حدثنا نزيه بن رقيب قال: كُلفت يوم الامتحان بحراسة الغِلمان، فلم أَدْرِ أكنتُ مع إنس أم مع جان. ولقد مضت علي سُوَيعات ثلاث، واقفاً قُبالة مقاعدَ رِثاث، ابْتُليتُ فيهن بأصناف من المكائد، وما يفعل الضربُ على حديد بارد؟ وما تنفعُ الشَّعْفَة في الوادي الرُّغُب؟ ومَن لك يا ابن السبيل الغُرُب؟ ولقد بَحَّ صوتي، وضاع وقتي، فمِنه الحَوْلُ والقُوة، سُدَّ ربِّي هذه الكَوَّة! فقلت لنزيه: فقُصَّ ما كان من أمرهم، وحدِّثنا عن أخبارهم!
قال: أما "ناقل المِلحاح"، فلا يمَل ولا يرتاح، يتمَلْمَل كتَمَلْمُل القِداح، وكأني به غريق، بين زفير وشهيق، يرجو التفاتة ملاَّح، ولاتَ حين فلاَح. ورُبَّ غِرٍّ مُقامر، يرجو عَونَ مُثابر. قال نزيه فقلت لناقل: من اتكل على زاد غيره طال جوعه، وغَثُّكَ خير من سمين غيرك. فقال: أحْوَجَتني تصاريفُ الدَّهر، وما قضى الله من أمر، ثم هي نوائبُ وظروف، وأفضل المعروف إغاثة الملهوف.
وأما "متواكِلُ بن مَكْسَل" فهادئ رزين، لا يُحرِّكُ غيرَ عَيْنَين، يُقَلِّبُهُما ذات اليمين وذات الشمال، والجسدُ مُسْتَوٍ على سوقه ثابتُ الحال. قليلُ الحركة كثيرُ النظر، أعدَّ عُدَّتَه ولَبوسَ الحذَر. يقتنصُ كلمة مِمَّن على يمينه، ويُتِمُّ بأخرى مِمَّن على شماله، فإذا جُملته ركيكة تشكو العُسْرة، وذا حالُ كلامٍ جُمِع يَمْنة ويَسْرة. ورأيتُ آخر يرمُق بين الحين والحين، وُرَيقة وضعها بين الفَخِذيْن. قال نزيه: فسَلَلْتُها كما تُسلُّ الشعرة من العجين، ووَعَظتُه بكلام الصادق الأمين، وأنا موقنٌ أن الحياءَ مانُعُه من الغش لا محالة، وأن وَعظِيَ حرَّك فيه دواعي النبالة. فلم تمض غير هُنيهة، حتى استثقل البُرْهة، قال قد حان الأجل، ثم أخرج على عَجَل، مِن تحت إبطه وُرَيقات أُخَر، أحْرُفُها أدقُّ مِن رؤوس الإبَر، لا رَيْبَ حاجَ نسْخُها ليالٍ مِنَ السَّهَر، فتبخَّرَت كُلُّ عِظاتي والعِبَر. وكأنه أيقنَ أن الغشَّ قضاءٌ وقَدَر، وأن الله قد عفا وغفر، ما تقدم من غشٍّ وما تأخر.
قال نزيه: فانتزعتُها منه بقوة، وقلتُ أتَغُشُّ عَنوة؟ أم تحسبُ الغشَّ فُتوة؟ فردَّ علي في صلف واستكبار: ومن يُحاسِب الغشاشين الكبار؟ لصوص الليل والنهار، مَن أفرغوا الخزائن، وأفقروا المدائن، فنحن كما ترى، قُلْ ولا فَرى، خربَتِ الديار، والناسُ على النار، فمنهم طالبُ انتحار، وآخرون ركبُوا البحار، فكانوا طُعماً لحيتانٍ وقروش، والمَجْدودُ من عاد في نُعوش.
قلتُ: يا ولدي الناس مَجْزِيُّون بأعمالهم، وهل يُغيِّرُ غِشُّك طبعَنا الجافي، أم تُراهُ يكون دواءَنا الشافي؟ حسيبُهم مَن يعلمُ ما تُخفي الصدور، وكل شيء عنده في كتاب مسطور. فإن غاب قاضي البلد السليب، فقاضي القضاة لا يغيب.
قلت لنزيه: وما كان حال مُربِّيات الأجيال، ومَن بهنَّ تبدأ طريق الأميال؟ فعلَيهنَّ العَوْل، مُوَطِّئاتِ الهَوْل. فقال نزيه: يا ليتني كنت نسياً مَنسيا، ولم أشهد خِزيا مَخزيا. لقد أقضَّ الغلمان مضجعي، فكدتُ أقول يا غَنَمُ ارتعي! وأيقنتُ أنهم مُفَوِّزون علَّقوا شنًّا باليَا، وأينَ المَفرُّ وقد لقيتَ وحشاً ضاريا؟ فقلت: ما الأمرُ وما الخبر؟ ولِمَ الحنق ولِمَ الضجر؟
قال: رأيتُ فتاة عهِدتُها حاسِرة، تَشَمَّلت عباءة ساترة، فإذا هي أكسى من بصَلة. فقلتُ لعلَّها توبةٌ نصوح، وربُّك كريم صفوح، وليس يُلامُ الطَّمُوح.
فقلت: فما كان من أمرِها يا نزيه، حدثنا وأنت النَّبيه! قال: لم تَنْقَض غير دقائق معدودة، وبَيْنا أنفاسُ المُمْتَحَنين مشدودة، إذ لمحتُها تحرِّكُ شفتيها مُهَمْهمِة، تخطُّ على الصحيفة رموزا مُبهَمة. فقلتُ لعلَّها لربِّها ذاكرة، مُثْنية عليه شاكرة. فدعوتُ الله لها بالتوفيق، إنه بمَن رجاهُ رفيق. حتى انكشف السرُّ الدفين، ووقع الأمر المشين، سِلْك تدلَّى من تحت الخمار، فبان أنه يُوحَى من وراء سِتار. قد أوثقَتْ هاتفَها بمِعْقادٍ رفيع، طوَّق جِيدَها وبئسَ الصنيع، وتدلى الهاتف إلى صدرها كأنه رضيع.
قال نزيه فقلت لها: عينُكِ عَبْرى والفؤاد في دَدٍ، ويلَكِ يا أَمَةُ من غَدٍ! خِلْتُكِ تائبة، لا تشوبُكِ شائبة، فإذا توبتُك كتوبة الثعلب، تحت جلدِ الضَّأن قلبُ الأَذْؤُب. فردَّت في امتهان: آفة العلم النسيان، والأصيل يجود، فلا تقطعوا رحمة المعبود! ثم إن العيش نُجْعَة والحرب خدعة، وهل نحن إلا كلاعب الشطرنج على الرُّقعة! قلتُ: يا هذه احْلُبيها بالساعدِ الأشد! وفي مخالفة الهوى كلُّ الرَّشَد. ومَن أعانَكِ على الشر ظلمك.
قال نزيه: ولقد أشبعوني كلاما عن الضرورات، وما أباحتْ من محظورات، وعن مرارة الواقع، وأملٍ ضائع. ولقد وجدتُني كالنافخ في غير ضَرَم، ومِن العَنَاء رياضةُ الهَرِم. ولولا أن أكثر الظنون مُيون، لَنَتفْتُ حواجِبَهُم وفقأتُ العيون، ثم هِمْت على وجهيَ كالمجنون.
فقلتُ لنزيه: صدق من قال: عند الامتحان يُكرَم المرء أو يهان. فقال: ولقد أُهِنتُ وهم المُكْرَمون، وأنا الرقيب وهم المُمْتَحَنون! قلتُ: يا نزيه لا تَذهبْ نفسُك عليهم حسَرات، إن الشبابَ مطيةُ الجهل ومنه فَلَتات. فإن تَعَهَّدَ الشباب، أولو الألباب، كانوا خيارَ الناس، ما بهم باس. وإن غاب اللبيب وعزَّ الأريب، وأعرضَ الطبيب وأشاح القريب، فمَن للمساكين غير تُرَّهاتِ السَّباسِب؟
قال: صدقتَ والله، فمتى استقام الظلُّ والعودُ أعوج؟!

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي