آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: لغة التحريض وشعرية الألم ب

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    29/09/2009
    المشاركات
    1
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي لغة التحريض وشعرية الألم ب

    دراسة نقدية في ديوان : الألم بين القلم والسيف
    للشاعر الأسواني : عادل بهنسي

    مقدمة



    منذ البدء كان الإنسان وبالتالي كانت الكلمة والمواقف الإنسانية التى تعبر عن كينونته وتشير إلى أدميته ، وتعبر عن مواقفه تجاه الكون والوجود بأثره ، فالإنسان هو حجر الزاوية في هذا الوجود ، ولذلك استحق أن يمنح شرف الخلافة على الأرض المباركة ، " إني جاعل في الأرض خليفة " . فمن هذا المنطلق العقدي والفلسفي أجدني مشدود ا على حبل المودة وحد السيف بين ألم و قلم ، يتوسطهما إنسان نبيل ، وشاعر ملهم طال انتظاره ، وها هو يطل علينا من زمن النبؤات ، شاعرنا الذي أعنيه في هذه الدراسة : عادل بهنسي ، الشاعر الجنوبي الذي يعيد لنا من جديد صياغة الحياة بنبض الشاعر وصدق المشاعر ورهافة الحس ، دون تسطيح أو ثرثرة ، وما قرأته من ديوانه الذي عرفته من خلاله " الألم بين القلم والسيف " يطمئن الناقد ، بأن الجنوب لايزال بخير ، وأن أبنائه ليسوا بأقل من غيرهم من أبناء الأمة احساسا بآلام أخوانهم في القومية خاصة والإنسانية عامة ، وما قرأته من الديوان يتسع لمقولات نقدية ثرة ، ويمكن تطبيق أكثر من نظرية للكشف عن مواطن الجمال في هذا الديوان ولكنني سأبدأ من أكثر الملامح الفنية بروزا في هذا العمل الذي سيكشف لنا عن مدى جدته وأصالته ليس بالمجاملة والقول النقدي المسطح المجامل ولكن الواقع التطبيقي هو الذي سينصف الديوان وقائله إن شاء الله تعالى . وسوف تكون البداية كما ذكرت منذ قليل من أبرز الملامح الفنية فيه وهو التناص .

