يسألُني مَن استطاب مقامَ الغَرَر: ألا تُجالِسنا؟ ولا يفعلُ مَن يخشى رَدَغَة الخَبال. كيف ومَجالسُهم تَطول بلا طائل، وجليسُهم شقي غير سعيد! كيف وليس في كلامهم غير تَمَنٍّ بلا عمل، وسُخْطٍ وذَمْرٍ وانقطاعِ أمَل، أو شكوى غير مُنَفِّسَة! وإن الشاكي لَيعلَمُ علمَ اليقين أنْ لا حوْل للسامع ولا حِيلة. وأنَّى للغريق أن يُنجِد الغريق؟ وهل شأنُهما إلا شأن عَبْدٍ صَريخُهُ أَمَة؟ يتحادثون وهُم في نَفَسٍ مِن أمْرِهم حديثا مُكرَّرا جرى على ألْسُنِ الأغفالِ وتلقَّفه مَن يحسبون أنفسَهم من ذوي الألباب. وما لي والغِيبة وما كنتُ ممن يشتهي لحمَ الموتى؟ ألاَ وإنَّ مَن يَسمَعْ يَخَلْ. يسألني فأجيبُ: وما لي والهَمْز واللَّمْز؟
وإني لأعجب ممن كان يحدِّثُ أصحابَه فيستزيدونه فيمتنعُ كراهة السآمة عليهم وهم يشتهون، فيَتخوَّلُهم على حُبٍّ منهم ونَهَم، بينما ترى هؤلاء وقد بَزَّ مِكثارُهم مِهذارَهم، وأخرسَ مُهْتَرُهُم ثرثارَهم. هذا وليس في كلامهم ما يستجلبُ القلوب أو يُبرِئ سُقْمَها. كلاّ، ولا له حَلاوة ولا عليه طلاوة.
ويعلم الله أنْ لو كان في كلامهم حديثٌ مستطرَف، أو فنٌّ مستظرَف، أو نُكتةٌ مُستنبَطة، أو قولٌ بليغٌ، أو عِبرةٌ مستفادَة، أو حَلُّ مُعضِل، أو تَيْسيرُ عويصٍ، أو عِظةٌ تَوْجَلُ منها القلوبُ وتَذرِفُ العيون، أو حكمةٌ بالغةٌ لَعضضتُ عليها بالنواجذ وما سبَقني إليها أحد. لكنَّ الشقيَّ الشقيَّ مَن يرى أيامَه تَتداركُ وهو لا يُبالي أمَضتْ بخير أم بِشر، وسُوَيعاته تنقضي وهو في تَهَتُّر، وعُمُراً إذا ولَّى لا يعود، فذاك الشقاء بما لا مزيد عليه. اسمَعْ أيها الصديق والخِلُّ الوَفيّ! ما كنتُ لأشْرِيَ عُمُري بثَمنٍ بخس، ولا كنتُ فيه من الزاهدين. فعَشِّ ولا تَغْتَرّ! وإلا فإني لَأشكُرُ للقائل قوله: "أناشدُ من يُحبُّني أن يُحِبَّ وَحْدتي".
أيها الصاحب! اعلمْ أن الله قذف في رُوعِي مَقْتَ صنفين من الناس: مَن أَبْطَرَتْه النعمةُ وسَعة العيْش، والخامِل المُتعلِّل بالأقدار. وصنفٌ أتَّقِيه كما يُتَّقى الجَرَب: الغافِل السَّاهي الذي لا يتعوَّذ من العَجْز والكسل وقهْرِ الرجال. أدركتَ أيها الصاحب أنَّ ثلاثتَهم لا يُقدِّرُ الزمنَ حقَّ قَدْره؟ فإنهم لَيَروْنه أذلَّ من شِسْع النَّعل وأحقرَ من جناحِ بعوضة؟ فعياذاً بالله من قلوب لا تَفْقه. فكُنِ ابنَ أحْذار، وشَمِّرْ للأمر أذيالَه!