آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: الفضاءات التربوية عند العرب في الجاهلية

  1. #1
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    08/07/2009
    المشاركات
    8
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي الفضاءات التربوية عند العرب في الجاهلية

    الفضاءات التربوية عند العرب في مرحلة ما قبل الإسلام
    (الأسواق نموذجا)
    د. محمد مريني

    مقدمة: هناك مقولة شائعة مفادها أن "التربية قد وجدت مع الإنسان". لذلك لم يكن غريبا أن نجد من يتحدث عن "تاريخ الفكر التربوي لمجتمعات ما قبل الميلاد"(1). من هذا المنظور، يمكن القول إن التربية قد وجدت مع وجود الإنسان: لقد كان هذا الإنسان يستمد خبراته وسلوكه من مصادر -تشكل بالنسبة إليه- "النموذج الأعلى"؛ ممثلة في "الأب" أو"الزعيم" أو "شيخ القبيلة"...إلخ. وأفترض أنه من المفيد تسليط الضوء على بعض المراحل من تاريخنا التربوي؛ لأنه من الصعب علينا أن نجد طريق المستقبل ما لم نجد طريق الماضي، وأن فهم خبرات الأمة وتتبع سيرتها التاريخية ضرورة أولية لوعي الحاضر، وبداية لازمة للانطلاق إلى المستقبل. من المؤكد أن التربية التي يمكن الحديث عنها هنا ليست مؤطرة ضمن إطار منهجي واضح؛ ومن الصعب البحث عن مرجعية ثقافية أوفكرية تسندها من الخلف، بل هي تربية متداخلة مع حياة الناس، ومسالكهم اليومية. هي تربية تتناسل في المجتمع عبر آلية التقليد. من هنا نفهم طبيعة الصعوبات التي يمكن أن تعترض أي متحدث في هذا الموضوع. بالنظر إلى الإكراهات التي ذكرتها أعلاه سيكون حديثي منصبا على جانب واحد من المسألة التربوية، وهو الفضاء الذي كانت تقدم فيه هذه التربية، وعلى نموذج واحد من هذه الأفضية، وهو الأسواق.

    1- لقد كان العرب يعرفون لدى الشعوب القديمة بأنهم وسطاء التجارة وحفظة دروبها، جريا على عادتهم في الحل والترحال، وارتيادهم ما في الأرض من مرعى ومسارب ومناهل وآبار، وكذا صبرهم على صعوبات السفر وأخطاره، ثم إن بلادهم كانت- بحكم موقعها الجغرافي- حلقة وصل بين ممالك العالم القديم. ولقد قال "استرابون" بحق: "إن العربي تاجر بفطرته"(2).
    من أهم العوامل المساعدة على انتشار التجارة بين العرب الموقع الجغرافي للبلاد العربية، بين أعظم الدول وأقدم الحضارات: فإلى شمالها الشرقي بلاد فارس، وإلى شمالها الغربي بلاد الروم ومصر، وإلى غربها الجنوبي وراء البحر بلاد الحبشة، وفي جنوبها البحر الهندي، الذي يفصلها عن بلاد الهند. يقول صاعد الأندلسي:
    "وأما بلاد العرب فهي معروفة بجزيرة العرب سميت بذلك لأن البحر محيط بها من جهاتها الثلاث التي هي المغرب والجنوب والمشرق ففي مغربها خليج جدة والجار وإيلة والقلزم والخارج من البحر الكبير بحر الزنج والهند، وفي جنوبها بحر عدن وهو البحر الكبير. وفي شرقها بحر عمان والبحرين والبصرة وأرض فارس"(3).
    لذلك ليس من الغلو القول إن أعظم تجارات العالم، منذ القديم حتى القرون الوسطى، هي بين البلاد التي ذكرناها. لقد كانت الدول التي تتنازعان النفوذ والسيطرة - في ذلك الوقت- هما فارس والروم، وكانت الدولتان على علاقة تجارية مع بلاد العرب في الشمال والجنوب.
    من العوامل المساعدة أيضا ما عرف عن العرب من اشتغال بالصناعات في الجاهلية والإسلام. من النصوص الطريفة المتداولة في هذا المجال ما جاء في كتاب "المحاسن والأضداد" المنسوب للجاحظ:
    "روي أن أبا طالب كان يعالج العطر، وأما أبو بكر وعمر وطلحة وعبد الرحمان بن عوف فكانوا بزازين، وكان سعد بن أبي وقاص يعذق النخل، وكان أخوه عتبة نجارا، وكان العاص بن هشام أخو جهل بن هشام جزارا، وكان الوليد بن المغيرة حدادا، وكان عقبة بن أبي معيط خمارا، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح البيت (الكعبة) خياطا، وكان سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان أمية بن خلف يبيع البرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسا، وكان العاص بن وائل يعالج الخيل والإبل، وكان جرير بن عمرو وقيس أبو الضحاك بن قيس ومعمر بن عثمان وسيرين بن محمد بن سيرين كانوا حدادين وكان المسيب أبو سعيد زياتا، وكان ميمون بن مهران بزازا، وكان مالك بن دينار وراقا"(4)....إلخ.
    2- ولقد أقام العرب أسواقا للبيع والشراء، وإذ لم تكن هذه الأسواق في الدرجة الأولى على غرار أسواق الرومان، ولا كان أهلها سابقين في مضمار الحضارة كثيرا، لكنها لم تخل مع ذلك من آثار بعيدة في التحضر، وقد استفاد منها تجار مكة شيئا يعتد به في السياسة و الاقتصاد.
    لقد كانت هذه الأسواق مختلفة في طبيعة أنشطتها، منها ما كان يقتصر على ما يجاوره من القرى، وما ينزل بساحته من القبائل مثل سوق "هجر" و"حجر" و"اليمامة" وغيرها، ومن هذه الأسواق ما كان عاما تفد إليه الناس من أطراف الجزيرة كلها، مثل سوق عكاظ. كما أن لكل مدينة - بطبيعة الحال- أسواقا، وإنما المقصود هنا الأسواق الموسمية منها، التي كان يُختار لها أيام محددة، تقام فيها ويغشاها الناس. فإذا كان لإحدى هذه الأسواق موقع جغرافي مهم، تميزت عن الأسواق الأخرى التي توجد في قلب الجزيرة العربية. لذلك تميزت أسواق مثل "عدن"، و"صنعاء" وعمان"- وهي أسواق كانت على ساحل البحر(5) - على بقية الأسواق التي توجد في قلب الجزيرة مثل "حجر"، و"حضرموت". وذلك لشيوع الاتجار مع الجيران من هند وحبشة وفرس في الأولى، واقتصار الثانية على القبائل المتاخمة لها. لذلك فقد تميزت الأسواق التي توجد على ساحل البحر بوجود الوافدين الأجانب وتأثر أصحابها باختلاطهم بهؤلاء وما يستتبع ذلك من انتقال القيم والعادات والأفكار.
    لعل الدافع المهم الذي كان يجذب العرب في الجاهلية إلى قصد تلك الأسواق هو زمن إقامتها الذي كان في الأشهر الحرم، وما يستوجبه ذلك من شيوع الأمن، حرمة للشهر، ولأن مواسم بعض الأسواق مثل "سوق عكاظ" و"سوق مجنة" و"سوق ذي المجاز" تقع في أيام حج العرب. قال أبو علي المرزوقي: "ثم يرتحلون منها (من صحار) إلى دبا وكانت إحدى فرض العرب يجتمع بها تجار الهند والسند والصين وأهل المشرق والمغرب، فيقوم سوقها آخر يوم من رجب فيشترون بها بيوع العرب"(6).
    لذلك فقد كانت القبائل المختلفة تأتي إلى هذه الأسواق من كل حدب وصوب، ومعهم خيرات بلادهم، وتلك ميزة لا تتمتع بها بلدة غير مكة ولا يتميز بها قوم غير قريش. ولقد امتن الله عليهم بذلك في قوله: "أولم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء"(7). وقوله أيضا: "أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم"(8). لقد كانت هذه المواسم توافق زمن الحج، ويختلط أمرها بشعائره (فمنى وعرفة وعكاظ ومجنة وذا المجاز مواعيدها مواسم الحج).
    "والغريب أن هذه الأسواق، كما يقصدها طالب الربح والشراء، يقصدها طالب الأمن والفداء، فكم أوى إليها من خائف يطلب من يجيره فيجده ويلجأ إليه، وكم من رجل حمل معه فداء أسير ففكه من أسره. وكم سادات تحملوا ديات ودماء فكانوا سبب الصلح بين قبيلتين كبيرتين"(9).
    يمكن تقسيم هذه الأسواق إلى ثلاثة أقسام:
    - أسواق خاضعة للنفوذ الأجنبي، تتضاءل فيها الصفة العربية، وتدار بنظم خاصة. وكان الذي ينظر في هذه الأسواق عمال عرب يعينهم ولاة الفرس وولاة الرومان، وهؤلاء العمال الذين يتولون السوق يستفيدون من أعشار أهلها. كما نرى في "الحيرة" و"هجر البحرين" و"عمان"... وغيرها من المواطن التي كانت السيطرة فيها للفرس. وكذلك "بصرى" و"أذرعات" و"غزة" و"أيلة" التي كانت يديرها الرومان.(10)
    - أسواق أنشاها العرب أنفسهم، يتبايعون فيه ببيوع خاصة بهم، ويشرف عليها سراتها، ولا عاشر في هذا القسم، كما رأينا في النوع الأول. فهي عبارة عن مناطق حرة، تمثل الطابع العربي أصدق تمثيل؛ من حيث العادات في عمليات البيع والشراء. يمكن اعتبار هذه الأسواق مرآة العرب في الجاهلية. ومن خلالها نستطيع أن نعرف ما كان عليه العرب في معاملاتهم والعلاقات في ما بينهم: وهي أماكن لا أثر للنفوذ الأجنبي فيها، ونمثل لهذا النوع بسوق عكاظ.
    - أسواق ذات صبغة مختلطة؛ إذ يختلط فيها تجار العرب والحبشة والهند والصين وفارس، ويتضاءل فيها الطابع القومي بمقدار ما يقوى شأن الطابع التجاري. وكانت هذه الأسواق متميزة بموقعها الجغرافي، إذ توجد على ساحل البحر مثل"عدن" و"صحار" و"دبي"(11).
    إن الحديث عن التجارة عند العرب قد يطول، لكننا سنركز على ما له علاقة بانتقال المعارف والمفاهيم والأفكار. من مظاهر انتقال المعارف بواسطة التجارة نذكر ما يلي:
    3- من أهم الجوانب التي يمكن الوقوف عندها هنا ما يتعلق بتأثير هذا الاختلاط في اللغة. وإذ كان أكثر هذه الأسواق حولية تقوم في أيام معلومة في كل سنة، كان من المعقول أن تكون ميدانا لغير البيع والشراء؛ كان فيها تناشد الشعر، وكان فيها تفاخر وتعاظم ومقارعة... فيفوز في هذه أقوام ويخسر آخرون، وتحتفل العرب لهذا الأمر الاحتفال اللائق بها.
    وكان لهم محكون يُحتكم إليهم في مفاخرتهم وأشعارهم. وقد تواترت الأخبار عما كان يدور في هذه الأسواق من مبارزات بين الشعراء. وكان من أشهر المحكمين في الشعر النابغة الذبياني. فقد كانت تنصب له خيمة من جلد أحمر في عكاظ، ويعرض عليه الشعراء أشعارهم. فقد روي أنه دخل عليه حسان بن ثابت، وعنده الأعشى وقد أنشده شعره، وأنشدته الخنساء قولها:
    قذى بعينـــك أم بالعيــــن عـــوار
    أم ذرفـــت إذ خلـأـت من أهلها الدار
    حتى انتهت إلى قولها:
    وإن صخـــــرا لتأتـــــم الهـــــداة به
    كأنه علـــــم في رأســــــــــه نـــار
    وإن صخــــــــــرا لمولانــــــا وسيدنا
    وإن صخــــــــرا إذا نشتــــــو لنحــار
    فقال: لولا أن أبا بصير أنشدني قبلك لقلت: إنك اشعر الناس، أنت والله اشعر من كل أنثى! قالت: والله ومن كل رجل.
    فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها. قال: حيث تقول ماذا؟
    قال حيث أقول:
    لنا الجفنــــات الغـر يلمعن بالضحا
    وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
    ولدنـــا بني العنقـــاء وابني محرق فأكرم بنـــــا خالا وأكرم بنا إبنا
    فقال: إنك شاعر لولا أنك قلت (الجفنات) فقللت العدد، ولو قلت (الجفان) لكان أكثر. وقلت: (يلمعن في الضحى). ولو قلت: (يبرقن بالدجا) لكان أبلغ في المديح، لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت: (يقطرن من نجدة دما)، فدللت على قلة القتل. ولو قلت (يجرين) لكان أكثر لانصباب الدم، وفخرت بما ولدت، ولم تفخر بمن ولدك، فقام حسان منكسرا(12)
    وقد لاحظ الجاحظ أن للعرب أسواقا "كانت بين دورهم ودور العجم، يلتقون فيها للتسوق والبياعات، وهي كانت أوسع أبواب الدخيل والمعرب (في التسلل والعلوق) في هذه اللغة العربية. وذكر منها الجاحظ في كتابه (الحيوان) سوق الأبلة وسوق الأنبار وسوق (لقة) وسوق الأنبار وسوق الحيرة"(13).
    أما لغة قريش فقد استفادت من جانب آخر؛ ذلك أن قيامها على المواسم لمدة طويلة قبل البعثة، بوأها المكان الأعلى في التعبير اللغوي، لأن لغات مختلف القبائل كانت تطرق مسامعها على الدوام، فتنتقي منها الحسن، وتترك غيره. وقامت على هذا الاصطفاء زمنا كافيا حتى تهيأت لها هذه اللغة المتميزة، التي سينزل بها القرآن الكريم على أفصح ما تكون الفصاحة.
    وكان الشعراء الذين يفدون للإنشاد في سوق عكاظ يتوخون اللغة المجمع على فصاحتها، والتي صار لها النفوذ والشيوع، ما للغات المجمع على فصاحتها، والتي صار لها من النفوذ والشيوع ما للغات العالمية اليوم. فكأن لهجة قريش هي اللهجة الرسمية بين لهجات الجزيرة كلها حتى اليمن والحيرة وغسان. لذلك فإن أعظم آثار الأسواق قبل البعثة، هو ذلك التوحيد اللغوي الذي جرى بين القبائل العربية من عامة الأقطار. ولقد كان للشعراء في هذا المجال أبلغ الأثر، في انتقاء الألفاظ والأساليب وشيوعها بواسطة الرواة في القبائل، وإذا شئنا اختصار ذلك كله في كلمة واحدة يمكن القول: إن نهضة الشعر مدينة للأسواق، بل مدينة لعكاظ خاصة. عرف لها هذا الأمر منذ الجاهلية حتى اليوم.
    ذكر الجاحظ جمهورا من حكماء العرب، فقال:
    "ومن القدماء ممن يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء: لقمان بن عاد ولقيم بن لقمان، ومجاشع بن دارم.....ولؤي بن غالب وقس بن ساعدة وقصي بن كلاب ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء: أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة وعامر بن الظرب، ولبيد بن ربيعة"(14).
    كان علقمة بن عبدة ينازع امرأ القيس الشعر. وقال علقمة: حكمت امرأتك أم جندب بيني وبينك فقال: قد رضيت. فقالت: أم جندب: قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة، فقال: امرؤ القيس قصيدته التي أولها:
    خليلي مرا بي على أم جندب لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
    وقال علقمة:
    ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقا هذا لتجنب
    ثم انشداها جميعا، فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك، قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأنك قلت:
    فلسوط ألهوب وللساق درة وللزجر منه وقع أخرج مهذب
    فجهدت فرسك بسوطك وزجرك، فأتبعته بساقك، وقال علقمة:
    فولى على آثارهن بحاصب غيبة شؤبوب من الشد ملهب
    فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه، لم يضربه بسوط، ولم يمره بساق ولم يزجره، فقال لها ماهو بأشعر مني ولكنك له عاشقة. فطلقها وخلف عليها علقمة، فسمي: "الفحل" بذلك(15).
    يشير ابن الفارس إلى معرفة العرب في الجاهلية لعلم العروض، والدليل على ذلك "اتفاق المشركين لما سمعوا القرآن قالوا-أومن قال منهم-: إنه شعر. فقال الوليد بن المغيرة منكرا عليهم: لقد عرضت ما يقرؤه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه وكذا وكذ، فلم أره يشبه سيئا من ذلك. أفيقول الوليد هذا وهو لا يعرف بحور الشعر"(16) .
    دليل آخر على معرفة الجاهليين بالعروض وعيوب القافية، ما ذكره أبو عبيدة قال: "حدثني أبو عمر بن العلاء قال: فحلان من الشعراء كانا يقويان: النابغة وبشر بن خازم: فأما النابغة فدخل يثرب فغنى بشعره، ففطن فلم يعد إلى إقواء. وأما بسر فقال له أخوه: إنك تقوى. فقال له: وما الإقواء؟"(17).
    4 - لقد كان القرشيون يختلطون كثيرا، في تجارتهم بغيرهم. كانوا يختلطون بالروم والفرس والحبشيين. وقد جعلهم هذا الاختلاط يتميزون عن سائر العرب بميزات أفادوها، فتعلم فريق منهم الكتابة من الحيرة، ونشروها لما رجعوا إلى بلادهم فكان في مكة والطائف عدد ممن يحسنون الكتابة. وقيل أنه عند مجيء الإسلام كان في مكة سبعة عشر كاتبا، وفي المدينة أحد عشر كاتبا، وإن كان المظنون أن عددهم في هاتين المدينتين كان أكبر من ذلك. كما كانت الكتابة منتشرة في أماكن التحضر المتاخمة للبلاد الأجنبية المتحضرة: في الشمال الشرقي لجزيرة العرب، وفي شمالها الغربي، وفي اليمن جنوبا، وفي الحجاز أيضا(18). من بين وسائل التدوين التي استعملها العرب في هذا المجال الورق الصيني، الذي كانوا يستوردونه عن طريق التجارة(19).
    ويذكر أنه كان لبشر أخي أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل صحبة بحرب بن أمية التاجر القرشي الكبير لتجارته عندهم في بلاد العراق فتعلم حرب منه الكتابة، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب، فتعلم منه جماعة من أهل مكة. لذلك كثر من يكتب بمكة من قريش قبل الإسلام. وقد قال رجل كندي من أهل دومة الجندل يمن على قريش بذلك(20):
    لا تجحدوا نعماء (بشر) عليكم
    فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
    أتاكم بخط الجزم حتى حفظتم
    من المال ما قد كان شتى مبعثرا
    وأنفقتم ما كان بالمال مهملا
    وطامنتم ما كان منه منفرا
    فأجريتم الأقلام عودا وبدأة
    وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
    وأغنيتم عن مسند الحي حمير
    وما زبرت في الصحف أيال حميرا
    ومهما يكن فقد كان أكثر كتاب الوحي لرسول الله (ص) من قبيلة قريش. وكان القرشيون أقرب العرب من العلم والثقافة والتهذيب، لمخالطتهم الأجانب، وقبسهم شيئا من تعاملهم في بيوعهم وتجارتهم حسبما كانوا يرون في الأسواق التي كانوا يحطون رحالهم فيها.
    5- كانت هذه الأسواق فضاء لانتقال بعض العلوم التي كانت متداولة عند العرب الجاهليين. سنقف من خلال ما يلي عند طائفة من هذه العلوم التي كان العرب يتداولونها:
    - علم التنجيم: يشير الكثير من الدارسين إلى معرفة العرب لعلم التنجيم، أو علم النجوم؛ وهو معرفة أحوال الكواكب، وبه كانوا يهتدون في ظلمات البر والبحر، ويعرفون أزمنة الخصب. يقول صاعد الأندلسي: "كان للعرب معرفة بأدوات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بالأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة لا عن طريق تعلم الحقائق و لا على سبيل التعلم في العلوم"(21).
    من أشهر القبائل التي برعت في هذا العلم بنو حارثة بن كلب، وبنو مرة بن همام، وقد كانوا أبرع في هذا العلم منهم في كل علم سواه. وكان هذا النوع من المعارف ينتقل بين الجاهليين بطريقتين: طريق التوارث، والاقتباس من الأمم المجاورة:
    أما التوارث فقد ذكر الجاحظ أن العرب "عرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء، لأن من كان بالصحاصح الأماليس -حيث لا إمارة ولا هادي مع حاجته إلى بعد الشقة- مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤديه، ولحاجته إلى الغيث، وفراره من الجدب، وضنه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب، ويرى التعاقب بينها، والنجوم الثوابت فيها. وما يسير منها مجتمعا، وما يسير منها فاردا، وما يكون راجعا ومستقيما"(22) . كما ذكر ابن خلدون أن "للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثا عن مشايخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض، إلا أنه ليس على قانون طبيعي، ولا على موافقة المزاج وكان عند العرب من هذا الطب كثير وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره"'(23) .
    أما الاقتباس من الأمم المجاورة، فقد ذكر الدارسون أن بعض معارف العرب في علم النجوم انتقلت إليهم من الكلدان لاختلاطهم بهم ولاتفاق اللغتين في كثير من أسماء الكواكب والبروج.
    - الفراسة والقيافة: فالفراسة هي الاستدلال بهيئة الإنسان وشكله ولونه وقوله على أخلاقه وفضائله ورذائله وقد نبغ فيها من العرب عدد كبير. .
    أما القيافة فهي الاعتماد على آثار الأقدام للاهتداء إلى أربابها، أو الاستدلال بالهيئة الخارجية للإنسان، أوأعضائه لتحديد نسبه، أو جنسه. وقد كان هذا العلم -الذي هو ضرب من الفراسة- يسعفهم في التمييز بين أثر الرجل والمرأة، وبين أثر الصغير والكبير، وبين أثر الأعمى والبصير، والأحمق والعاقل...إلخ. ومما هو قريب من هذا العلم ما يتعلق بوصف الأرض؛ أي معرفة كل بقعة وما يجاورها وكيف يهتدى إليها.
    بعض هذه الأنواع من المعارف كان يكتسي طابعا غيبيا، مثل علم العرافة وهو معرفة الاستدلال ببعض الحوادث الخالية على الحوادث الآتية بالمناسبة، أوبالمشابهة الخفية التي تكون بينهما. وكذلك الكهانة، التي فيها ادعاء معرفة الغيب بالأمور المستقبلية. وقد كانت طريقتهم في الاستدلال في هذه الأمور قائمة على مطابقة الأحداث الخالية بالأحداث الآتية لما بينهما من المشابهة الخفية. وقد كان للعرب اعتقاد كبير في الكهان؛ لزعمهم أنهم يعلمون الغيب، فيرفعون إليهم أمورهم للاستشارة، ويستفتونهم عن الرؤى ويستطبونهم في أمراضهم. وممن اشتهر من الكهان "شق أتمار" و"سطيح الذئبي". واشتهر من الكاهنات "طريفة الخير" و"سلمى الهمداني". كما اشتهر من العرافين: عراف نجد "الأبلق الأسدي"، وعراف اليمامة "رباح بن عجلة"
    - الزجر: هو الاستدلال بأصوات الحيوان وحركاته وكافة أحواله على الحوادث بقوة الخيال والاسترسال فيه ومن أشهر الزاجرين: بنو لهيب وأبو ذؤيب الهذلي ومرة الأسدي. وقد أكد الجاحظ وجود علاقة بين "التطير" وبزجر الطير بقوله: "وأصل التطير من الطير إذا مر بارحا وسانحا، أويتفلى وينتف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أوالبهائم، أوالأعضب أوالأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا(24).
    - علم البيطرة: تحدث الجاحظ عن معرفة العرب لعلم البيطرة فقال:
    "كثيرا ما يبتلون بالناب والمخلب، وباللدغ واللسع والعض والأكل، فخرجت بهم الحاجة إلى تعرف حال الجاني والجارح والقاتل، وحال المجني عليه والمجروح والمقتول، وكيف الطلب والهرب، وكيف الداء والدواء، لطول الحاجة ولطول وقوع البصر، مع ما يتوارثون من المعرفة بالداء والدواء"(25).
    - تأثر العرب في رحلاتهم ببعض المعتقدات أيضا، إذ إنه من المألوف أن يحمل الرحالون من البلاد التي ينزلونها شيئا من طرائقها في العادات والدين والأخلاق والعروض والأزياء، يتحدثون عنه إذ ردتهم أسفارهم إلى بلادهم.
