طرابلس 7


الأيام تمر، ولا شيء يبقى على حاله، حتى وإن حاول مخاتلتنا والتجمُّل. الناس ليسوا هم الذين عرفتهم، ولا الدروب. لم تعد لي من متعة في التجول بطرقات المدينة، رويداً رويداً بدأت التخلي عن جولاتي الصباحية، والركون للبيت. صرت كائناً ساكناً.

زوجتي تقول إني تغيرت كثيراً منذ توقفي عن العمل، وركوني بشكلٍ دائم للبيت، فصرتُ أعلق على كل حركة، وأنتقد التصرفات والأوضاع. صرتُ أكثر حِدة وانفعالاً، على قولة (من زبيبة نسكر). صرتُ أراقب من أستطيعُ من الناس، ممن أعرفُ، أو ممن يمكنني متابعتهم. وجدت أن الجميع تغير بشكلً أو بآخر، لا أحد خارج دائرة التغيير، وبشكل أدق، في طرابلس لا شيء خارج التغيير. فالأسعار مثلاً كانت الأسرع والأكثر تغيراً، والتباين فيما بينها لم يعد يعتمد الربع والنصف، بل قفز في بعض السلع إلى الدينار والاثنين. أما السلع ذاتها فحدث ولا حرج، ولن أذهب في هذا أكثر مما ذكرت. لأن قصدي من الموضوع هم البشر.

بدايةً، لم يدر ببال أي ليبي، أو يخطر، أن يحدث ما حدث. فعندما بدأت الدعوة للخروج يوم 17 فبراير على الفيسبوك وبعض المواقع الأخرى، كنا في جلساتنا نتحدثُ عن مظاهرة أو تظاهرة ستنتهي سريعاً ولن يكتب لها الاستمرار (أو هكذا خمنت). ولكوني كنت خارج طرابلس، وأقرب لبؤرة الحدث، كنت أسمع بين الفينة والأخرى، عن الاستعدادات لهذا اليوم، ومع هذا لم يستطع عقلي –الصغير- أن يربط بين هذه الخيوط، فكانت العقد تعيقني عن إكمال المشهد، وربما كنت أوجدها قصداً خوفاً، أو ربما حالة اليأس التي نعيشها، ربت عقولنا على الصور النمطية. وانطلقت الثورة، وتطورت وتفاعلت بشكلٍ سريع. في وسط الأحداث، كنا نقول: ستنتهي قريباً، يمكنه فعل ذلك. لكن الثورة صمدت واستمرت.

علينا الاعتراف بأنها كانت صدمة كبيرة لنا، ورغم العلم الظاهر بقربها، من خلال ما تُداول على النت وما انتشر بين الناس، إلا إنَّا لم نكن نريد تصديق هذا الأمر، خوفاً مركباً؛ خوفاً من مبدأ التغيير، خاصة وإن الإنسان يميل لحال الاستقرار، وسيكون من الصعب على البعض تقبله أو المشاركة، دعة منهم واستكانة للوضع السابق. وخوفاً مما سيأتي، وهذا طبيعي، كون الإنسان عدو ما يجهل، بالتالي سيقف على الضد، وهما النقطتان الأساسيتان اللتان عمل الإعلام على نفخ نار نارهما، وتزكيتهما. ولعل هذا ما يفسر انكفاء البعض على أنفسهم، دون الخوض أو الاشتراك في الحدث، وهم ينأون بأنفسهم عن الفتنة –كما يقولون-. وفي الجانب الآخر، ثمة من أعلن انحيازه إما مع، أو ضد ثورة 17 فبراير.
فالضد يعكس حالة الخوف الكبير من التغيير، لا اقتناعاً بوهم الأمن الذي كان، وهو قناعة البعض، إنما لاقتناعهم بأن هذا التغيير سيكشف الغطاء عن الكثير مما عملوا طوال السنوات الـ42 على إخفائه. أما المذهل في الأمر هو تمظهرات هذا الضد، أو حالات البشر التي تحاول بكل الأشكال تأكيد ضديتها.
على أحد الشرفات القريبة من سكناي، وعلى الطريق العام، عُلقت لافتة تأكيد مولاة مدعمة بعلمين. جارٌ قريب أكتفى برفع علمٍ أعلى بيته. جارٌ آخر، كان يؤكد ضديته بشكل مختلف. فكان في كل مرة يفجعنا بإطلاقه لصليات من كلاشنكوف مميز، أسود اللون بأخمس خشبي، غير مفرق بين ليلٍ أو نهار. أما الطريف، فهو سيارة اختفت معالمها _أظنها هوندا_ مما ألصق عليها من صور وعلق عليها من أعلام، مرت بجانبي لتتوقف عند الإشارة الضوئية، الأطرف في الموضوع، أنه وعندما فتحت الإشارة الضوئية، وانطلقت السيارة تركت خلفها سحابة سوداء خانقة، لوثت المكان.

بالرغم من أن السواد الأعظم من سكان طرابلس كان مع التغيير، إلا أنها كانت الفئة غير الظاهرة، فالبعض آثر السكون خوفاً من الممارسات التعسفية، التي يمارسها النظام، ضد كل من يعارضه، حتى إنه لم تخل زنقة من بيت لديه معتقل، هذا غير المداهمات التي لا يقصد من ورائها إلا السلب والحرابة. البعض، وخاصة الشباب انتظموا في مجموعات سرية لغرض التحرير، في عمليات نوعية جريئة، في ظل قبضة أمنية صارمة. انعدمت الثقة، صار الليبيون المنطلقون بطبيعتهم أكثر تحفظاً وصمتاً، وتجهماً. مع أو ضد التغيير، الكل اتفق حول الجهد لتخزين الوقود والتموين، بصبر وجهد النمل.
______________
تنويه: سلسلة المقالات هذه كتبت خلال الفترة من شهر مارس وحتى سبتمبر 2011. في محاولة لرصد أحوال طرابلس الحبيبة.


نشر بصحيفة فبراير_ 13-11-2011