    التناص":" Intertextualité" مصطلح نقدي حداثي يفهم من ترجمته العربية معنى "التفاعل النصي" ، ويرجح بعض الباحثين العرب أن أول من صكه: "جوليا كريستيبفا"( ) الباحثة السيميائية ، وكان ذلك عام 1969 ، التي تعرفت عليه من خلال بحوثها ودراساتها "لميخائيل باختين" الكاتب الروسي الذي تحدث عن "الحوارية": "الديالوج" في أعمال دستويفسكى ، حين تناول تعدد الأصوات دون أن يستخدم مصطلح التناص ، كما استخدمته "كريستيفا".
    والمصطلح من منجزات الحداثة- وشهدت ميلاده مرحلة ما بعد البنيوية ، وبخاصة السيميائية والتفكيكية ، وظهر واضحًا وجليًا في كتابات كبار الكتاب الفرنسيين أمثال "جوليا كريستيفيا ، ورولان بارت ، و تودروف ، وجيرار جينت "، وغيرهم الكثير.( )
    وأصبح من نافل القول البحث عن أصول المصطلح: إذ المنطقى والعقلانى يحتمان على من يتصدى لدراسة "التناصية" أو التفاعلية أن يدرك حقيقة هامةتقول "من ليس له ماض ، ليس له حاضر أو مستقبل" ، وأن الخلف ترتبط قدراتهم الإبداعية ، ومكوناتهم الثقافية بالسلف، لا يبالغ الباحث حين يردد ما ذهب إليه "لانسون" Lanson من أن ثلاثة أرباع المبدع مكون من غير ذاته"!( ) ، وبهذا النظر يكون منطلق البحث إلى ميدان التناصية الرحيب.
    وعودة إلى المصطلح في إطاره المعجمي نجد أن المفهوم بدأ شيئا فشيئا في الانتشار فمنذ عام 1972 ، دخل مصطلح التناص دخولا محتشما إلى الحقل المعجمي ، حيث نجد في ملحق المعجم الموسوعي لعلوم اللغة.
    Dictionnaire encyclopedique de sciences de langue,
    لمؤلفيه "أ.دكرو "Aswald Ducrot و "ت. تودروف Tzvetan Todorov " وبدأ "فرنسوا واهل Francois Wahl" الحديث عن التناص بوصفه شبكة صلات واسعة ذات مراتب متنوعة يقيم بها النص نظامه الخاص لقواعد اللغة المحددة سلفًا"( ).
    اهتمت "كريستيفا " في دراساتها بالوقوف عند مرحلة تأصيل المصطلح ، وبالطبيعة التفاعلية للنصوص؛ فالنص لديها لا يستقل بذاته ، وإنما هو مجموعة من تقاطعات وتشابكات لنصوص أخرى ، و يقوم النص الوليد بتشربها فتنداح في لحمته وهذا ما جعلها تقرر أن "كل نص كموازييك من الاستشهادات " ، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر ، يحل محل التناصية عمل "البينشخصية "( ) ، ويقرأ الكلام على الأقل ككلام مضاعف.( )
    وتشير "كريستيفيا" في تعريفها السابق إلى أن فكرة التناص مخبوءة في مفهوم الحوارية "Dialogisme " التي بحثها "باختين" في شعرية دستويفسكى De dostiovski Poetuqe عام 1963 بموسكو وترجمتها إلى الفرنسية : إيزابيل كوليتشاف( ) Kolitcheff Isabelle وقدمتها جوليا ، وصدرت الطبعة الفرنسية عن دار سوى Seuil عام 1970( ) ،
    جيرار جينيت: محاولات بحثية لتكريس مفهوم التناص:
    وأما الناقد الفرنسى" جيرارد جينيت Gerard Genette" " تناول التناصية في كتاب طروس أو أطراس.( ) Palimpses tes في عام 1982، متحدثا عن علاقة النص اللاحق بالنص السابق ، واهتم بنوع من المعرفة التي ترصد العلاقة الخفية والواضحة لنص معين مع غيره من النصوص ، يقصد بذلك "التعالي النصي" ، وسبق صدور هذا الكتاب محاولات بحثية جادة لـ "جينيت" لتكريس مفهوم التناص( ) " من خلال بحثه الدائب عن الشعرية "البويطيقا" التي تتجاوز فرادة النصوص الأدبية وتميزها ، الأمر الذي يهتم به النقد الأدبي ، لتعنى بخصائص الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي أو بعبارة أخرى تعنى بتلك الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي أي الأدبية"( )، وكتاب أطراس( ) "لجينيت" يعد عدولا عن آرائه السابقة حول الشعرية ، وتبنى فيه موضوعا جديدا هو التقنية المتعالية ، Transtextualité أو التعالى النصىTranscedence Textuelle de Texte وقد عرفه ابتداء وبصورة مجمله بقوله :كل ما يجعل نصا ما في علاقة ظاهرة أو ضمنية "خفية" مع نصوص أخرى"( ) ويتضمن التعالي النصي التداخل ، وأوضح صور التداخل الاستشهاد بالنص داخل قوسين بالنص الحاضر ، كما يتضمن علاقة المحاكاة ، وعلاقة التغيير والمعارضة ، والمحاكاة الساخرة( ).
    أشكال التناص عند جينيت وأنماطه:
    ويصنف" جينيت" أشكال التناص في نمطين :
    أحدهما عفوي غير مقصود، إذ يكون التسرب من الخطاب الغائب إلى الخطاب الماثل في غيبة الوعي
    وثانيهما المتعمد، ويكون في إشارة الخطاب الماثل إلى نص غائب ، وتحديده دون عجل بصورة قصدية ، وكاملا بين محددين.
