رسالة العيد

الدكتور محمد عياش الكبيسي

العيد في الإسلام ليس تراثا شعبيا ولا مناسبة اجتماعية،إنه عبادة لا تختلف عن العبادات الأخرى من حيث قصد القربى وامتثال الأمر،ولولا هذا المعنى لما جاز لنا أن نحتفل والملايين من المسلمين يصبحون ويمسون تحت وطأة الحديد والنار في سوريا العزيزة وغيرها من بلاد المسلمين.
العبادات في الإسلام لا تأخذ نسقا واحدا ،فهناك عبادة بدنية كالصلاة والصوم،وهناك عبادة مالية كالزكاة والكفارات وأنواع الصدقات،وهناك عبادة بالسيف وأخرى باللسان،وهناك عبادة بالمشاعر والعواطف فالدمعة عبادة ( ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ) والابتسامة عبادة ( تبسمك بوجه أخيك صدقة )..وهكذا.
العيد عبادة فيها احتفال وصلاة وتكبير وتزاور وفيها فرح ولعب وفيها فسحة لتعبر شعوب الأرض عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية والجمالية والتواصلية، وقد ورد في البخاري وغيره «عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان تدففان وتضربان والنبي متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر،فكشف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد ...
وقالت عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر،فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعهم.. فالحبشة لهم طرائقهم في التعبير عن مشاعرهم ربما تختلف عن العرب،والشباب لهم خصوصيتهم أيضا وإلى هذا تشير السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث آخر للبخاري: كان الحبش يلعبون بحرابهم فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر،فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو.
للعيد غاية تعبدية لا نجتهد نحن في تقريرها وإنما يقررها الشرع نفسه: { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)}(البقرة) ، فهناك ربط بين العيد وبين ما هدانا الله إليه في رمضان من عبادة وطاعة،وتكبيرات العيد إعلان للنصر والنجاح وفرح بالجائزة التي يستحقها المنتصرون والناجحون.
العيد إذاً هو يوم النجاح وهو الاحتفال بشهادة التخرج،هذه الشهادة التي تؤهل حامليها لاستحقاق لا تبلغه الشهادات الأخرى،فإذا كانت كلية الطب تمنح خريجيها لقب(طبيب) وكلية الهندسة تمنح خريجيها لقب (مهندس) فإن مدرسة رمضان تمنح خريجيها لقب (ولي الله) فكل من صام رمضان إيمانا واحتسابا هو ولي من أولياء الله أولئك الذين يقول الله عنهم :
{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)}(يونس) ،فأي شهادة تمنح حامليها مثل هذا الامتياز؟
الولاية ليست سرا صوفياً ولا طلسما كهنوتيا،الولاية مشروع تربوي يستند على ركيزتين اثنتين:الإيمان والتقوى»الذين آمنوا وكانوا يتقون»،وقد اختلط هذا العنوان الرباني بكثير من الدخن حتى خف تداوله عند الدعاة والمصلحين أفرادا وجماعات ومؤسسات ،مع أنه في الحقيقة هو غاية الجد والجهد وهو أسمى ما يمكن أن يبلغه السائرون.
في الآية الأولى من آيات الصيام جاء تحديد الغاية الكلية: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183)} (البقرة) ،فرسالة الصيام إيمان وتقوى،وهي ذاتها شروط الولاية.
نحن قبل رمضان كنا مؤمنين فجاء رمضان بخطابه : { يا أيها الذين آمنوا } ولكنه أراد أن نجمع إلى الإيمان شيئا آخر لا تتم الولاية إلا به فقال: { لعلكم تتقون }.
الإيمان عقيدة،والتقوى قوة الصبر والمجاهدة لتحمل أعباء هذه العقيدة ،وهيهات أن نصل إلى هذه التقوى بغير رمضان،ففي رمضان تتحول الأقوال إلى أفعال ،و النظريات إلى ممارسات.
في رمضان يعيش المؤمن دورة تدريبية مكثفة ليس فيها مجال للراحة والسكون فضلا عن اللهو والعبث.
في رمضان نتدرب على الصبر بكل أنواعه،الصبر عن المعاصي حتى في قطرة الماء التي تبل الريق،الأطفال يتحاشون هذا،هكذا يتعلمون وهكذا يتدربون،والصبر على الطاعات في تلك الصفوف التي تعمر بيوت الله فلا تمل من طول القيام ولا تفتر ألسنتها عن ذكر الله ،وصبر على تغيّر العادات في كل حياة الإنسان نومه وأكله وشربه،وجلساته وزياراته ،وصبر على بذل المال في الزكاة والصدقة وإفطار الصائمين»وكان أجود ما يكون في رمضان»
هذا الصبر العملي التدريبي هو هو التقوى التي قصدها القرآن بقوله : { لعلكم تتقون } وهي هي الهداية التي نكبّر الله عليها شكرا له واعتزازا بدينه { ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون }
في رمضان تدربنا أيضا على التقوى الجماعية،فنحن بقدر ما نتنافس في علاقاتنا الثنائية بين الإنسان وخالقه نتدرب أيضا على رص الصفوف في صلاة الجماعة والتكافل الأخوي والدعاء لإخواننا أصحاب الثغور وهم على مواقعهم وثكناتهم!
هذه الأمة المدركة لرسالتها والمتدربة على وسائلها وأدواتها ستصل بإذن الله إلى الهدف الأسمى: { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون }.
وعلى طريقة التقويم بالمخرجات فإننا إذا رأينا الأمة اليوم تخاف من هذا وذاك،وتحزن للأذى الذي ينصب عليها في هذه الساحة أو تلك ،فمعنى هذا أننا بحاجة إلى مراجعة كل ما تعلمناه وما تدربنا عليه،وسنكتشف حتما أننا نرتكب أخطاء في الكثير من تصوراتنا وممارساتنا.
بعض الخطباء يريد منا أن نستمر على ما كنا عليه في رمضان،وإذا تغيّرنا بعد رمضان فهذا يعني عنده أننا كنا « رمضانيين » و ليس « ربانيين » !! وهذا وهم، وهو مخالف لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام،فلم يكن عليه الصلاة والسلام في شوال كما هو في رمضان، ولو كان الأمر كذلك لانتفت خصوصية رمضان.
ليس مطلوبا أبدا أن نستمر على ذات الوتيرة من التعبد والتنسك وإنما المطلوب أن نتأكد من نجاحنا في تحقيق غايات رمضان في معاني الصبر والتحمل،ومعاني الوحدة والتكافل والهم المشترك،وفي معاني الشجاعة والقوة فلا يعترينا الهلع والخوف والحزن في أي موقع من مواقع الاختبار والمجابهة.
إن رمضان يريد منا أن نكون أصحاء في أجسامنا،فنتحكم في شهوة الطعام والشراب،ويريد منا أن نكون أصحاء في انفعالاتنا النفسية فنصبر ونصابر ونملك إراداتنا وعواطفنا، ويريد منا أن نكون أصحاء في علاقاتنا الاجتماعية تواصلا وتكافلا ،إنه يربي فينا الإيجابية وقوة الشخصية ،ويدربنا على خدمة المجتمع وأن يكون كل هذا موصولا بالله إيمانا ونية وتقربا.
وحينما نستعد لإكمال هذه الدورة التربوية بعد طول كد ومثابرة تأتي المحفزات الربانية فليلة القدر تعظيم للرسالة وتقدير للمتفيئين ظلالها من الصائمين والقائمين ،وفيها من الهبات والمكارم ما لا حدّ له ولا حصر،ثم تأتي ليلة ( الجائزة ) وهي الليلة الأخيرة من رمضان ،جاء في مسند أحمد بن حنبل وغيره: قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر؟
قال:لا، ولكن العامل إنما يوفّى أجره إذا قضى عمله .
ثم يأتي العيد وهو الإعلان الرسمي للنجاح والتخرج.
والنجاح درجات ومراتب فكل من صام فقد نجح، ثم يتفاوت الناس فوق هذا الحد من النجاح،ولكل هؤلاء الحق في أن يفرحوا ويحتفلوا،ولكن الفرحة الكبرى يوم أن نرى هذه النجاحات تصب في نهر واحد لتكوّن الأمة الناجحة،تلك الأمة التي لا تخاف ولا تحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة
{ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } هذه هي غاية رمضان

وتلك هي رسالة العيد..

عن صحيفة العرب القطرية