قراءة في تقرير صندوق النقد الدولي حول الوضع الاقتصادي في مناطق السلطة

بقلم نافذ الشامي

لعب صندوق النقد الدولي ومنذ نشأته دورا مشبوها، يتمثل في تكريس تبعية الدول الفقيرة والضعيفة للدول الغنية ذات التوجهات الاستعمارية، بهدف دوام سيطرة تلك الدول على الدول الضعيفة ، وتمكينها من الاستئثار بثرواتها ومقدراتها، والحيلولة دون حصول أية نهضة حقيقية فيها . أما آلية العمل المتبعة لتحقيق ذلك، فتقوم على إغراء تلك الدول بالحصول على قروض بفوائد ميسرة ، تمكنها من دعم اقتصادها ورفع مستوى معيشة الأفراد فيها كما يدّعون ، وعادة ما يتدخل الصندوق في الكيفية التي ستنفق فيها تلك القروض، واستغلالها بأفضل طريقة ممكنة كما يزعمون ، وهنا تبدأ الكارثة ، حيث تنفق تلك الأموال في مشاريع غير منتجة ، علاوة على الفساد المالي المتأصل في أنظمة الحكم في تلك الدول ، فتكون النتيجة معاكسة تماما لما هو مفترض أصلا ، حيث تعجز الدولة عن تسديد قيمة تلك القروض ، ناهيك عن تسديد فوائدها ، وهنا يعود صندوق النقد للتدخل مرة أخرى من أجل إعادة جدولة الديون ، أو تمكين الدولة من الحصول على قروض إضافية ، غير أن إعادة الجدولة أو القروض الجديدة تكون محكومة بشروط قاسية بخلاف الشروط في المرة السابقة، فتتفاقم الأمور وتغرق الدولة في مستنقع الديون، وتصبح قراراتها الاقتصادية والسياسية على حد سواء مرهونة بإرادة صندوق النقد الدولي والقائمين عليه.

والمشاهد المحسوس، هو أنه حيثما تدخل صندوق النقد الدولي وحل خبراؤه، حل الخراب والفقر والبطالة والغلاء، ذلك أن الدولة المستهدفة، وبعد غرقها في مستنقع الديون، تصبح جاهزة للمرحلة الثانية من عمل الصندوق والمتمثلة في جملة من الإجراءات الواجب اتخاذها من قبل تلك الدولة، تتلخص في زيادة الضرائب على المواطنين ورفع أسعار السلع وعلى وجه الخصوص الأساسية منها، ورفع الدعم الحكومي عن بعض السلع المدعومة كالخبز أو المحروقات وغيرها، إلى جانب إجراءات أخرى كتجميد الرواتب أو تخفيضها، والحد من الإنفاق على الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة.

وقد ابتلي أهل فلسطين علاوة على ما ابتلوا به من احتلال وتضييق، وذلك بعد اتفاق اوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية بالمعونات المشروطة، والقروض المشبوهة ، وبصندوق النقد الدولي ونصائحه وتوجيهاته ، حيث يوجد في الأراضي الفلسطينية ممثل مقيم للصندوق يشرف على جميع النشاطات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، والتي ولدت في حالة موت سريري ، ولا تملك من مقومات الحياة إلا ما تجود به ما تسمى بالدول المانحة من منح أو قروض، بشروط قاسية، على رأسها التحكم الكامل في ما يسمى بمسار المفاوضات بحسب ما يحلو للدول المسيطرة على عمل الصندوق، وكما هو الحال في الدول المستهدفة من قبله، فقد أنفقت معظم تلك الأموال على إنشاء ما يسمى بالأجهزة الأمنية للسلطة ، ومن ثم ديمومة دفع الرواتب الباهظة لأفراد تلك الأجهزة، علاوة على الرواتب الخيالية والمنح والامتيازات والبدلات للمسؤولين فيها ، يضاف إلى كل ذلك توقف الكثير من الدول المسماة بالدول المانحة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه السلطة ما أدى إلى انهيار اقتصادي كامل لها.