    وبذلك يكون "جيرارجينيت" قد ساهم في السير بالمفهوم نحو الكمال سادًا ، ما جاء في دراسات مرحلة السبعينات من ثغرات ، بتوصله إلى هذا المفهوم الجديد -التعالي النصي- Transtextuality ويعرفه بـ "علاقة حضور متزامن بين نصين ، أو عدة نصوص بمعنى عن طريق الاستحضارEidetiquement ، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعال لنص داخل نص آخر ، حضور ملحوظ مع الأثر التحويلي لهذا "الحضور" ، بشكله الأكثر جلاء وحرفية ، وهى الطريقة المتبعة قديمًا. يوجزها الباحث فيما يلي:
    1- التناص Intertextualité ويعرفه بـ "علاقة حضور متزامن بين نصين ، أو عدة نصوص ، بمعنى عن طريق الاستحضار Eidetiquement ، وفي غالب الأحيان بالحضور الفعال لنص داخل نص آخر ، حضور ملاحظة مع الأثر التحويلي لهذا الحضور ، بشكله الأكثر جلاء وحرفية ، وهى الطريقة المتبعة قديما في الاستشهاد Citation بين مزدوجين بالتوثيق أو بدون توثيق ، أو بشكل أقل وضوحا وأقل شرعية في حال السرقة الأدبية كما نجد عند "لوتريماون" lautreamont مثلاً، وهو اقتراض غير مصرح به ، ولكنه أيضا حرفي ، أو بشكل أقل وضوحًا ، بعد وأقل حرفية في حال التلميحLe allusion ، أي في ملفوظ لا يستطيع إلا الذكاء الحاد تقدير العلاقة بينه وبين ملفوظ آخر ، ولما يلاحظ فيه من نزوع نحوه بشكل ما من الأشكال ، وإلا فإنه يكون غير ملحوظ( )، وهذا التعريف في الحقيقة يمتاز بدقة الربط بين مفهوم التناص عند "كريستيفا" ومفهومه عند" ريفاتير" ، بمعنى انه يجلى تلك العلاقة التي تقوم بين نص وآخر يحضران معا عن طريق:
    أ- الاستشهاد: وهو أن يورد الكاتب اقتباسا من نص آخر ، ويميل إليه واضعًا إياه بين علامتى تنصيص.
    ب- السرقة: وهو اقتباس غير معلن لكنه حرفي.
    جـ - التلميح أو الإيحاء: وهو يأتى على شكل قول يفترض فهم معناه الكامل إدراك علاقة بينه وبين نص آخر تحيل عليه بالضرورة انثناءه من انثناءات النص العديدة وإلا يصعب فهمه"( ). وبذلك يحصر" جينيت" التناص في حالات حضور فعلي لنص في آخر.
    2- الميتانص Metatextualite: أو علاقة التفسير التي تربط نصا بآخر ؛ بحيث يتحدث عنه دون أن يلتفظ به بالضرورة ، وبتعبير أفضل: هي علاقة نقد"( ).
    ويعنى "جينيت "بالميتانص علاقة النص بالنصوص التي تحلله ، أي النصوص النقدية الشارحة لهذا النص"( ).
    3- التوازي النصي paratextualite( ) وهى العلاقة التي ينشئها النص مع محيطه النصي المباشر "العنوان" ، العنوان الفرعي( ) ، العنوان الداخلي ، التصدير ، التنبيه ، الملاحظة..الخ،( ) على ضوء هذا يتكون النص من إشارات تكميلية بمعنى أنها علاقة نصية تنعقد بين النص الأصلي أو المتن ، ونصوص أخرى تتخلله أو تتقدم عليه أو تتأخر عنه، ولكنها تقع في محيطة ، وتعيش في صحبته ولها قيمة تعاقدية"( ) ويمكننا إضافة شيء آخر تحت هذا المفهوم ، وهى الحوارات والندوات التي تدور حول النص يمكن وضعها في إطار علاقة النص مع محيطه المباشر.
    4- النصية المتفرعة Hypertextualete( ) وهى العلاقة التي من خلالها يمكن لنص ما أن يشتق من نص سابق عليه بوساطة التحويل البسيط أو المحاكاة ، وفي هذا النوع ينبغي تصنيف المحاكاة الساخرة والمعارضات"( ) ويمكن تبسيط المعنى على ضوء العلاقة التي تجمع بين نص أعلى ونص أسفل أو نص سابق بنص لاحق ، وهى علاقة ذات شقين أو علاقتين:
    الأولى: التحويل: ( ) ويتم فيها اشتقاق على نحو بسيط مباشر بطريقة شكلية خالصة ، وقد يقتصر على تغيير واحد من مكونات النص السابق داخل اللاحق.
    الثانية: "المحاكاة" وهى تحول غير مباشر أكثر عمقا وجوهرية ، وأشد تعقيدًا لأنه يركز على طريقة البناء أو النموذج ، ليعبر عن شاكلتها ، عن فكرة شائعة أو غير شائعة"( ).
    5- جامع النصLe architextualité : يعرفه "جينيت" في كتابه مدخل إلى جامع النص Introduction le architectualité’ بأنه مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حده ويورد دوبيازى تذييلاً به يكتمل تعريف المصطلح بأنه "علاقة بكماء ضمنية أو مختصرة لها طابع تصنيفي خالص لنص ما في طبقته النوعية( ).
    ويأخذ" دوبيازى" بهذا المعنى نقلاً عن" جيرار جينيت" في كتابه مدخل لجامع النص( ) أو معمار النص، وهو نمط أكثر تجريدا وتضمينا ، ويتضمن مجموعة من الخصائص التي ينتمي إليها كل نص على حده ، في تصنيفه كجنس أدبي ، رواية ،شعر،..الخ.
    على ضوء التنظير السابق ترى كيف وظف بهنسي التناص في ديوانه ؟ وإلى أي مدى كان موفقا في ذلك ؟
    توظف التناص
    من وحي غزة
    منذ البدء وبهنسي يعلن عن ذاته الممزقة بين القول والفعل كتمزق هذه الأشلاء في نكبة غزة التي أعادت إلى الذاكرة العربية مجددً نكبة فلسطين ، وقيام دولة الكيان الصهيوني عام 1948 م .

    يبكي اليراع على أشلاء قتلانا
    والشعر متشحا سواد الحزن يلقانا

    علام نكتب والأوراق مزقــــها قلم تعفن من أحــــداث فرقـانا
    قلم تزلزل بين أصــــابع كذبت إن تدعي نصحا وتستنكر خطــايانا
    قلم إذا ما شـــــــاء حدثنا من وحـــــي غزة أحزانا فأبكانا
    فلمن تصوغ الشعر أيــها القلم ولمن تزف قصـيد الحزن ولهانا ؟!( )

    في قصيدة " من وحي غزة " وجد" بهنسي " نفسه إزاء موقف تاريخي فريد قلما يجود الزمان بمثله ، موقف من أدركه أحس بالأسى عاش هذا الحدث المتميز من أحداث التاريخ المذري ، فأحس بغصة الألم التي لا تقل بأي حال من الأحوال عن حال أي وطني عربي مخلص لقضاياه ، هذا الموقف الانفعالي الذي توافر لغيره من الشعراء ولكن انفعال بهنسي بالقضية أشعرني كما لو كان الشاعر الوحيد الذي أدرك بباصرته الوطنية وصدق احساسه نواة القضية وهذا هو سر أسلوب المعالجة الفنية والتوثيق الفني لهذه الأحداث التاريخية المتلاحقة على أمتنا العربية والإسلامية ، فسر الضعف واستخفاف العدو الصهيوني بنا هو يؤكده الشاعر لاحقا في قوله .

    أللشفاة التي ما عاد يشغلها
    غير الحديث عن التطبيع بهتنانا

    أللعيون التي من فرط محنتها
    تبكي على أشلائهم وتدوس أشلانا ؟!

