعطى بغير حساب، و ناضل من أجل أسرة ليضمن لها العيش الكريم ، و الحياة الطيبة ، و الذكر الحسن. استرخص كل شيء ليكون الأبناء أحسن منه في كل شيء ، بل و ربما أحسن من غيرهم .. هذا الوالد ، الآن يفارق الحياة : منهاراً ، ضعيفاً، أنهكه المرض ، و أذابته المعاناة ، و لكنه راض بما قدم ، و ما أنشأ ، وما خلف .. و إن كانت لوعة الفراق شديدة و مضنية ، تأتي على لسان السارد المشارك : (انحنيت على حثة أبي ألف وجهه بنظرة فراق، سقطت مني دمعة ، فتح عينيه النديتين في عيني ، عانقني طويلا ، قبل جبيني . ) و كان الفراق، و كانت دمعة الحزن الأبدية ، بين أصل يودع الفرع ، و فرع يودع الأصل في دوامة حياة ما تنك تدور و تدور و لكن في دورانها تبقى دمعة وقصة ( ودس دمعة وقصة في كفي ) دمعة حزن و وداع للأحبة الذين لا يعوضهم أي أحد أبداً . و قصة حياة عيشت بمراحلها معهم و بقربهم بحلوها و مرها و فرحها و غبنها إنها القصة التي تسكن تلافيف الذكرى، وتأتي بالحزن و الألم ليذكر الإنسان أنه من ذاك الأصل الذي قضى و انتهى ...
همسة في الأخير : وجدت كلمة ''جثة '' و '' فتح عينيه النديتين '' غير منسجمتين و بخاصة أنه تستعمل (جثة ) للميت فماذا لو كان النسق التعبيري : ( انحنيت على أبي و هو يحتضر )

*

(9)

لوحة الحلم

صادروا اللوحة ..
ماتت الورشة في العتمة ..
و تعب الرسام في التسكع في الحزن..
ثــــم
يقتحم سجن الفن الإجرامي .
يعتصم معانقًا لوحته.
يطوقه الحراس
لا يستسلم .
طلقة واحدة
و تنساب دماؤه
في صربة ألوان لوحته
الــحــــالـمــــــة


''لوحة الحلم'' نص يبلور حرية التعبير فنية . هذه الحرية المستلبة التي يتغنى بها الجميع كحلم جميل ، و لكنها تنتهك ، و تحارب يوميا و في مختلف أصقاع المعمورة ، رغم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان و منذ ستين سنة و رغم منظمة العفو الدولية.. و إن كانت الانتهاكات في دول العالم الثالث أبين و أوضح في كل مجالات الحياة. سواء منها العقائدية أو السياسية أو العرق و الجنس و اللون أو اللغة و الأصل القومي و الوضع الاجتماعي و الاقتصادي ..فحرية التعبير هي الخط الأحمر الذي يضعه المستبد ، و لا يسمح بتخطيه أبداً لأنّ وجوده و كيانه مرتبط أساساً بصوته النافذ . فلا يريد صوتاً منافساً يعلو على صوته و لو بالحق .
ففي النص نحن أمام رسام مبدع /رمز حرية التعبير. صودر انتاجه و أتلفت ورشته ،( ماتت الورشة في العتمة ..) و عاش التشرد و الحزن ، فزج به في السجن و لكن ظل متمسكاً بحقه في التعبير( يعتصم معانقًا لوحته.) يضايق بشراسة و عنف و ( يطوقه الحراس) و يأبى ألا يرضخ و (لا يستسلم ) و نتيجة عصيان المستبد أن يتلقى الرسام ( طلقة واحدة وتنساب دماؤه ) تخضب لوحته الحالمة .

فنيـــــــــا :

1 ـ نص ينسرب من قبضة القاص المتشددة ، في توظيف اللغة و الإيحاء و الرمز . و يأتي رشيقا منسابا بلطف و حركية لتوظيفه جملا فعلية ( صادروا.. ماتت .. تعب .. يقتحم ...يعتصم.. يطوقه ..يستسلم.. تنساب .)
2 ـ اعتمد النص اللقطات المشهدية المتوالية كلقطات سينمائية .
3 ـ اقتصاد في حروف العطف ، ثلاثة فقط .
4 ـ قفلة من النوع الذي يثير الأسئلة الواقعية، و لا يحفل بالخيال .

*

(10)

حلم طارق
و عن حليم السراد،عن ضحايا الهجرة السرية .
و بينما نتراثى و نتباكى موتنا الجماعي البئيس طلع علينا طارق بن زياد. استلّ جثثنا المترسبة في قاع المحيط. أحيانا. أبحر بنا بعيدا . و هناك على ثغور دولة الخلافة البائدة أحرق قواربنا ثم خطب فينا:
من هنا
يبدأ
غزو
ا
ل
أ
ح
ل
ا
م
.
.