وقد أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا عن الوضع الاقتصادي في مناطق السلطة يصور الوضع الاقتصادي القائم فيها، متضمنا التعليمات المطلوب من السلطة الفلسطينية القيام بها لمعالجة الوضع، وأنقل هنا بعض ما جاء في التقرير كما أوردته وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا ) لإطلاع القارئ على ما تعتزم السلطة تنفيذه لأنها متواطئة مع صندوق النقد، ومع الدول الكافرة، وتعتنق نفس أفكارها، ورؤاها الاقتصادية. وفي ما يلي الإقتباس" رام الله 20-9-2012 وفا- أظهر تقرير أصدره صندوق النقد الدولي(IMF) حول الضفة الغربية وقطاع غزة أن الاقتصاد الفلسطيني يواجه مخاطر جمة، مع تباطؤ في النمو وارتفاع البطالة في كل من غزة والضفة الغربية.

وبين التقرير الذي يغطي الأداء المالي للسلطة الوطنية في عام 2012 وسيتم تقديمه في اجتماع الدول المانحة في نيويورك في 23 أيلول الحالي، أن الصعوبات الشديدة في تمويل السلطة الوطنية في عام 2011 و حتى الآن في عام 2012 أدت إلى ارتفاع كبير في دفع المتأخرات والديون المحلية للبنوك التجارية.ولفت إلى أنه نظرا لارتفاع مخاطر نقص المساعدات المستمرة، من المهم للسلطة الوطنية ان تقوم بتنفيذ خطة الطوارئ على الفور لتغطية الفجوة التمويلية، والتي من المتوقع ان تكون اعتبارا من منتصف سبتمبر حوالي 0.4 مليار دولار لعام 2012.ودعا لتنفيذ التدابير المشتركة للسلطة الوطنية وحكومة إسرائيل لزيادة إيرادات المقاصة على وجه السرعة لدعم جهود التكيف المالي.وعبر التقرير عن دعمه للجهود الرامية إلى معالجة صعوبات التمويل المباشر، داعيا السلطة الوطنية أن تقوم بتوظيف قدرتها المؤسسية المعززة من اجل المضي قدما في مزيد من التدابير لرفع كفاءة القطاع العام والتخلص تدريجيا من الاعتماد على المساعدات المتكررة.وشدد على أن المساعدات الإضافية ضرورة للحفاظ على الإصلاحات المنظمة وتصحيح أوضاع المالية العامة.وقال، 'هناك حاجة لإجراءات عاجلة ومتضافرة من قبل كل من السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل والمجتمع الدولي للحد من مخاطر التباطؤ الاقتصادي المستمر، وارتفاع معدلات البطالة، والأزمة المالية المتزايدة والتي من المحتم ان تؤدي إلى تغذية الاضطرابات الاجتماعية".

إن المدقق في ما ورد في التقرير يلاحظ وبشكل واضح أن التقرير لم يتطرق للغلاء الفاحش الذي ينهش المواطن ليل نهار، ولم يتطرق لميزانية الأجهزة الامنية، الثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء، كما لم يتطرق إلى تعثر السلطة في دفع رواتب الموظفين، بل كان التركيز الأساسي وبشكل رئيس على تعثر السلطة في دفع المتأخرات والديون المحلية للبنوك التجارية ، ما يشير بشكل واضح إلى أن المواطن ومعاناته اليومية لا شأن لصندوق النقد بها. وكذلك لم يوجه أي انتقاد للضرائب الباهظة التي تجبى من الناس بل على العكس من ذلك ، فقد طالب السلطة بالمزيد من الإجراءات التي من شأنها أن تحد من اعتماد السلطة على التمويل الخارجي، مشددا على ضرورة وضع خطة طوارئ للأشهر المتبقية من السنة المالية 2012 تشتمل على إجراءات قاسية بحق المواطنين، ننقل بعضا منها في الاقتباس التالي من وكالة معا الإخبارية على الإنترنت "وبالنظر إلى المخاطر العالية الناجمة عن استمرار نقص المعونة، من المهم أن تتخذ السلطة الفلسطينية خطوات عاجلة لتنفيذ خطة للطوارئ من أجل تغطية الفجوة التمويلية التي تشير توقعات منتصف سبتمبر/أيلول إلى بلوغها 0.4 مليار دولار عام 2012. وبالفعل أعلنت السلطة الفلسطينية في منتصف أغسطس/آب عن تجميد توظيف العمالة والترقيات الجديدة في القطاع العام خلال الفترة المتبقية من السنة. وينبغي أن تكون خطة الطوارئ مكملة لهذه التدابير من خلال تخفيض بدل غلاء المعيشة الذي يحصل عليه العاملون في القطاع العام. وينبغي توخي الحرص في تحديد أولويات النفقات بخلاف الأجور، مع تحقيق الاستفادة الكاملة من نظام إدارة النقدية لضمان تحمل النفقات غير الضرورية لتبعات التخفيض في حالة استمرار نقص المعونة. ونظرا للقيود التمويلية الحادة، ينبغي موازنة أي تدابير تُتخذ لتخفيف تأثير ارتفاع أسعار الوقود في سبتمبر/أيلول بتخفيض نفقات أخرى غير ضرورية. وينبغي أن يقتصر تنفيذ المشاريع الإنمائية على الحالات التي يتوافر فيها التمويل اللازم من المانحين، وذلك لتجنب تحول مسار المعونة بعيدا عن النفقات الجارية الضرورية. وبينما من غير المرجح أن تبدأ تدابير الإيرادات المحلية في تحقيق نتائج مثمرة قبل نهاية العام، فمن الضروري مع ذلك المضي في اتخاذ خطوات عاجلة لتنفيذ توصيات المساعدة الفنية المقدمة من صندوق النقد الدولي لتحسين الإدارة الضريبية، لا سيما من خلال تعزيز الامتثال وتوسيع الوعاء الضريبي".

إن السلطة الفلسطينية قد بدأت بالفعل بتطبيق توصيات الصندوق، وستعمد الى إجراءات أخرى ما زالت في طور الإعداد، من شأنها أن تزيد من الضغوط على الناس, وخاصة الشرائح الفقيرة، لصالح الوفاء بالتزاماتها تجاه البنوك التجارية بحسب توصيات صندوق النقد ، وكذلك لسد الفجوة التي تبلغ 0,4 مليار دولار حتى نهاية سنة 2012.

لقد ظهر رئيس السلطة قبل أيام في لقاء مع الصحفيين ، ألقى فيه كلمة بّرأ من خلالها نفسه وسلطته من أية مسؤولية عن الانهيار الحاصل ، وأنحى باللائمة على الاحتلال وإجراءاته ، مبشرا بالمزيد من الخطوات التي لا سقف لها إلا الهجرة الطوعية لأبناء هذه البلاد، ومهددا في الوقت نفسه بالعصا الأمنية ضد من وصفهم بمن يعملون على إثارة الفوضى وتدمير الممتلكات.

ومن المفارقات العجيبة أن يقوم صندوق النقد الدولي من خلال تقريره بالتحذير من مخاطر التباطؤ الاقتصادي المستمر، وارتفاع معدلات البطالة، والأزمة المالية المتزايدة والتي من المحتم أن تؤدي إلى تغذية الاضطرابات المجتمعية، في الوقت الذي يدعو فيه السلطة للمزيد من الإجراءات التي ستؤدي إلى تفاقم الوضع.

أن السلطة التي اعتمدت منذ إنشائها على أموال الدعم الخارجي المشبوهة، لن تتمكن في يوم من الأيام من الاعتماد على مواردها كما يبشر بذلك البعض، فالاعتماد على الذات يقتضي وجود مقومات من أهمها رفع الحصار عن مناطقها بالكامل وتحرير تجارتها الخارجية من الاحتلال وإجراءاته، ناهيك عن مقومات أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في ظل الاتفاقيات المعقودة مع دولة الاحتلال اليهودي ومن أكثرها شهرة اتفاقية باريس سيئة الذكر والتي ربطت اقتصاد أهل فلسطين باقتصاد يهود ربطا يتيح لهم التحكم الكامل في مقدرات أهل فلسطين، أما ما تروج له السلطة من إمكانية تعويض أموال الدعم الخارجي بتحسين الأداء الضريبي وفرض المزيد من الضرائب فهو أمر يعلم كل من لديه حد أدنى من المعرفة بالاقتصاد - ناهيك عن المتخصصين في هذا المجال – أنه أمر مستحيل، ولن يؤدي إلا إلى قصم ظهور أهل فلسطين، والإسهام النشط في تهجيرهم.

بقي أمر أخير لا بد من الإشارة إليه، وهو التهديد بقمع احتجاجات الناس بالقوة والعربدة الأمنية كما تبدو بوادر ذلك واضحة، نقول بأن الأمة قد وصلت وبحمد الله إلى مستوى لم يعد فيه يخيفها قصف المدافع والطائرات حتى يخيفها ما دون ذلك.

23/9/2012