    أم للقلــــوب التي باتت تسبحهم في كل حين وتلقى الحـمد ألوانا ؟ !
    كأس المــــذلة بات الكل يجرعه ودم الكــرامة فينا كاد ينســـانا
    لمن تصــــوغ الشعر أيها القلم كفى بربك دمـــع الشعر أضنانا ( )

    يلاحظ أن الشاعر منذ المطلع وهو يعيش حالة وجدانية خالصة وانفعال يتجاوز النظر التقليدي للحدث صادر عن إيمان بفلسفة ومنطق فريد باح به الشاعر منذ الوهلة الأولي أعني منطق القوة عند العرب ، ومنطق القوة عند الصهاينة ، فهذه الدرامية التي فجرها بهنسي من خلال المقابلة بين القوتين وهذا السخف الذي يتسم به الفكر العربي حين فرط في أصرة الدم العربي فمن المنطقى أن يكون البكاء على دماء الأشقاء المهدرة ، ولكن وفق المنطق المعكوس وحالة التردي يكون البكاء على دماء أعدائهم التي هي في الأصل دماء زائفة ، وكأنهم تناسوا أن القوة العاقلة هي التي تحمي الحقوق المهدرة فالسيف حامي أمين ورادع صارم متي أعتدي على الحرمات.
    اتخذ الشاعر موقفاً خاصاً إزاء هذه المسألة التاريخية منذ البدء فوظف بهنسي ما يؤمن به تحديداً وموقفه من الحدث عبر ثنائيتين متضادتين مطروحتين لحل المشكلة التاريخية الراهنة وقتذاك:
    الأولى- ثنائية طرفاهما السيف x القلم . وهي ليست ثنائية القوة والفكر أو العلم - كما قال أحد الدارسين والتي ظهرت بجلاء في شعر" المتنبي" فلا مثل قوله:

    ما زِلتُ أُضحِكُ إِبلي كُلَّما نَظَرَت
    إِلى مَنِ اِختَضَبَت أَخفافُها بِدَمِ

    أُسيرُها بَينَ أَصنامٍ أُشاهِدُها
    وَلا أُشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصَنَمِ

    حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي
    المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ

    اِكتُب بِنا أَبَداً بَعدَ الكِتابِ بِهِ
    فإنما نَحنُ لِلأَسيافِ كَالخَدَمِ

    أَسمَعتِني وَدَوائي ما أَشَرتِ بِهِ
    فَان غَفِلتُ فَدائي قِلَّةُ الفَهَمِ

    مَنِ اِقتَضى بِسِوى الهِندِيِّ حاجَتَهُ
    أَجابَ كُلَّ سُؤالٍ عَن هَلٍ بِلَمِ


    وهذه ما الح عليه بهنسي أمام هذه الأحداث الجسام وذلك الخنوع غير المبرر أمام قوة ظالمة ،وأصحاب قضية يتنازعها الشقاق والخصام والتناحر على لا سلطة ولا قوة حقيقية تمكنهم من نزع حقهم المنهوب ، وفي الجهة الأخرى أخوان لا يأبهون للدم العربي ، ولا يقيمون للكرامة وزنا ، وكأن المستصرخ بهم لا يسمعون ولا يجيبون نداء الآخوة ، من منطلق " لقد ناديت من أسمعت حي" يقول بهنسي في قصيدة الدم الآسن :
    سلام عليك ...
    أيها الدم العربي في عروقنا
    ... بل عم مساء
    خبرت أنك صرت ماء
    وأي ماء
    خبرت أن الحالمين
    بمزنك السيار في وطنى
    .... هراء
    ...........
    .............
    خبرت أنك
    يا دمى العربي
    بعت هوية الإرث العتيق
    على خصور الراقصات
    ورحت تستجدي انتماء
    خبرت أن رحالك البالي
    ألقي في العراء
    ــــــــ
    وتبلغ المأساة ذروتها عند بهنسي فيحتد في لغته ويقول
    سلام عليك وأنت تهرب
    في شرايين الوضاعة
    كلما صدع النداء
    يا أيها الرحال في أجسادنا
    لا مرحبا
    طال البقاء
    والماء يأسن
    إن توقف في عيون لا تشتهي
    قرع الدلاء( )

    ــــــــــ
    لم يخف بهنسي حيرته في الوصول إلى طبيعة هذا الرحال في عروقنا فيتسأل :
    هل أنت ماء .........؟
    هل أنت والمتطهرون من نجاسته
    .......سواء ( )
    فتكون النتيجه الحتمية وهى التسليم باللاجدوى لاستنهاض هذا الخامل الكسول الذي لا يستجيب لندائه فيودعه غير أسف عليه :

