آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: السيري والغيري في الكتابة القصصية

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية الدكتور حسين فيلالي
    تاريخ التسجيل
    09/08/2008
    العمر
    69
    المشاركات
    295
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي السيري والغيري في الكتابة القصصية

    السيري والغيري في الكتابة القصصية.
    بمثابة الشهادة.
    حسين فيلالي- مستغانم.الجزائر.
    (ناقد الأدب يعلم أنه لا يدلي بأحكام قاطعة،إنما يبين عن وجهة نظره، يتحمل هو وحده مسؤوليتها،إن أرضاه أن يقبلها أناس فلا يحزنه أن يرفضها أناس آخرون،يكفيه حسن النية،وما غاية مطمعه وسروره،إلا أن يتناولها القراء بالدرس والتمحيص.).الأديب الكبير يحي حقي.
    بداية الكتابة القراءة:
    عندما طلب مني الزميل الروائي حسين علام المشاركة في الملتقى الوطني الذي تنظمه جامعة مستغانم واقترح علي تقديم شهادتي عن القصة القصيرة الجزائرية المعاصرة، وقعت في حيرة من أمري،وتساءلت :من أين أبدأ الكتابة؟ ثم ما لبثت أن اهتديت إلى أن بداية الكتابة القراءة.
    الكتابة إذن صورة من صور القراءة، والمبدع عبارة عن مجموعة من النصوص المقروءة.
    سؤال البداية، أفضى إلى سؤال المنهج: بأي منهج أقدم هذه الشهادة؟ هل اختار منهجا أكاديميا صارما لا أحيد عنه، آم اترك للذاكرة حرية البوح، والانتقاء، والإقصاء وهي الصفات التي تتصف بها ؟
    اخترت في الأخير أن اترك الحرية للذاكرة لتقدم هذه الشهادة رغم ما في الأمر من إحراج فالذاكرة إن تحررت من الرقيب، ربما باحت بما نحرس على أن نجعله في طي الكتمان.
    بعد سؤال البداية، وسؤال المنهج، جاء سؤال الكينونة، سؤال تكرر في علم الاجتماع، والفلسفة، ونكرره هنا بصياغة أخرى:
    هل يمكن تعريف الإنسان بالكائن القاص؟
    يقص الإنسان أثر غيره، وهو القادر على قص خبر نفسه، وخبر غيره.ومن يعود إلى المعاجم العربية القديمة لا يعدم هذا التشارك في معنى التتابع، والتتبع.قال الله تعالى في سورة القصص(وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) الآية 11.
    يقول الشراح في معنى قصيه أي اتبعيه حتى تعلمي خبره.
    في هذه الورقة أحاول أن أقص أثر غيري، وأخبر عن نفسي.و في هذا إشارة إلى أن ما أقدمه، فيه من السيري، والغيري.
    يشكل السيري جزء من الكتابة الإبداعية،و حتى ولو لم تبوح الذات الكاتبة بذلك،فإن تتبع أثرها قد يكون كفيلا بالكشف عن ذلك الحضور السيري الذاتي .تسهم قراءة كتابات الغير في تشكيل رؤية المبدع، وصقل موهبة. في هذه النقطة الأخيرة نلتقي مع الذين ذهبوا إلى القول بالتناص. كل نص حسب هؤلاء هو تناص.فالنص عندهم هو محصلة قراءات قد تختفي صورها، لكن آثارها تبقى كامنة في مكان ما من الذاكرة، تنتظر لحظة إعادة التشكل، والتخلق في صور جديدة .
    ولا ريب في أن النقاد العرب القدماء، قد تفطنوا إلى ما يشبه هذا الفعل، حين كانوا يطلبون ممن يريد اقتراض الشعر أن يحفظ ألف بيت من الشعر، ثم يطلبون منه أن ينساه. النسيان هنا، معناه ترك مسافة بين زمن الحفظ، وزمن قرض الشعر: أي إرجاء النظم حتى تتحلل صور إبداعات الغير - بالمصطلح الكيميائي- وتمتصها الذاكرة. ترك مسافة بين زمن القراءة، وزمن الكتابة شرط ضروري لتفادي ما يسميه النقاد القدماء: وقع الحافر على الحافر، أي استنساخ الغيري.
    تشكل فعل القص:
    شكل فعل القص مركز جذب، واستقطاب للمجموعات البشرية(الأسرة أو الحي..) قبل عصر المذياع، والجريدة، والتلفزيون، وعلى هذا عرفنا الإنسان بالكائن القاص.والطريف في الأمر أن زمن القص الشعبي قد ارتبط عند بعض المجموعات البشرية بالليل، بل ذهبوا إلى أن فعل القص في النهار يورث الأبناء القرع .