    فقد ذكروا أن عبادة الأصنام طارئة على أهل مكة من الشام، وأن عمرو بن لحي – فيما زعموا – أول من نشر عبادة الأصنام حول الكعبة حين حمل معه أصناما وجدها في جنوب الشام، فنصب في الكعبة. وفشت في جماعة من قريش زندقة حتى قال صاعد: "كانت الزندقة في قريش أخذوها عن أهل الحيرة"'(26).
    - كانت هذه الأسواق فضاء لانتقال العادات والتقاليد المختلفة؛ ذلك أن كل اختلاط بين فريقين لابد أن ينتهي بأثر في كل منهما، فاليمني يقتبس شيئا من أخلاق الحجازي، والنجدي يأخذ ألوانا من عادات العماني أوالحميري...وهلم جرا. تصدق هذه الملاحظة على الدين أيضا. بل إن أ ثر هذا الاختلاط في الدين أبلغ، لقيام الجميع بمناسك واحدة يؤمهم فيها قريش أهل الحرم(27).


    الهوامش:
    1- العربي فرحاتي، تاريخ الفكر التربوي لمجتمعات ما قبل الميلاد، دراسة أنتربولوجية للفكر الثقافي والتربوي، مراجعة وتقديم: عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، الدار البيضاء، 2004م
    2- سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الكويت، ط4: 1993، ص: 10.
    3 القاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، نشره وذيله الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت، 1912، ص : 45.
    4- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، كتاب المحاسن والأضداد، عني بتصحيحه محمد أمين الخانجي، نشر مكتبة الخانجي، 1324ه،
    5- للمزيد من التفاصيل حول هذا الجانب يمكن الرجوع إلى فصل"الملاحة في المنطقة العربية قبل الإسلام"، وذلك ضمن كتاب: د. أنور عبد العليم، الملاحة وعلوم البحر، سلسلة عالم المعرفة، عدد: 13، يناير 1979، ص:15 وما بعدها.
    6- أبو علي المرزوقي، الأزمنة والأمكنة، مطبعة مجلس دائرة المعارف، حيدر آباد الدكن، 1332ه، ج:2، ص: 162.
    -7سورة القصص:57.
    8- سورة االعنكبوت: 68.
    9- سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية، ص: 91.
    10- المرجع نفسه، ص: 93.
    11- المرجع نفسه، ص:94.
    -12 المرزباني، أبو عبد الله محمد بن عمران، الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، المكتبة السلفية، 1343، ص : 60
    13- تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، بعناية: محمد سعيد العريان، ط2: 1940، ج:1، ص:174.
    14- الجاحظ، البيان والتبيين، ج:1، ص: 350
    15- ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم، الشعر والشعراء، ج: 1، دار الثقافة، بيروت، (ب-ت)، ص: 145.
    16- ابن الفارس، أبو الحسين أحمد بن زكريا، الصاحبي في فقه اللغة، المكتبة السلفية، 1910،، ص: 11.
    17- ذكره ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمته التاريخية، ط5، دار المعارف، 1978، ص:49.
    18- عز الدين إسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي، دار النهضة العربية، بيروت، 1976، ص: 11.
    19- ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، ص: 89
    20- لمرجع نفسه، ص: 24.
    21- القاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، نشره وذيله الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت، 1912، ص: 40.
    22- أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الحيوان، ج: 6، تحقيق: عبد السلام هارون، ط الحلبي، 1945، ص: 30.
    23- مقدمة ابن خلدون، دار القلم بيروت، لبنان، 1978، ص: 492.
    24- الجاحظ، الحيوان، ج : 3، ص: 438.
    25- المصدر نفسه، ج: 6، ص: 26
    26- المرجع نفسه، ص:53.
    27- المرجع نفسه، ص: 90.


  2. #2
    مـشـرفة منتدى التطوير الذاتي والإنماء المهني الصورة الرمزية سميرة رعبوب
    تاريخ التسجيل
    13/05/2011
    المشاركات
    7,487
    معدل تقييم المستوى
    20

    افتراضي رد: الفضاءات التربوية عند العرب في الجاهلية

    يستحق القراءة والإطلاع
    تحياتنا للكاتب الأديب / محمد مريني

    رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •