مع الأزمة الاقتصادية العالمية

للدكتور عدنان علي رضا النحوي


امتدّت الأزمة الماليّة من أمريكا إلى بقاع كثيرة من العالم الرأسمالي ، وأَصبحت أزمةً عالمية خطيرة استنفرت جهوداً كثيرة ومؤتمرات كثيرة ، ووُضِعَتْ حلولٌ ظنّ أصحابها أنها ستنجيهم .
العالم ما فتئ يشهد أزمات ماليةً واقتصاديةً بين حين وآخر . وكلما وضعوا حلولاً وظنوا أنهم أدركوا الغاية ، فاجأتهم أزمة جديدة . والغريب حقاً كيف لم يقف هؤلاء الرأسماليون ليفكروا لماذا تظهر هذه الأزمات الاقتصادية ، ولماذا كانت حلولُهم حلولاً وقتيةً لم تعالج المشكلة من جذورها ، وكأن هذه الأزمات جزء من طبيعة النظام الرأسمالي .
إن سبب الأزمات كلِّها هو الإنسانُ نفسُه ، وما وضع لنفسه من عند نفسه نظماً اقتصادية واجتماعية وسياسية ، ضارباً عرض الحائط بكل رسالات الأنبياء والمرسلين الذين خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم . فلم تكن العلاجات البشرية إلا مسكّناتٍ آنيّةً لا تفتأ حتى يزولَ أثرها وتعودَ الأزماتَ من جديد .
ليس أمام البشرية من سبيل للتخلّص من هذه الأزمات الاقتصادية إلا بالتخلص من النظام الرأسمالي الذي لم يكن إلا وليد الجشع والظلم ، وأكلِ أموالِ الناس بالباطل ، والعدوان على الشعوب ، واستغلال الإِنسان للإنسان بأبشع أساليب الاستغلال . والرأسمالية هي وليدة العلمانية التي نبذت الدين وحصرت همَّها في الدنيا وحدها ، وربّتْ على هذا التصور أجيالاً وأجيالاً تلهث وراء الدنيا في صراع محموم ، ثم يطويهم الموتُ ، لتتابعَ أجيالٌ أخرى نفسَ المسيرة إلى نفس المصير ، بين يدي الله العزيز الجبار .
وأطلقت العلمانية والرأسمالية ما أسمْوه بالديمقراطية التي لم يظهر فيها إلا زخرف الشعار ، ليخفي أبشع أشكال الظلم والفساد والاستبداد في الأرض . وقد انتبه بعضهم إلى فساد النظام الرأسمالي فانقلبوا عليه ودعوا إلى الاشتراكية والشيوعية ، وظنوا أن النجاة فيها ، حتى أتى قدر الله وبان زيف هذه وتلك، وغاص العالم في صراع محموم بين ظالمين مجرمين كلٌّ يدّعي الإصلاح ، وهو يدعو إلى الفتن والفساد والظلم ، حتى ملؤوا الأرض حروباً ودماءً وأشلاءً ! قال تعالى :
{ وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)}(الأنعام).
لا سبيل للبشرية كلها للنجاة من الأزمة المالية الحالية وما قد يجدُّ من أزمات في المستقبل إلا باجتثاث كل النظام الاقتصادي الربوي ، وتحريمه تحريماً مطلقاً ، وهذا يعني حكماً اجتثاث النظام الرأسمالي وكل ما يمتُّ له سياسياً أو اجتماعيـاً أو فكرياً ، وهذا يتعذر تطبيقه إلا بالعودة الكاملة للإسلام ، لدين الله الحق ، دين جميع الرسل والأنبياء . ذلك لأن هذا الدين الحقَّ لا يطبَّق أجزاء وتترك أجزاء ، إنما يُطبق على تكامله وترابطه وتناسقه .
في هذا الدين ، في منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ العلاج كل العلاج لمشكلات الإنسان جميعها ، إذا صدق الإيمان وصدق العلم وصدقت النيّة والعزيمة ، وبغير ذلك ستظل البشرية تتخبط في أزمة بعد أزمة ومن نكبة بعد نكبة !قال سبحانه :
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ۖ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}(فصلت).
وقال عز وجل كذلك :
{ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرالْأَوَّلِينَ (196)}(الشعراء)

وإن كان النظام الرأسمالي ، وما يتبعه من مذاهب ومبادئ هو المسؤول الأول عن هذه الأزمات كلها ، إلا أن المسلمين كذلك مسؤولون ومحاسبون بين يدي الله ، لعدم قيامهم ووفائهم بتبليغ رسالة الله كما أُنْزِلتْ على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، تبليغاً منهجياً وتعهدهم عليها تعهداً منهجياً ، حتى تكون كلمة الله هي العليا في الأرض .
وأمام هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة ، تدور مؤتمرات كثيرة هنا وهناك ومداولات وأبحاث ، وتطرح حلول واقتراحات ، تكاد تجمع كلها على وجوب تغيير النظام المالي العالمي ، ووضع نظام جديد ملزم للجميع ، ومازالت الأبحاث تدور حول هذا النظام الجديد الذي يريدون فرضه على العالم .
يفكرون ويبحثون ، ولكن لم يخطر ببال أحدهم أن هناك حلولاً وعلاجاً في رسالة الله إلى عباده ، حملها الأنبياء والمرسلون على مدى الدهر وختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم. إنه لم يخطر ببال أحدهم أن يذكر الله سبحانه وتعالى ، وأن يتدبّر آياته في الكون ، آياته التي منها هذه الأزمة المالية العالمية . إنها أزمة تقرع القلوب لتوقظها ، ولكن القلوب لم تستيقظ ، وإنها أزمة تأتي مع فواجع ونكبات ممتدة في شرق الأرض وغربها تنذر وتعظ وتذكر بأمر الله سبحانه وتعالى : عواصف جبارة تخطف المئات من الخلق ، وزلازل تنهار بها المساكن والبيوت ، وتركض الحشود هاربة من منازلها إلى فضاء واسع تبحث فيه عن النجاة ، وبراكين تتفجّر باللهيب والدخان ، وملايين البشر غارقون في لهو وسكر وخدر ، وملايين أخرى غارقون في أنات الجوع والعري والمرض . وناس ينامون على وثير الفراش وأطايب الطعام والشراب ، وناس يفترشون الثرى ، ويلتحفون السماء ، يبحثون عن كسرة خبز ، أو قطعة قماش تسترهم وتحميهم من لفحات البرد القاتل ، أو لفحات الحر القاتل .
ليست هذه الأزمة المالية العالمية هي الأزمة الوحيدة التي تهزّ العالم اليوم . إنها أزمة أصبحت عالميّة لأنها تمسَّ كبار المجرمين في الأرض ، كبار الأثرياء المتحكمين في كثير من أمور العباد تحكُّماً ظالماً إجرامياً . إنها أصبحت عالمية لأن الذين أصابتهم صرخوا صراخاً مدوّياً تحمله الآفاق والقنوات الفضائية ، وكل وسائل الإعلام ، فإنها تَأْتَمر بأمرهم . ولكن هذه الأزمة لم تمس قطاعاً كبيراً من البشر لأنهم ليس لديهم مال تضر به الأزمات . هؤلاء الفقراء المساكين المحرومون في الأرض من يسمع أنينهم الخافت ، أو يرى عظامهم البارزة من صدورهم ، أو من يفكر فيهم .
هؤلاء يمثلون أزمة كبيرة في تاريخ البشرية ، وفي واقعنا اليوم ، ولكن صوتهم خافت لا يكاد يُسمع . وإنها أزمة خانقة ممتدة في الحياة ، ولكنها ليست أزمة تجد من يبحث لها عن حل ، أو يفكر فيها ، إلا لماماً لماماً !
وأزمة أخرى ! أزمة مدوّية في الأرض . أزمة الأمن المفقود والدمار المشهود ، والأشلاء المتناثرة ، والدماء المتدفّقة ، والحروب المشتعلة ، واللاجئين الفارين يبحثون عن مكان آمن يأوون إليه ، في رعشة خوف ، ودمعة هوان ، وأنّة ذل .
وأزمة قاتلة أخرى ! غياب العدالة ، وغياب الحرّية إلا حرّية الجنس والخمور ، واضطراب الموازين وتناقضها ، تكاد تخفيها كثرة شعارات المنافقين والدجّالين والمجرمين ! إنها أزمة الهوى الذي يعصف بالإنسان فيدمّر ما بقي لديه من قيم ووفاء ، وما بقي لديه من قوةٍ وصبر ، فيهوي في أعاصير الفتن ، فتنة بعد فتنة !
ويجمع هذه الأزمات كلها الأزمة الكبرى ، الأزمة الخانقة ، الأزمة المدمّرة أزمة نسيان الناس للدار الآخرة ، للموت ، للساعة ، للبعث ، للحساب بين يدي العزيز الجبّار ، للجنّة ، للنار ، لنعيم مقيم ، وعذاب مقيم ، الملايين من الناس ينسون اليوم هذه الأزمة القاتلة ، فيلهثون وراء الدنيا وشهواتها وأموالها ، ليُسعدوا أنفسهم كما يتوهمون ، أو يتعلّلون برعاية أبنائهم وأرحامهم ، وهم في سكر وخدر وتيه . إقبال شديد على الدنيا وزينتها وزخرفها ، وإدبار عن الآخرة إلا من عصم الله .
إننا نأخذ على أنفسنا نحن المسلمين اليوم ، من بين الملايين الذين يؤدون الشعائر ، قليل أولئك الذين يطلبون الدار الآخرة ، وينطلقون يبلغون رسالة الله كما أُنزِلت على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، وتعهُّدُهم عليها ، تبليغاً منهجياً وتعهَّداً منهجيّاً ، لينقذوهم من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة ، وليخرجوهم من الظلمات إلى النور ، ولتكون بذلك كلمة الله هي العليا .
فلنسأل أنفسنا هذا السؤال ، فليسأله العلماء والدعاة والحركات الإسلامية : هل أوفينا بعهدنا مع الله وبلّغنا رسالته كما أمرنا وأنقذنا الناس من هلاك محقق إن استمروا غائبين عن دين الله . واستمع أيها المسلم إلى قوله سبحانه وتعالى :
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}(الأعراف).
إنهم أولئك الذين ينهضون إلى الوفاء بالعهد والأمانة وفاءً مستكملاً جميع التكاليف الرّبانية والنهج الرباني ، وتبليغ رسالة الله ، وإنقاذ الناس من الهلاك ، أولئك الذين وعد الله بأن ينجيهم .
ونعود إلى أولئك الذين مازالوا يبحثون عن مخرج وحلول لهذه الأزمة المالية . ولو تأملوا قليلاً ، ودرسوا تاريخهم وتاريخ الشعوب ، لعرفوا إن معالجة أزمة واحدة لا تنجي الناس . لا بد من نهج متكامل مترابط يعالج مشكلات الشعوب كلها معاً ، لا مشكلة واحدة . وإن كانوا يظنون أنهم سينجحون بعلاج هذه الأزمة مع بقاء النظم الفكرية والسياسية والأدبية على ما هي عليه . فذلك وهم قد يكتشفونه إذا استيقظت القلوب والضمائر ، وتخلّت عن الهوى والأطماع والجشع والعدوان .
أما إذا ظلّوا كما هم ، وظلت الأفكار والأهواء على ما هي عليه ، واستمر التنافس على الدنيا ، والتحاسد والتباغض ، فإن الأزمات في حياة الشعوب ستظل تظهر بين حين وآخر ، على سنن لله ثابتة ، وقضاء نافذ ، وقدر غالب ، وحكمة بالغة !
البشرية كلها بحاجة إلى الإسلام ، ولذلك أخرج الله للناس أمّة الإسلام لتحمل هذه المسؤولية في الحياة الدنيا ، وتحمل رسالة الإسلام حتى تسود في الأرض وتبلغ رسالة الله لتخرج الناس من الظلمات إلى النور . وإن أمة الإسلام لمسؤولة عن ذلك ومحاسبة عليه :
قال عز من قائل :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}(آل عمران).
ولا نجاة للبشرية ، ولا سبيل لبلوغ النجاة إلا بالإسلام . إن جميع الشعارات التي يطلقونها اليوم شعارات خالية من النهج . ينادون بالإنسانية وأين هي الإنسانية التي يدعونها ؟! هل يمكن أن توجد بين المجازر والأشلاء والجماجم والدماء والدمار الذي يهوي بالمساكن على ساكنيها ؟!
هل يستيقظ المجرمون فيعوا مسؤوليتهم ؟!
هل يستيقظ المسلمون فيعوا مسؤوليتهم ؟!
قال تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}( إبراهيم)
وقال سبحانه :
{ .... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}(النور).

عن موقع قضايا عربية