    سلام عليك ...
    إن كنت تجري
    كما تشاء .
    ..........
    ... ولا نشاء ( )
    ما ساقه بهنسي في المقطوعة الأخيرة يذكرنا بحوار مقدس ورد ذكره في القرآن الكريم ، حينما عجزت محاولات الإقناع لتحويل الأب عن عبادة الأصنام ، أقصد هذا الملمح التناصي مع القرآن الكريم فيما ورد في حوار سيدنا إبراهيم مع أبيه أذر ، فلم يملك إلا أسلوب المتأدب والعاجز عن إسناء الأب عن غوايته واتباعه سبيل الشيطان فقال " سلام عليك سأستغفر لك ربي "

    وما يمكننا استنتاجه من هذه المقدمة الجدلية أن بهنسي كغيره من شعراء الأمة لهم تجارب جد متفاعلة مع الحدث الجاري والخبر السيار وما يمكن الخلوص إلية الرؤية الخاصة بشاعرنا " والتي تلخص تجربته الفاشلة تأسيس دولة الشعراء فقد أجبره واقع عصره علي التسليم بالنتيجة السابقة والاعتراف بهزيمة أهل الفكر والأدب أمام رجال الملك والسياسة واكتشاف فلسفة القوة التي أعتنقها في سائر شعره( ) وتكشف القصيدة رؤية" بهنسي " الخاصة لهذا الحدث التاريخي فيرجعنا إلى رؤية خاصة تستشهد بالتاريخ والواقع دون أن تستسلم للوهم أو الخرافة وإذا كان لكل شاعر رؤيته الخاصة فلكل موقف ظروفه التي تفرض على الشاعر نمطاً فنياً معيناً فان هذا يبرر فلسفة "بهنسي" مثلاً في هذه المقدمة وبين مقدمة أخري" للمتنبي" فلسف فيها رؤيته من منظور آخر مختلف رأي فيه:

    الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعان
    هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

    فَإِذا هُما اِجتَمَعا لِنَفسٍ مِرَّةٍ
    بَلَغَت مِنَ العَلياءِ كُلَّ مَكان


    ولم يقف "بهنسي" هنا على المفاوضة بين الرأي والقوة كما وقف "المتنبي" بعد ذلك ولكنه بدا بصدد الفصل في قضية أخري تتعلق بهذا البهتان الواضح الذي أحكم الأعداء توظيفه في الضحك على العالم لإضفاء الشرعية على أفعالهم الإجرامية والغباء العربي الذي أصبح عاجزا عن صوغ قضاياه ، ولذلك ضاع وضيع ، وهو ما استطاع بهنسي بصدق الشاعر وحس الوطني المخلص صياغته بفاعلية بعيدا عن التعقيد اللفظي او المعاظلة القولية في :

    من وحي غزة هذا الوحى نعرفه
    وجه الحقيقة عار جاء دنيانا

    فلا تنكر العين شيئا من ملامحه
    ولا ينكر السمع صوتا ظل يغشانا

    من وحي غزة عذرا جئت أسألكم ألا تؤرقكم على عجل ضحايانا ؟!
    مزق الدماء التي سالت مرتلة تبكى الأوائل ترجوهم وتنعانا
    خجل يفوح وأنف دوس في وحل وغضت الطرف أعيننا لترعانا ( )
    يكشف تعدد القراءات السابقة التي تناولتها الدراسة عن مدى قدره النص "البهنسي "على صهر كل الأفكار والمعتقدات والآراء وجميع النظريات ويتشربها ويحولها ، لتكتسب قيمة فنية ومعنى جديداً.أليس "كل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر"( )على حد تعبير " جوليا كريستيفا"؟ ؛ فهذا التشرب وهذا التحويل هو ما تعنيه التناصية بالدرجة الأولي ، وهذا هو قصد الباحث من ذكر هذه الآراء للإشارة إلي هذا الملمح التناصي الهام في ديوان بهنسي .إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن "عادل بهنسي" شاعر جاد موهوب نال استحسان الناقد وبهذا الطرح المتميز ملأ قلوبنا وشحن صدورنا : بتساؤلات :
    ماذا يقصد بهذا؟ وماذا يريد بذلك كله؟
    القسم العامي في الديون يجيب على هذه التساؤلات
    عابر سبيل :
    يستهل بهنسي أولى قصائده العامية " عابر سبيل " بهذا المربع
    لا حي إلا القلم
    والصوت في أوطاني

    ما بقيش ف وطني علم
    أرميه ف أحضاني ( )


    استطيع القول بداية قبل الوصول إلى نهاية هذه الدراسة إن بهنسي نجح لحد بعيد في توظيف فن الواو الذي استفاد منه في تقديم قصائد الديوان كثيرا وكما هو معروف أن " لفن الواو تركيب موسيقي ثابت ، فهو يصاغ موسيقيا على أوزان البحر المجتث ، وله تركيب دلالي شبه ثابت حيث ينقسم مربعه إلى جزئين رئيسين ؛ أولهما يحمل دلالة أشبه بالقاعدة يصوغه الشاعر في البيتين الأولين ، أما القسم الأخر فيحمل دلالة مقارنة تستمد وجودها وفاعليتها من القاعدة الأولى التي أرساها الشاعرفي البيتين الأخيرين من المربع وكل واحد من شطرته يسمى غصنا ، وأغصانه على الترتيب تسمى : العتبة والطرح والشدة والصيد
    وينقسم الواو ، بحسب قافيته ، إلى مسوجر ومقفول وموارب ومفتوح ، والأصل من بين تلك الأنواع في قافية الواو أن تقوم على التجنيس المعمى أي أن الأصل في الواو هو المسوجر ، حيث يستظهره الشاعر عند أداء الدور سواء باستخدام التقسيم الصوتي للنطق بالكلمة على نحو موضح أو بالتصريع مفتاح فك الجناس " ( )
    لا يزال الشاعر يقيم حالة التناص التي أشرت إليه في صدر هذه الدراسة وكأنه يقول لنا أنه لم ينس منهجه العام في التعبير عن قضاياه التي يتخذ من مد جسور التواصل مع تراثه الأدبي مدخلا لصياغة تجربته الشعرية والتي هي بالتأكيد تجربة ثرية وإن كنت من خلال قراءة الديوان أرى الشاعر يتحدث عن قضايا معلومة للجميع ولكن الكلمة الشاعرة هنا رسمت لنا خطا بيانيا يتنوع صعودا وهبوطا وفقا للحالة والحدث الذي يعبر عنه شاعرنا ، استطيع مطمئتا القول : إن شاعرنا يدور في هذا الديوان حول محور النكبة وما أصاب الأمة العربية من كوارث ، وهذا التغير الحادث في النسق القيمي والوطنى والعروبي من الخليج إلى المحيط ، ولا تتجاوز تجربة الشاعر هذا الخط وهو بالقطع محق في هذا وله الحرية الكاملة في التعبير عن همومه بالطريقة التي يراها .
    انظرإليه فى السياق يقول :
    صوت انفجار البارود
    ف ودان العرب نهاوند

    لا عزفه ناي ولا عود
    ويطرب ف حر وبرد

    لخص بهنسي في الرباعية القضية برمتها ، وهذا هو الذكاء بعينه ، إذ جعل بهنسي من هذه الرباعيات مفاتيح للولوج لعالم القصيدة الرحيب ، واظن أنه كام موفقا إلى حد بعيد حين وظف هذه المقطوعات الشعرية لتكون نقطة الانطلاق للتعبير عن المسكوت عنه ، وهي على قلتها إلا أنه استثمرها جيدا ، وميزت معمار القصيده عندها من خلال هذه التقنية التي أرها في شكلها الظاهر وفق الخط العام لهذه الدراسة مظهرا من مظاهر التناص الواعي عند بهنسي .
    ويمتد هذا التكنيك الفني حتى يتجاوز التراث ليتناص مع الشاعر العربي الكبير نزار قباني وأحسب أن الشاعر لا يتعمد هذه الاستراتيجية بل هي تاتيه بطريقة عفويه ، ربما يطون مبعثها ثقافته العربية ، وربما يكون توار الخواطر والاشتراك في الهم العربي ، القضية الواحده :
    أسحب ضمير الشعر
    يسحبني القلم ... ( 23)
    ...................................
    واكتب قصيـدة
    والقصيـــدة تقوللي هات
    آخر ما عندك
    وآخر ما عندي حفنتين
    ما هماش م البارود
    أومن ركام بيوت يهود
    متلخبطين أشلاء ودم
    أو حتى كام جندي أسير
    الحفنتين ... ودي حاجه تكسف
    كلمتين ........ ( 24)
    من الواضح أن الواقعة التناصية هنا الصمت العربي ومفردات الشجب والإدانة التي لا تحل قضية ولا ترد كرامة مهدرة وهذا ما عبر عنه نزار بقوله :

    كلما جئت إلى باب الخليفة
    سائلا عن : عن شرم الشيخ
    وعن حيفا ، و رام الله والجولان
    أهداني خطاب "
    ولذا يظل الاحساس بالألم يلازمه طوال رحلته الشعرية ، والقلم الذي من المفترض أن يكون مطية الحرية للشاعر إذ به يتحول إلى أداة موجعة و ينكأ الجرح ويحيى الألم
    مال القلم مـــــــــال ع الســـــــــطر واتكا
    كتب الوجــــع مـــوال والـــدم ع السكــــــه

    نزار ... متى يعلنون وفاة العرب"" لنزار قبانى؟
    . أحاول أن أتبرأ من مفرداتي
    ومن لعنة المبتدا والخبر...
    وأنفض عني غباري.

    وأغسل وجهي بماء المطر...

    أحاول من سلطة الرمل أن أستقيل...

    وداعا قريشٌ...

    وداعا كليبٌ...

    وداعا مضر...

    8

    أحاول رسم بلادٍ

    تسمى مجازا بلاد العرب

    سريري بها ثابتٌ

    ورأسي بها ثابتٌ

    لكي أعرف الفرق بين البلاد وبين السفن...

    ولكنهم...أخذوا علبة الرسم مني.

    ولم يسمحوا لي بتصوير وجه الوطن...

    هو هو ذات المعنى الذي يمكن رصده عند بهنسي الاحساس باللاجدوى وسلبية المواجهة في قوله :
    الناس هناك
    بتتسلب من بين صوابع الوطن
    أو يتسلب منها الوطن
    لا مدفعين
    ولا طلقتين
    حتى ف قصايدي
    يحسسوني انك يا شعري ( 26 )
    .. لك تمن
    ح أشهق وأموت
    وأشهق وأموت وأشهق وأموت
    ولا حد يجي ف يوم يقول
    إني بياع الكلام
    على ناس تنام
    تصبح جتت
    أو قول حتت
    يصعب عليهم لمهم
    أو دفنهم
    الأرض تاكل لحمهم
    فوق التراب
    ما بيوصلوش لبطنهم
    .............
    ح أشهق وأموت ( 27 )
    للشاعر معم شعري خاص 5في هذا الديوان يغلب على مفرداته الاصطباغ بصبغة التشاؤوم والألم والاحساس ي\بالموت ولذا جاء ثريا بمعجم الدم والنار مفردتان كثر ورودهما في الديوان واستغرقا الديوان من اوله غلى اخره ، ويمكنك الرجوع إلى هذا المعنى في متن الديوان والتي يتعذر هنا لكثرة ورودها ذكرها في هذه الدراسة ، وهو ما سيناقشه الناقد مع الشاعر أثناء فاعليات الندوة الشعرية التي ستعقد خصيصا لمناقشة هذا العمل الفريد .
    وتبقي كلمة أخيرة :

    بعد الرحلة السريعة أرجو أن أكون وفقت في تسليط الضوء على صوت شعري عربي جديد اتمنى ان ينال حظه من الرعاية والعناية من القراء والنقاد ، متمنيا لكم وله دوام التوفيق والسداد والله من وراء القصد

    دكتور : جمال حسني

    التعديل الأخير تم بواسطة دجمال حسنى ; 06/10/2010 الساعة 03:07 AM سبب آخر: نسخ ناقص

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •