نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


سلام الله على الفاضل الدكتور الفاضل محمد خطاب سويدان...

حقا المطلق هو الله عز و جل و ما دونه نسبي لطبيعة الفناء التي قضى بها رب العالمين على ما دونه...

إن الجهل ضد العلم.
حقيقة لا يناقشها اثنان و لا يجادل في واقعيتها عاقلان. و الحقيقة هي كشف لمجهول أصبح معلوما في لحظة زمنية معينة...و من تم تظل الحقيقة سارية المفعول إلى أن يتم تفنيدها أو الإتيان بأكثر منها صحة و مصداقية و واقعية...

فهل الجاهلية و هي وصف لحالة تكررت عدة مرات في الكتاب الكريم الذي ينطق بالحق و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و لا ريب في عدم خضوعه للزمان و المكان بالرغم من ورود آيات تشير إلى أزمنة معينة و أمكنة معينة...فالعبرة بشمولية الدلالة و المعنى لا بخصوصية اللفظ و الحدث...أو بالحكمة التي تبتغي الآية تبليغها لا بالحدث التي نزلت من أجله...

حقيقة هو الحدث ينال نصيبه من الحكمة التشريعية أو الحكمة الوعظية أو حكمة التدبر و التفكر...و كذلك يمكن تنزيل الحكمة في معناها رغم بعد المسافة الزمنية و المكانية للحدث التي قيلت و نزلت من أجله الآية الكريمة...فالجاهلية بصورها المتعددة هي دعوة باطلة كما تفضلت بشرحها و توضيحها في المقال السابق الذكر...و العلم باعتباره نقيض الجهل هو وعي بالضرورة و من تم يأخذ شرعيته لأنه دعوة الحق و الحق هو الإسلام...

و من هذا المنطلق يصبح اختلاف التصورات التي تنطلق من المعتقدات هي تكريس لما يسمى الجاهلية أو إعادة إنتاج سلوكيات الجاهلية التي تتجاوز الحق لما هو باطل...اختلاف التصورات هو مربط الفرس الذي يستند إليه من يرغب في تبرير سلوك يناقض الحق...اختلاف المعتقد نابع من طبيعة التنشئة الاجتماعية التي تربى فيها الفرد و شربت منها الأسرة و المؤسسات الاخرى التي أنشأت في نهاية المطاف ما يمكن تسميته بــ"الشخصية"...على اعتبار أن الشخصية هي صفة جامعة تمثل الهوية الثقافية بكل مكوناتها تبتدئ من أبسط شيء كطريقة التحية إلى أعقد عملية فكرية يمكن أن تصدر عن الإنسان كرد فعل...

فالإنسان لا يمكن أن يعيش بدون معتقد...لأن المعتقد هو الذي يشكل له الطمأنينة و الأمان حتى و إن اعتقد في الشجر و الحجر و غير ذلك من المعتقدات التي لا تنفعه و لا تضره...فضرورة الإنسان و حاجته للمعتقد هي التي تملي عليه التمسك بمعتقده حتى ولو كان على ضلال...لأن ذلك المعتقد هو قرون من التنشئة... طبقات فوق طبقات من الزمن تراكمت في أعماق الإنسان...فحتى و لو كان عمر الإنسان لا يتجاوز الثلاثين أو الأربعين سنة...فالمعتقد الذي يحمله في أعماقه هو ثقل تلك السنين مضاعفة اضعافا كثيرة...لأن المجتمع الذي شرب منه ذلك المعتقد تأسس عبر حقب عرفت الصواب و الخطأ عرفت الحق و الباطل... فعرفت الهدى كما غلب عليها الهوى فاختل المعتقد...فأصبح من الضرورة إرسال الأنبياء و الرسل لمعالجة الخلل ، حتى يستقيم الإنسان على مراد الله و يتخفف الظلم و الجهل...

و ما جاء الإسلام إلا لتصحيح ما يسمى المعتقد...و الجميل الرباني في هذا أنه لم يأت بالإكراه و الغصب و العنف و الضرب و ما إلى ذلك من أشكال القهر بل أتى بالحب بالحجة بالمنطق الأكثر عقلانية الذي لم تصل إليه العقول البشرية لأنه من عند الخالق رب العالمين الأكثر علما و إحاطة و معرفة بما يسعد الإنسان في دنياه و في آخرته...

لكن الإنسان بحكم العقل [الباحث عن الكمال الغير مدرك في الحياة الدنيا بطبيعة الحال]المتفاعل الموجود بين ماضيه و حاضره استطاع أن يسائل الواقع التاريخي عن السنن التي تحكمه...باعتباره واقعا قائما على سنن و قوانين تعيد إنتاج أدواتها من تلقاء نفسها و كأنها سنن موضوعية و قوانين حتمية...