قصيصة تستفيد من نسقية التراث الديني و بخاصة عنعنة الأحاديث النبوية الشريفة : ( و عن حليم السراد،عن ضحايا الهجرة السرية .و بينما نتراثى و نتباكى موتنا الجماعي البئيس طلع علينا طارق بن زياد) كما توظف التناص textualité التاريخي لغزوة طارق بن زياد للأندلس ( إسبانيا ) و ذلك في الوصول إلى الضفة الأخرى و إحراق السفن و إعلان الجهاد أو الموت . ( و هناك على ثغور دولة الخلافة البائدة أحرق قواربنا ثم خطب فينا: من هنا يبدأ غزو الأحلام.) و إحراق القوارب يشابه ما يقدم عليه شباب الهجرة السرية الذين يحرقون أوراقهم هناك و يصبحون من جملة ( البدون ) بدون هوية .
و الغريب في هذه القصيصة هو مسألة التناص التي وظفت لصالح الهجرة السرية و اعتبار أرض الخلافة البائدة هي الأحلام التي ينبغي غزوها . كما جاء على لسان طارق/ النص . و من تم تبدأ المفارقة بين طارق /الفتح ، الذي حقق النصر و جعل الاسلام يستقر هناك ثمانية قرون . و بين طارق/ النص الذي قاد جيش الجثث المترسبة التي استلت من قاع المحيط و بعثت . لتقف على التخوم تستمع إلى خطبته يحثها من هناك أن تغزو الأحلام .
كم تمنيت أن حلم طارق يكون عكس حلم طارق/ النص إذ يقوم بعمل عكسي ينتشل الجثث المترسبة في المحيط و يعود بها حية إلى سواحل الشمال / طنجة و يلقي خطبته و لكن على الساحل المغربي. و كم سيكون جميلا و هاما و لو من باب التخييل حين يقول لهذا الجيش المغرر به : من هنا يبدأ غزو الأحلام .
لأن الأساس هو الوطن. فهو البدء و النهاية . لهذا تبقى القصيصة مثار تساؤل و نقاش و بخاصة فيما يتعلق بقفلتها résolution.

خلاصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ة :

كتابة الأستاذ إسماعيل البويحياوي القصصية التي تعتمد :الإضمار ،و الحذف ،و الإيجاز، و التكثيف ،و التخييل ...تستلزم نظراً ثاقباً للوصول إلى خباياها . و لكن من خلال هذه العشرية من مجموعة ( قطف الأحلام ) يمكن الخروج بملاحظات نجملها في التّالي :

1) ـ النصوص على اختلافها؛ موضوعا، و نسقا ،و لغة .. تكشف القدرة على الكتابة le pouvoir d'écrire
2) ـ التنوع في الأسلوب ، و عدم تكرار نمطية الكتابة ،و تجنب القالب الجاهز Stéréotype جعل النصوص في قلب التّجريب .
3) ـ قوة التكثيف و التّخييل .. جعلت النصوص تتسم بالتّعدد الدلالي Polysémie
4) ـ اعتماد الجرأة في بناء النّص على النظرية التّأويلية التّداولية التي تعتبر التخييل Fiction مظهرا من مظاهر التّواصل .
5) ـ اعتماد البعد البصري الكليغرافي calligraphique للنّص .
6) ـ حبذا التنويع في وظائف السّارد ، و وضعيته ، و رؤيته . مع العناية بالقفلة Résolution و علامات التّرقيم .
7) ـ المحافظة على بلاغة الحذف ،و الإضمار ، بدون إمعان أو إسراف لتحقيق الغاية من الخطاب الإيمائي Discours mimétrique

لا أعتقد أنني قلت كلّ شيء .لأنّ كتابة الأستاذ إسماعيل البويحياوي نادراً ما تأتي واضحة المعالم . فأغلب كتابته سديمية المعنى ،تتطلب جهداً قرائيا لفك رموزها ، و معرفة أغوارها ،و الوصول إلى مراميها ،و أهدافها ...كما أنّها كتابة متمردة على التّرسيمة المتعارف عليها . بل تخلق لنفسها ترسيمة مع كلّ نص جديد ،لأنّ سلطة التخييل و التّجريب مستحكمة ،تتحكم في القاص بشكل قوي و نافذ . فقد نتفق معه أو نختلف .. و لكن، لا نملك أنفسنا ، أن نقرّ بما لهذا القاص البارع، من موهبة خلاقة، و قدرة عجيبة على الكتابة المتنوعة الذكية ، التي تغري بالقراءة و التأّمل .



د مسلك ميمون