دَفنوهُ والرُّوحُ في عليائها تَرِفُّ رَفيفا. دفنوه وهامةُ العِزّة لم تنكسرْ. دفنوه وكلماتُ التوحيد تعلو وتعلو، والوجود بأسرِه شاهدُ حَقّ. يُسبِّح العبيدُ الآبقون بحَمد "الأسد"، ويُسبح الدّفينُ بحمد الواحد الأحد.
هَنِئْتَ الشهادةَ أيها العزيز! هنيئا يا فخَرْ الرجال! كأني بالرَّغامِ يَغضُّ الطَّرفَ خجلا إذ يُحْثى في وجهِ الوَضاءة، وعلى جبهةٍ تأبى السّجودَ لغير مَن هو أهلٌ للسجود. كأنَّ به حشرجةً يقول: معذرةً أيها النبيل! معذرةً فما أنا إلا تُرابٌ أُوطَأُ وأُداس! اُعذرْ قَبضةَ الطين إذ تَطاوَلُ على نفخةِ الرُّوحِ تَبْغي ذِلَّةَ العزيز. اعذُرِ الطينَ أنِ اتَّخذَك سُخْرِيّا. اعذرهُ أنْ نسِيَ أنه طينٌ فراحَ يَرجو إمْراغَ عِرْضِك. وهيهاتَ هيهاتَ و"الأسدُ" الأحمقُ ما يَجْأَى مَرْغَه. أتَصفحُ أيها الشهمُ إنْ قمتُ شاهداً بين يدَيْ ربّي -وهو العليم- أنَّك ما أعطيتَ الدَّنيّة في دينِك؟ أتَعفو -وأنت النبيل- لو صدَّقتُ اللِّسانَ واليدَ والرِّجلَ حين يَشهدون؟ فإنّي والله شاهدٌ أنّك أسلَمتَ الرُّوحَ مُقبِلا غيرَ مُدْبِر. أشهدُ أنه في ذاتِ الله كان مَصرعُك. أشهدُ أنّك العزيزُ وقاتِلوكَ الصَّاغِرون. فما تبغي بعْدُ أيها النبيل؟ أفوق الشهادة بُغية؟
وإني لأشهدُ أنّي ما أحسستُ كالذي كان حين لامسَتْ حبَّاتي جسدَك الطاهر، فإني لَأجِدُ بردا وسلاما ما أدركْتُه قطّ. وتلك لَعَمْرُ الله نفحةٌ تَضوَّعَتْ كما يَسْطعُ نسيمُ الصَّبا وتنتشرُ الرّيحُ النَّفوح. أفيَخذُلك ربُّك وأنت مَن نالها؟ هو طِيبٌ عَسِقَ بي حين دنا النَّقعُ من محيَّاك الكريم. هو مِسكٌ أَحْذَيْتَنِيه حين حاذيتُك. فكيف بالله وقد عانقَتْك رحمةُ الله؟ كيف وقد اختلطتِ الرُّوح بالرَّوْح وأنت سائرٌ إلى جِوارِ ربك؟ لا تحسبنَّ أنّي كنتُ أبغي ذَعْتاً أوخَنْقا؟ أأفعلُ ولسانُك لم يزلْ رطبا من ذكرِ الله؟ أوَيَفوتُك أني من المسبّحين بحمدِه؟ فلا تظُننَّ أني رجوتُ نزعَ رُوحِك أو طلبتُ سأْبا. إنما كنتُ أرتمي حيث وجدتُ ريح الجنّةِ طمعاً أن ينالني الذي نالك، وعسى أن أقبِسَ مِن نورك وقد أَسْنَى. أفلا تعذرُ اشْتِيافَ الطّين أنْ ينال مِن سَناءِ الرُّوح ولو يسيرا؟
فهنيئاً لكَ الشهادةُ أيّها الشهيد! هنيئاً لكِ الرّوحُ والرَّيحان أيّتها النفسُ المطمئنة! وسلام عليك إلى يوم الدين.