    وعندي أن صاحب الفكرة، يملك قدرا كبيرا من الذكاء.فالنهار وقت جد، وعمل، والليل وقت راحة، وتسلية، ثم إن فقدان شعر الرأس، يعني فقدان أهم عنصر من عناصر الجمال عند الرجل، والمرأة، ولذا اختار صاحب القول التركيز على عنصر خارجي له عمقه،وامتداده في النفس.فالعرب كانت تمتدح طول شعر رأس المرأة، و تعير الرجل بسقوط شعره وتحقره،وللعرب في ذلك أشعار شعبية.
    بدأت علاقتي بالقص، والحكي مبكرا، منذ أن كنت أجلس حول الكانون، انتظر نضج الطعام، و استمع إلى المرحومة -بإذن الله - والدتي وهي تروي لي حكايات: الغول، والصور التي يتجسد فيها، والزناتي خليفة،وصراعه الدائم مع عنترة… كان الزناتي ضخم الجثة، يفترش أذنه اليمنى، ويتغطى باليسرى. دخلت الجامعة، ودرست- بتشديد الراء وفتحها- الأدب الشعبي، وكنت كلما قرأت بيت الشاعر: فما تدوم على حال تكون بها...كما تلون في أثوابها الغول.
    تساءلت : من أين جيء لوالدتي بهذا الفهم لطبيعة الغول؟ فوالدتي لم تدرس الشعر، غير أن الفرق بينها، وبين هذا الشاعر هو: الوسيط الحامل للحكاية، فما ترويه والدتي قصصا شعبيا يقوله الشاعر في هذا البيت شعرا فصيحا.
    كنت استمع بلذة لا توصف إلى حكاية طوله(بضم الطاء وتشديد اللام وفتحه)، وأتخيل جمالها، وافتتن بشعرها الأسطوري المنحدر من على الربوة التي ينتصب عليها قصر خاطفها.و كثيرا ما كنت أنام على إيقاع حكايات مشوقة. ولم تكن تدري والدتي أنها كانت تسهم -دون قصد - في تشكيل خيال قاص سيولد بعد سنين.دخلت المدرسة الابتدائية ،ووجدت نفسي أمام نصوص القراءة، و رسوماتها أو ما يسمى بلغة الفن التشكيلي وسائل التجسيد الفني للنص. كانت الرسوم تبهرني بتناسق ألوانها، وجمالها، ومن الطبيعي- في هذه المرحلة المبكرة من الطفولة -أن ينشط الخيال ويبرز دوره في إضافة أبعاد ذاتية أخرى للصور.ما أزال أتذكر نصوص :القناص، والغراب الأعور،وأثاث الخنصر، وأنشودة الفلاح(نراه في الصباح يعمل في انشراح بين الندى والزهر وتحت ظل الشجر..).....كنت انتظر بشوق درس القراءة بالقدر الذي أتشوق فيه لرؤية رسومات جديدة.
    بدأت في الإعدادية في أواخر الستينيات أقرأ القصص المختلفة للتسلية، وكنت مولعا بروايتها لأقراني، ومن حسن الصدف أن تمنحني متوسطة بني عباس جائزة الأدب العربي وكانت رواية كفاح طيبة للروائي الكبير نجيب محفوظ.
    في أواخر السبعينيات بدأت المجاميع القصصية تأخذ طريقها إلى مكتبتي(وهي عبارة عن صندوق من الخشب) ،وكنت أقرأ بنهم ما كان ينشر في الجزائر على صفحات الجرائد ،أو ما نشر في مجموعات قصصية .قرأت نماذج بشرية،وصاحبة الوحي لرضا حوحو.
    أحمد رضا حو حو يمثل فجر القصة الجزائرية ،وهو فجر صادق .هو عندي الأب الفني للقصة الجزائرية حتى وإن عقه بعض الأبناء، وأرادوه أن يكون نسخة منهم، متناسين فارق الزمن بين الأب والأبناء، وأثره في تشكيل الرؤيا الفنية،و طرائق السرد. من يقرأ رضا حو حو يكتشف كاتبا مطلعا على التراث العربي والغربي،وهو الذي يذكر أنه قرأ هيجو وأراد أن ينسج على منوال رائعته الفقراء .
    يكتشف قارئ أحمد رضا حوحو أن المبدع له القدرة على كتابة القصة الفنية ،ورسم شخصياتها بدقة ، وعلى تنويع أسلوب القص من سرد ووصف ،وحوار . ففي قصة الشيخ زروق يرسم القاص الشخصية رسما فنيا دقيقا:(الشيخ زروق في العقد السادس من عمره،ضخم الجثة،كثيف اللحية،أسمر اللون...).