و من هنا هل يمكن اعتبار السنن التاريخية التي حاول الإنسان ضبطها للتحكم في حركتها و صيرورتها قد نوصل لمعرفة بعضها و غابت أخرى عنه...فانزلقت من يديه كلية أو أنه لا مس بعضها و لم يستطع السيطرة عليها كما سيطر على بعض من السنن الطبيعية و من تم تسخيرها لرفاهية و رقيه و تقدمه (سلبا و إيجابا) فلم يستطع الإمساك بها و من تم ظلت السنن الضمنية في الطبيعية البشرية هي السنن المتحكمة في الواقع و من تم تنتج نفسها بشكل يحافظ على الجوهر باعتباره جوهر " مطلق " أي لا يتغير مهما تغيرت الظروف و الشروط الموضوعية و ما يتغير هو الشكل الذي يأخذه بالإضافة إلى التعليلات التي تساند و تبرر كل تغيير و كل تصرف على حده...الشيء الذي ينتج عنه نسبية الشكل و مطلقة الجوهر على اعتبار أن الحق جل و علا و هو المطلق الذي يغير و لا يتغير بل ليس كمثله شيء ، و من تم لما خلق السنن الجوهرية جعلها مطلقة لا تتغير إلا بمشيئته...

يقول الحق جل و عل :
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) } سورة الأحزاب.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) } سورة الفتح.

كذلك يمكن القول أن الحقائق التي اكتشفها علماء التاريخ و سموها قوانين و سنن هي حقائق نسبية لم ترتق إلى الجوهر المطلق لأنهم وجدوها تتغير بتغير الشروط المنتجة لها...

لذلك فالجاهلية و هي الصفة الثانية التي وصف بها الحق جل و علا الإنسان في مسألة تحمل " الأمانة " بعد الظلم...{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)} سورة الأحزاب.

هي إشكالية الأحزاب في وقتنا الحالي فهي التي تتقاسم ما يسمونه التداول في الحكم في تسيير شؤون المجتمعات...فهل يمكن اعتبار أن المهمة الأساسية للأحزاب هي تحقيق العدل في تدبير شؤون الأمة و من تلافي آفة الجهل حتى لا تعيد الظلم و الجهل كشرط أساسي لتحمل الأمانة...؟

لأن السياسي إن لم يكن في دائرة العلم فهو بالضرورة في دائرة الجهل...و العلم يأخذ بعدا شموليا تتشكل أكبر دائرة في مجمل دوائره دائرة الدين/الإسلام....و ضمن الدائرة الكبرى توجد دوائر أخرى ضمن الدائرة الأصل...فالفطرة التي هي الإسلام كما ورد في الميثاق الأول الذي أخذه الله من ذرية آدم...يقول الحق جل و علا:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} سورة الأعراف.

فالمؤمن لا يجادل في الحقيقة المطلقة و لكن درجة الاعتقاد بحقيقتها كسنة فاعلة في الفطرة تفاوت من حيث التأثير بحسب درجات العلم أو دركات الجهل...لأن العلم ينتج عنه العدل و الجهل ينتج عنه الظلم...و لأن العدل يزيد من توسيع دائرة العلم كما أن الجهل يزيد من دائرة الظلم...و الاستثناء الوحيد في التاريخ - إذا اعتبرنا أن الجهل هو نتاج الأمية على مستوى القراءة و الكتابة - كان هو سيد الخلق و المرسلين النبي الأمي الذي صنع حضارة كان أساسها العلم الذي ارتقى بالإنسان من دائرة الجاهلية إلى دائرة الحضارة...لأنه استقى علمه من العليم الحكيم جل في علاه...

فإذا كانت سنن الطبيعة لا تتغير من تلقاء ذاتها و أن سنن الطبيعة البشرية قابلة للتغيير بحكم سنة التغيير التي وضعها الحق جل و علا كشرط لبلوغ و تحقيق التغيير الذي يرضى عنه الحق جل و علا و يباركه و يزكيه هوالذي يبتغي التقوى بدليل قوله جل و علا : {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) } سورة الرعد.

فالعلم بسنن التغيير الموضوعية تؤدي إلى التقوى التي تؤدي بدورها إلى اكتساح مناطق الجهل الذي يشكل النواة الجوهر لما يسمى الجاهلية سواء الأولى أو الثانية...

تحيتي و تقدير و كل عام و أنتم بألف خير و رمضان كريم...