    هذا الرسم الفني الخارجي للشخصية لا يكتف بإيهام المتلقي أنه أمام صورة شخصية واقعية قد تكون مألوفة لديه، وإنما يجعله يتقبل ما يمنحها الكاتب من سلطات متميزة داخل المجتمع(......ذو مهابة ووقار، يخشاه الناس ويحترمونه..).
    أما في قصة ثري الحر ب، فالوصف الخارجي للشخصية، إنما أريد منه
    -حسب رأينا -أداء وظيفة التحديد، والتعيين، تحديد المرتبة الاجتماعية التي تحتلها الشخصية في السلم الاجتماعي: (....واحتلت سلسلة ذهبية سميكة صدره تصرخ في وجوه الناس بثراء الرجل وجاهه).
    فالسلسلة الذهبية ،وإن بدت في الواقع صامتة، لا لغة لها، إلا أن القاص يوظفها في سياق يضفي عليها إيحاءات تخترق حجاب الصمت، و يمنحها وظيفة الكشف.
    تكشف السلسلة الذهبية السميكة عن الثراء وتضيف إلى حاملها- في المجتمعات المتخلفة- صفة أخرى هي الوجاهة،فالإنسان في هذه المجتمعات يقيم بما يملك من ثروات مادية. يستغل رضا حوحو عنصر الوصف ليرسم صورتين متوازيتين للشخصية :
    - الصورة الأولى كاريكاتورية واقعية ظاهرة(...وإذا سألته عن تاريخ ميلاده أجابك بسذاجة أنه ولد في الريف في السنة التي نزلت فيها المطر بالضفادع، ولهذا سماه بعض العابثين من شبان الحي توأم الضفادع).
    - والصورة الثانية مزيفة تتخفى وراء المكاسب المادية(واحتلت سلسلة ذهبية سميكة صدره تصرخ في وجوه الناس بثراء الرجل وجاهه).
    توظيف الأسلوب الساخر من المميزات الطاغية على كتابات حوحو،ففي قصة فتاة أحلامي يعالج الكاتب آثار الخجل وانعكاساته على الفرد بأسلوب سلس يفتك من القارئ ابتسامة أو حتى قهقهة(..وانتظرت وبعد دقائق رأيتها قادمة تحمل طردا كبيرا ،لا حظت أنها تجد عناء شديدا في حمله ،ولم أر قبل ذلك فتاة رشيقة تحمل مثل هذه الطرود الضخمة، الثقيلة...تقدمت نحوي فأخذت مني الطرد وقذفت به داخل المسكن، واختفت وراءه وهي تقول: سأمنحك غدا قطعة شكلاطة مقابل حملك.وهنا فقط انتبهت من غفوتي أو قل إذا شئت من غفلتي وعلمت أن قنيصتي او عشيقتي في هذه الليلة لم تكن سوى العانس "بولوني" قارعة جرس الجامعة.).
    هذه القصة تبقى متميزة في المجموعة بتقنية الحكي الذي يشد القارئ، ويشوقه لمتابعة الحكاية حتى إذا وصل إلى نهايتها تعمد القاص تكسير أفق انتظاره واختلس منه ابتسامة ساخرة من البطل، وقد تتحول السخرية إلى شفقة.
    ورأيي أن علينا أن نقرأ قصص أحمد رضا حوحو في سياقها التاريخي، فالقاص كان يكتب وفق رؤية فنية كانت سائدة آنذاك، لها فهمها للإبداع ووظيفته .
    في الثمانينيات كانت الدولة الجزائرية تستورد الكتاب وتدعمه، وكانت مجلات الفيصل، والعربي والدوحة والفكر وغيرها تصل إلى أقصى الصحراء، وكنا نشتريها بأربعة أو خمسة دنانير. أذكر أنني اشتريت رواية: والبحر ليس بملآن للكاتب جميل عطية بدينارين ،واقتنيت نفائس الكتب بدراهم معدودة . وقد لا يصدق القارئ اليوم أن مكتبتي تضم مجموعة قصصية من منشورات آمال ثمنها خمس دنانير.
    كنت محظوظا لأنني اشتغلت بالتعليم الابتدائي منذ سنة 1973،ثم التحقت بالإدارة فكان باستطاعتي أن اشتري ما أشاء من الكتب .كانت فترة الثمانينات بمثابة العصر الذهبي للأدب الجزائري ، حيث شجعت الدولة النشر، وكانت تقوم بتوزيع الكتاب. ففي هذه الفترة قرأت الأشعة السبعة لابن هدوقة والطعنات،ودخان من قلبي لوطار، وجروح في ليل الشتاء لعمر بن قينة،و أنا والشمس للعيد بن عروس ،والابن الذي يجمع شتات الذاكرة لحرز الله محمد صالح ،والأضواء والفئران لمصطفى فاسي، والقرار للسايح لحبيب، وخريف رجل المدينة لجيلالي خلاص،والأعمدة المنخورة لزهير العلاف،والبصمات لعمار يزلي،ولحن أفريقي لمنور،والسائق لمحمد مفلاح،و وغيرهم كثر يضيق المقام هنا لذكرهم.
    وكانت الملاحق الأدبية في الجرائد الوطنية في الثمانينيات قد حققت حضورا متميزا ساهم في نشر القصة القصيرة والشعر والدراسات النقدية، وكانت جريدة الجمهورية، وناديها الأدبي ممن أسهم في ظهور العديد من القصاصين الجزائريين. لم أكن في البداية أنوي نشر محاولاتي القصصية، وإنما كنت احتفظ بها لنفسي في كراريس، وأقرأها على بعض الأصدقاء.
    قصة وتبددت الأحلام، شقت عصا الطاعة علي و كانت أول قصة تهرب إلى النادي الأدبي بجريدة الجمهورية في بداية الثمانينات، وأنا أتوقع ألا تنشر، لأنها غير قادرة على منافسة الأقلام التي كنت أقرأ لها باستمرار على صفحات النادي الأدبي. وكانت المفاجأة يوم مر علي القاص عبد القادر بن سالم بالبيت وترك لي قصاصة جريدة الجمهورية. وحين عدت إلى البيت سلمتني والدتي القصاصة، مسكتها وأنا أرتجف، ولم أصدق وأنا أقرأ:قصة ناجحة ستنشر في العدد القادم.وبالفعل نشرت القصة وتناولها البعض بالانتقاد اللاذع، وتناولها البعض بالإعجاب، و اعتبرها بداية ميلاد قاص إن هو طور موهبته بالقراءة.
    وبدأت تنشر قصصي في جريدة المساء، وأضواء، والمجاهد الأسبوعي، ومجلة الوحدة والشعب، والسلام، الجمهورية، وملحق جريدة العمل التونسية..
    مفهوم القصة عندي في هذه المرحلة كان بسيطا، يركز على منطق الحكاية، ويحافظ على خطية الحدث، وواقعية الشخصية والبحث عن التماثل بين الشخص والشخصية وتسجيل ما يجري في المجتمع بأمانة.
    هذه الرؤية لمفهوم القصة ربما جاءت من قراءاتي للقصص التي كانت تطبع وتنشر بالجزائر والتي لم تكن في أغلبها تخرج عن رصد تحولات المجتمع الجزائري( الثورة الزراعية، ثورة التحرير، الثورة الصناعية، العلاقة بين الرجل والمرأة، الهجرة، البيروقراطية..)، وتجسدها بأسلوب يحرص على:
    - 1- المطابقة بين الفني والواقعي.
    - 2 توظيف اللغة الدارجة أحيانا في المتن وفي الحوار.
    3- محاولة فرض رؤيا المبدع للواقع، على المتلقي.
    - 4 - المحافظة على منطق الوقائع السردية.
    - - 5- الحرص على تسلسل زمن السرد.
    ولم تكن أغلب الكتابات في هذه المرحلة تترك للقارئ ما يسميه إمبرتو إيكو الفراغات البيضاء التي يجد متعة في ملئها، وربما كان مرد ذلك إلى فهم الكتاب للواقعية الاشتراكية. فترة أواخر السبعينيات، والثمانيات أنتجت خيرة القصاصين الجزائريين الذين أثروا المكتبة الجزائرية والعربية.
    في هذه الفترة كانت القصة الجزائرية تطرح جمالية خاصة، وتسعى إلى تلبية ذوق ما يزال منتشيا بالنصر، والاستقلال، ذوق يبحث عن البطل(ة)، والانتصار في الإبداعات الفنية كما ينشده في المجتمع.أصبحت القصة في هذه المرحلة أكثر نضجا مستغلة فارق الزمن وما جاد به من تطورات في فن القصة. كان القاص في هذه المرحلة يبحث عن التماثل بين الشخص والشخصية لذا كان يعمد إلى محاولة التدقيق في رسم ملامح شخصياته الورقية وكأنها أشخاص من لحم ودم.
    في أواخر الثمانينيات بدأت أقرأ القصص المترجمة التي كانت تنشر في جريدة الفيصل والعربي، والدوحة.... تعرفت من خلال الترجمة على تشيكوف، وآلان بو. ما أزال أذكر قصة موظف البريد العجوز، وحكايته مع زوجته الشابة،وقصة كلب الجنرال: يروي تشيكوف حكاية هذا الموظف المتزوج من امرأة شابة،و جميلة،ويركز على موتها وقدوم أصدقاء الزوج لتعزيته، فيستطرد الزوج في مدح زوجته الشابة، وأمانتها و الحاضرون يستمعون إليه بريبة ،واستهزاء،فالشائع بين الجميع أنها كانت على علاقة بضابط كبير في الشرطة، ثم يفاجئهم الزوج بقوله:حتى أنني أشعت أنها على علاقة بضابط المدينة لكي لا يقربها أحد.
    أما قصة كلب الجنرال:فالنص يركز على مشهد رجل برفقة كلب في السوق، يعض هذا الكلب أحد المتواجدين بالسوق فتهرع الشرطة، وتبدأ في تعنيف صاحب الكلب، وتتوعده بالعقاب لكن مرافق الكلب يعلن أنه كلب الجنرال فتتغير الأوضاع وتصبح الضحية متهمة.
    أما آلان بو فيمتاز أسلوبه بالمزاوجة بين الواقعي والغرائبي،وتضافر المكان والزمان في بناء الحدث ففي قصته:القاتل الذي وشى بنفسه. يعترف الراوي /القاتل أن علاقته بالضحية كانت طيبة،لم يسيء إليه العجوز في يوم من الأيام،ولم يكن يرغب في ثروته.
    وإذ يصرح آلان بو في هذا المقطع أن سبب القتل ليست سرقة ثروة العجوز، ولا الانتقام ،فإنه يحد في الآن نفسه من معرفتنا لدوافع القتل، ويجعلنا أمام جريمة قتل غير عادية إذ عادة ما تكون السرقة أو الانتقام سببي الجريمة.
    وتزداد دهشة القارئ حين يعلم أن سبب القتل هو عدم تحمل القاتل النظر إلى عين الضحية التي كانت تشبه عين النسر، وأنها كلما سقطت نظراتها عليه شعر بدمه يجري باردا. وتبلغ القصة درجة قصوى من الغرابة لما نعلم أن القاتل كان يتردد على غرفة الضحية سبع ليال متتالية ،يدخل في منتصف الليل بهدوء ثم يرجع دون أن ينفذ جريمته لسبب يراه القاتل وجيها وهو أن عين الضحية كانت مغلقة.
    وإذا كنت اعتذر لقراء تشيكوف،وآلان بو إن خانتني الذاكرة،وبعد الزمن في تلخيص أحداث القصتين بأمانة،فإنني أعتذر بالقدر نفسه لمترجمي القصص الثلاثة إن لم أتذكر أسماءهم.
    الكتابة ثمرة القراءة:
    من خلال جريدة العربي والفيصل والدوحة...،وبعض المجاميع القصصية. اكتشفت أيضا كتابا عربا ما يزال عالقا بالذاكرة بعض ما قرأت لهم، أذكر أنني قرأت قصة قصيرة بعنوان:المحطة التالية للصب فليعذرني صاحبها نسيت اسمه ولكن ما أزال أذكر له ولكل الذين قرأت لهم فضلهم الكبير علي.مطلع القصة: (الكلام معناه الموت.وإخراج حرف واحد من فمه كفيل بإخراجه من الدنيا.)هذا المطلع كثيرا ما ناقشته مع القاص مقران عمر وكنا نردد: سنتوقف عن الكتابة متى وصلنا إلى هذه الروعة.
    موضوع القصة سجين يرصده القاص في زنزانته ويغوص في أعماقه بلغة
    فيها اقتصاد في الكلمات وفائض في المعنى.
    اكتشفت في كتابات تشيكوف لونا آخر من طرائق السرد القصصي ،يعتمد على الاقتصاد في الكلمات، والايجاز،وتوظيف عنصر السخرية، والمفاجأة، وتكسير أفق انتظار القارئ،ومحاربة الظلم. واكتشف في آلان بو المزج بين الواقعي والغرائبي وعدم الاهتمام برسم المظاهر الخارجية للشخصية. فالشخصية لم تعد لها ملامح خاصة فيزيولوجية ،ولم يعد القاص يبحث عن ما أسميته بالتماثل بين الشخص والشخصية .ما يميز الشخصية عند بو هو وظيفتها وبنيتها الداخلية النفسية. أما الأمكنة فغالبا ما يختار المظلمة منها،أو المعزولة لخلق مناخ من الرهبة ،والخوف لدى المتلقي.
    وكانت النتيجة أن بدأ يتشكل عندي مفهوما آخر للقصة سرعان ما تحول إلى قناعة كان من ثمارها كتابة قصة:اغتيال الحجاج، وجثة فرعون، وترميم أضرحة المدينة.
    هذه القصة الأخيرة كانت لها مكانة متميزة عندي لسببين:
    -1 - فهي الفائزة بإحدى مسابقات الجاحظية.
    وأذكر يومها أنني دعيت لتسلم الجائزة بنادي الصحفيين، والكتاب بالعاصمة، ولم أكن أعرف العاصمة جيدا، فسرت حتى وجدت نفسي أمام محطة التلفزيون.وقفت ببذلتي السوداء، والقميص الأبيض، وربطة العنق الحمراء، ولمحت فتيات أنيقات، اعتقدت أنهن ينتظرن مثلي احتفال تسليم جوائز الجاحظية .وجاءت إحداهن تمشي على غير استحياء، تنفث العطر الباريسي في سخاء ، وخفق القلب،وكدت أهرب،واستعنت بدعاء والدتي فبالرغم من أنني أفتقر إلى ما يغري فتاة شابة إلا أنها رحمة الله عليها كانت تصر على أن تدعو لي الله عند خروجي من البيت بأن يحفظني من بنات حواء- شعرت بعينيي تتسعان، وتأخذان حجما غير طبيعي، كانتا أشبه بمرايا مقعرة بتعبير الدكتور عبد العزيز حمودة تظهر الأشياء أكبر من حجمها الحقيقي.قالت بلهجة هجينة: "جيت تريبيتي" فأدركت أنني في المكان غير المناسب، فعمدت إلى حسن التخلص كما يقول النقاد ووليت مدبرا.
    2- نشرت قصة ترميم أضرحة المدينة في جريدة المساء، فاتصل المخرج الهاوي فريد لخضر حمينه بالجريدة وأبدى رغبته في تحويلها إلى فيلم.قرأت الخبر في الجريدة وسررت كثير وقام الأديب الطاهر يحياوي بنشر الخبر بالجريدة وباركه وساهم في لقائي عبر الجريدة بالمخرج فريد لخضر حمينه. طلب مني فريد لخضر حمينه ترخيصا بتحويلها إلى فيلم فكان له ما أراد. وكنا نتواصل عبر البريد نتناقش حول القصة إلى أن أرسل لي نسخة من السيناريو الذي كتب في مقدمته أنه وجد القصة جاهزة لأنها كتبت على شكل مقاطع سينمائية.هذه الملاحظة جعلتني اكتشف العلاقة بين كتابة القصة القصيرة والسينما حيث تبين لي بمراجعة ترميم أضرحة المدينة أنني اعتمدت:
    - في بناء هيكل القصة طريقة المقطع/المشهد.
    -و في سرد الأحداث على الحركة المتوالية.
    -و في رسم الشخصية اعتمدت على وصف الخارجي وتحريك الداخلي.
    قصة ترميم أضرحة المدينة اعتبرها حدا فاصلا بين ما كتبته في السكاكين الصدئة وما كتب في المجموعة الثانية :ما يشبه الوحم.
    تمثل السكاكين الصدئة مرحلة الواقعية الحرفية التي لا ترى في الإبداع إلا تمثيلا للواقع، وهي بهذا تسعى إلى خلق تطابق بين الواقعي والفني وترى أن النجاح يكمن في محو المسافة بين الإبداع والواقع.
    1988، انتفاضة الجزائر التي كان من ثمارها، اتساع هامش الحرية، والتعددية الحزبية،والجمعوية.تعرفت في بداية التسعينيات على جيل جديد من القصاصين منهم: عبد القادر بن سالم خليفة قرطي،عزا لدين جلاوجي،عبد الوهاب بن منصور،الخير شوار،زيتوني عبد القادر،جمال فوغالي،مفتي بشير،علال سنقوقة، ويوسف سعداني،ومحمد بن عجال ،و عبد الحفيظ بن جلولي ،وعمري بشير، ومقران عمر،والزين نور الدين ،ومشري بن خليفة،وحسين علام ،وفزيوي حبيب وغيرهم. استفاد هذا الجيل من تطور فن القصة القصيرة في العالم، ومن هامش الحرية الذي منح للكاتب الجزائري، فأنتج نصوصا يمكن أن نرسم معالمها العامة في ما يلي:
    - لم يعد يحفل معظم هؤلاء الكتاب برسم الملامح الخارجية للشخصية.
    - العودة إلى التراث والاستعارة منه(أحداث، شخصيات).
    - توظيف الأساطير.
    - التعبير بصراحة عن رأي الكتاب في ما يجري من أحداث سياسية.
    - أصبح الكتاب يبحثون عن لغة للقص تعتمد على:
    - التكثيف.
    - الايجاز.
    - الإيحاء.
    في هذا المناخ ولدت مجموعتي القصصية الثانية:ما يشبه الوحم.
    وكانت نتيجة قراءاتي للأدب العالمي والعربي المشرقي.
    الكتابة صورة للمقروء.
    ذهب بعض الدارسين إلى أنني في مجموعة:ما يشبه الوحم أرسم علاقاتي الشخصية مع السلطة، ولعل اعتمادي في السرد على ضمير المتكلم هو الذي دفعهم إلى قول ذلك.والحقيقة أن الكتابة بضمير المتكلم المفرد ليست هي دائما إحالة على السيري الذاتي.فقد يرى القاص أن السرد بصيغة المفرد المتكلم هو أنسب له للتعبير عن بعض الحالات الإبداعية.
    مجموعة ما يشبه الوحم كان فيها شيء من السيري والكثير من الغيري.
    ذات يوم ،و بينما آنا أسير بوسط مدينة بشار، أبصرت سيارة أجرة من نوع 204 تسعل، وتخرج من رئتيها دخانا يؤذن بقرب أجلها.كان يقودها كهل أسود اللون، طويل القامة، ضعيف البنية.وكان خلف السيارة المصدورة(مريضة بداء الصدر) سيارة تلمع،لم استطع تحديد نوعها،كان يسوقها شاب يرتدي ثيابا توحي بالثراء وفجأة رأيت السيارة المصدورة تتوقف، ويهبط منها الرجل الكهل ثم توقفت السيارة التي كانت خلفها نزل منها الشاب وانهال على الرجل الكهل بالسب، والضرب. والكهل لا يقدر أن يدافع عن نفسه.تجمهر الناس والشاب يرغي ويزبد ويتفوه بكلام ساقط ويتوعد ويهدد.علمت في ما بعد أن الشاب من الأمن فأحسست "بالحقرة "و بالدمع ينزل من عيني،وانصرفت .ظل هذا المشهد لا يفارقني،بل تعزز بمشهد آخر:
    رأيت ضابطا في الجيش برتبة مقدم يقود سيارته في الطريق العمومي، كان يسير خلف أحد المدنيين، فجأة توقفت سيارة الرجل المدني ثم توقفت سيارة العسكري نزل منها مغتاظا، وراح يضرب بحدائه الخشن سيارة المدني ففر الرجل المدني بسيارته.
    الحادثة الثالثة لها علاقة بالذاتي.فبينما أنا نائم في غرفتي في الليل إذ سمعت أصوات أحذية، وجلبة،فاستيقظت مذعورا فوجدت البيت مملوء بالعسكر ووالدتي المريضة ترتعد،وهي التي ما تزال تحمل مشهد مقتل خالي الشهيد، إذ تتذكر أن مجموعة من الجيش الفرنسي دخلوا بيته،وفتشوه فوجدوا مخزنا للسلاح فضربه أحدهم بعقب الرشاش على الرأس فأسقطه أرضا وحملوه من غير رجعة.
    وقبل مغادرة العسكر الجزائري راح أحدهم يسخر من بيتي المتواضع وكيف أنه لا يليق للسكن.
    أحسست أني أكاد أنفجر، كنت في حاجة إلى البكاء، وأنا أرى والدتي العجوز على تلك الحالة، فكان ميلاد قصة ما يشبه الوحم.أتخيل في القصة هؤلاء المستأسدين بأسلحتهم ومناصبهم على الشعب الأعزل وقد وقعوا في كمين لإرهابي ضعيف البنية لا يكاد يسمع صوته، أتخيلهم يتمنون آن يصيروا نساء حتى ينجوا من القتل بل يحس أحدهم بما يشبه وحم النساء والحيض...
    لم يعمر مناخ الحرية الذي ساد في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات طويلا إذ سرعان ما دخلت الجزائر في حرب كادت أن تأتي على الأخضر واليابس.تقلص هامش الحرية إلى ما دون الصفر، صار الإنسان يسير في النهار خائفا يترقب، يلتفت كالمطلوب بالثأر لا يدري متى يضغط على الزناد.
    في هذه المرحلة، غابت المعالم وأمحى الأثر فلم يعد بمقدور دارس القصة القصيرة أن يكون فكرة عن جيل منتصف التسعينيات وبداية الألفين.اختفت الملاحق الأدبية المعروفة، وصار النشر، والتوزيع، وإقامة الملتقيات عسيرا.
    في هذه الفترة من تاريخ الجزائر الثقافي تحول العديد من القصاصين إلى كتابة الرواية. وقد شكل الإرهاب التيمة المشتركة بين الكتاب. ولم يترك أغلب الكتاب مسافة بين زمن الوقائع المادية وزمن الكتابة الفنية فوقعوا في ما سمي بالأدب الاستعجالي.
    ومن سمات هذا الأدب :
    - التركيز على المضمون وإهمال الشكل.
    - الوقوع في فخ الرؤية السياسية للحاكم.
    - محاولة فرض رؤية الكاتب على المتلقي.
    - تقديم الأحداث بطريقة مباشرة أشبه بالمعالجة الصحفية.
    مع منتصف الألفين عادت القصة القصيرة إلى الظهور وقد ساهم انتشار الانترنيت في ذلك، بدأت تطهر بعض الكتابات القصصية الجزائرية في بعض المواقع الالكترونية :موقع النور،موقع المترجمون واللغويون العرب ،أصوات الشمال....يخرج قارئ بعض قصص الفترة بملاحظات تتعلق بالشكل والخطاب السردي:
    - التنوع في الخطاب القصصي مواضيع محلية وطنية،وقومية مثل قضية فلسطين والعراق... وأخرى ذاتية .
    - اهتمام البعض باللغة السردية إلى حد إهمال عنصر الحكي و إخراج النص السردي من جنس القصة إلى الخاطرة.
    ما بين ألفين وخمسة وإلفين وعشرة ولدة مجموعتي القصصية الثالثة المعنونة:أنت
    والتي امتازت بقصر حجمها وتكثيف أحداثها. جاءت مجموعة:أنت في وقت كثر فيه الحديث عما اصطلح على تسميته بالقصة القصيرة جدا.هذه التسمية التي أسيء فهمها أوقعت العديد من الكتاب في فخ استسهال الكتابة القصصية، فالمتتبع لما ينشر تحت اسم القصة القصيرة جدا في المواقع الالكترونية يجده لا يمت بصلة لفن القصة القصيرة.
    فالقصة القصيرة عندي هي نص سردي يتكون من عناصر ثابتة وأخرى متغيرة.أما الثابتة فهي:الشخصية وعنصر الحكاية والأسلوب الفني القصصي.إذ لا يمكن أن نتحدث عن قصة قصيرة بدون هذه العناصر.وقولنا القصة القصيرة جدا معناه نص سردي يشتمل على عناصر القصة القصيرة( الشخصية والحكاية-) غير أن ما يميزه هو أسلوب تكثيف التكثيف وإيجاز الايجاز، وهو ما يجعله من أصعب الكتابات القصصية .


  2. #2
    طبيب، أديب وشاعر
    تاريخ التسجيل
    08/07/2010
    المشاركات
    14,211
    معدل تقييم المستوى
    28

    افتراضي رد: السيري والغيري في الكتابة القصصية

    .. استمتعتُ بقراءة الدكتور حسن فيلالي ، هنا ،

    وسررتُ بهذه المُحصلة ..


    " القصة القصيرة.
    فالقصة القصيرة عندي هي نص سردي يتكون من عناصر ثابتة وأخرى متغيرة.أما الثابتة فهي:الشخصية وعنصر الحكاية والأسلوب الفني القصصي.إذ لا يمكن أن نتحدث عن قصة قصيرة بدون هذه العناصر.وقولنا القصة القصيرة جدا معناه نص سردي يشتمل على عناصر القصة القصيرة( الشخصية والحكاية-) غير أن ما يميزه هو أسلوب تكثيف التكثيف وإيجاز الايجاز، وهو ما يجعله من أصعب الكتابات القصصية ."


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية الدكتور حسين فيلالي
    تاريخ التسجيل
    09/08/2008
    العمر
    69
    المشاركات
    295
    معدل تقييم المستوى
    16

    افتراضي رد: السيري والغيري في الكتابة القصصية

    الأديب الفاضل كرم عزوز
    السلام عليكم،أشركم على التعليق على ما كتبت تحت عنوان السيري والغيري في الكتابة القصصية.هي محاولة لاستثمار تجربة الكتابة لعل أن يكون فيها بعض ما يفيد ال.
    لك خالص مودتي وتقديري.
    حسين فيلالي.
    ملاحظة : معذرة إن كنت قد تاخرت في الرد عليكم فقد اجريت مؤخرا عملية جراحية على عيني اليسرى وما تزال اثار العمليةمن اوجاع وغيرها..
    ومعذرة مرة اخرى.


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •