أمل حبيب مازح
كاتبة لبنانية

حاورها : حسين أحمد سليم


أمل حبيب مازح من بلدة باريش العاملية الجنوبية ، القرية الهادئة التي تنزوي عن عالم التمدن والتحضر إلى عالمها الخاص وسط الطبيعة المنفتحة على رحابة السماء الممتدة إلى أفق الأخضر البهي ، والتي اعتبرت تابعة الخط الممتد حتى قضاء صور ، صور وما أدراك ما صور تلك التي حاطها البحر لتنعم بدغدغات أمواجه على قدميها ، صور تلك التي خلدت تاريخ رومان وفراعنة وإغريق ، تلك التي احتضنت أثارا تعود بها إلى ماض عتيق .
نشأت في عائلة متواضعة تعدد أفرادها ، كما تعددت أوراق التبغ والتنباك ، من أجداد عرفوا للفلاحة تاريخ ، وللأرض شرف الحفظ ، وصوت الأيام وتوالي الأحداث .
كان جدي رحمه الله مختارا في أهله ، عرف عنه حب المطالعة والبلاغة والتحدث في شتى العلوم وأشكالها ، دينية وسياسية ، الحاج يوسف مازح مختار الضيعة ، كان محدثا لبقا ، ترك له دفاتر سطر فيها بخطه الجميل المنمق كل ماعرفه من علوم وأحداث.
كان السفر حليف عائلتي حال الكثيرين من اللبنانيين الذين هاجروا مع طيور أيلول ، إلى رجوع بعد غياب ثمانية عشرعاما ، من الخليج الحار والذي عسكر البحر حوله من ثلاث جهات ، وهناك تكلفت بالدراسة حتى المرحلة الثانوية ، كنت أحب الكتابة واليراع لا يكد يفارقني في خلواتي الكثيرة ، حيث كنت أجالس كتب الدراسة في غرفة الجلوس ، أتحسس منها الهدوء والفراغ الهوائي العذب ، كنت أسمع أناشيدا من نسيم وهواء ، وحتى لفحة الخليج اللاهبة كان لها لمسة حنون ، ومن وسط وحدتي تلك ووحشتي للكلمات التي تتناثر علي كتناثر قطرات الوابل والطل ، لتتوزع حبات رمال تشكلت في دفتر أيامي ، وكم شهد دفتر أيامي أحداثا وتواريخ ، كانت الورقات تتلاحق ورقة تلو أخرى ، كأوراق الخريف المتساقط ، أجمعها من فوق الأرض التي افترشت لها لتتلقفها، جمعتها في جعبتي ، منها حكايات وحكايات .
لم أعهد لطفولتي حبا لألعاب الأطفال ، كنت من حينها أهيم بعالمي الخاص، عالم الحروف والكلمات التي نسجتها نسجا خفيفا لأصنع منها وشاحا صغيرا لا يراه غيري .
عدت إلى لبنان وكلي شوق لعالم تملأه الحياة النابضة بالجمال الخلاق الأبدي ، خرجت للعمل وبين الدراسة والعمل كنت أتأرجح ، عملت بالتعليم حتى حصلت على إجازة في الأدب العربي ، شجعني على الكتابة زميل لي في التعليم ، حيث أخرج له كتابا ساعدته في تدقيقه ، فرأيت أن أبدأ ربما هو أول الغيث يأتي بعده نبوع الأنهار ، تشجع قلمي وأحب الفكرة ، وبدا لي أول ولادة في كتابي صور وعبر،وباحثة عن روحها بين طيات النسيان ، وعادت الأرض وهي من نشر وتوزيع دار التيار الجديد معوض ، كنت أعشق امتزاج الألوان وصنع منها لونا جديدا لأرسم من خلالها لوحتي الطبيعية والتي تعكس حبي لما أوجده الله من ابداع متناهي ، وفجأة رأيت رسمة لفنانة عهدتها منذ صغري هي معلمتي الأولى لفن الرسم ، لوحتها كانت عن سفينة ملئ ظهرها بربانها وملاحيها وقد أقدمت عليهم عاصفة شبه هوجاء ، فقط رغبت بنثر تلك الحروف التي حملتها السفينة على ظهرها ، حروف الهجاء تلك ، تطايرت الحروف منها ثبت على السفينة ، ومنها طاف على سطح البحر ، ومنها همّ بالغوص في أعماقه ، ومنها استقر في قعره ، من تلك الحروف تعرفون صنع منها كلمات ، من تلك الحروف أستطيع أن أصنع لوحتي الخاصة ، أن أجسد اللون تلو الآخر ، أصنع جملة ، وقصة ، تلك الحروف المتناثرة جمعتها لتعطيني قصصا عبرت عبر الزمن الغابر والآتي ، المحمل بالمفاجآت، لقد تفاجأت عندما همست تلك الحروف في أذني أساطيرا وحكايات ، وتجسدت في مخيلتي ، جلست طوالا أحاكيها وتحاكيني ، أنطويت على نفسي ، وجدت فيها سلوتي ، أحببتها وأحبتني ، وفي النهاية طرت باب قلبي ، ولبي وعقلي ، طرقا خفيفا ما لبث أن زادت طرقاتها ، وعرفت حينها أنها أرادت الخروج والظهور للعلن ، أطلقتها ، فكانت بداية في قصة صور وعبر التي تحاكي ألم اللبناني في غربته ورجوعه وحبه لأرضه التي احتضنته ورعته ، في ظلم الصغير وكأنه لم يكبر يوما ما ، وفي المرأة التي تعطي كعطاء الأرض الطيبة في لبنان ، وفي الرجل الذي ضحى ليجد الوقار أو الحرمان ، فكان في كل صورة عبرة فهل من معتبر ، وفي قصة باحثة عن روحها معانات شبابنا في تلقف أفكار الغرب وطغيان المادة وحب الظهور ، وفي كل منا إنسان يشتاق إليه بسيط يعبر به من خلال شوقه لضيعته ، لبلده لتراب أرضه ، وفي وعادت الأرض بعد المغيب ، أن الأرض تلك هي حق لشعبها ، ففي تاريخ لبنان كانت تلك الأرض قوية صلبة صامدة في وجه المعتدي على مرّ العصور ، وفي كل مرة لها عودة ورجوع ، ولأن اللبناني يعرف في قرارة نفسه أنها له ، فهو دائما على حق ، وأما كتاب واقعنا المنتظر بين الحاضر والماضي ، يتحدث الكتاب عن واقع نحن نعيشه ويستمر إلى ما لا نهاية بين تسلسل الأديان وظهور الإسلام والنبي محمد ومن ثم أهل البيت عليهم السلام وحقيقة الشجرة المباركة في القرآن الكريم ، حتى آخر الزمان، من نشر دار الهدى الإسلامية بئر العبد .
لقد ولدت الكتابة والكلمات وترعرعت معي ، لا أعتقد أن هناك فاصل بيني وبينها هي مني وأنا منها ، لقد تأثرت كثيرا من حفظ القرآن الكريم وتفسيره ، وبالمدرسة التي التحقت بها في الخليج ، حيث كان الهم الأكبر في كتابة التعبير في مسابقات سنوية تعقد لمواضيع عامة وشتى تتداخل فيها العلم والمعرفة والثقافة والدين في تسلسل منطقي مدعم بالحجج والبراهين من القرآن والسنة النبوية والشعر ، تتداخل في مسارات تحاكي الفرد والمجتمع والعقول الواعية العارفة والنابضة .
لعل الكاتب يظل في عالم التيه والضياع حتى يجد ضالته ومنشوده في عالم الكتابة ، إذ أنه يعبر عن عالمه ووجوده من خلال الأحرف والكلمات ، كما يعبر الرسام عن خلجاته من خلال تمازج الألوان حتى تخرج بين يديه لوحة تتحرك من جمودها الخشبي رائعة تحاكي العيون بأبهاها ، كل كاتب في داخله كلمة ورسالة يريد منها أن تصل للآخرين ، فيبدع من خلال جملته تلك ومخارج موسيقاها ليجسد كتابه الذي تتلقفه الأيدي ولتبحث من خلاله على ذاتها التائهة الضائعة ، والكاتب الحق هو الذي لا يكتفي بشكل واحد بل لا بد له من التفنن في موضوعات شتى ، دينية ، سياسية ، أخلاقية، علمية ، تاريخية ، ليحاكي بذلك كل المستويات والعقول ، وإلا فهو محدود ، لا يستطيع بحدوده التي خطاها ورسمها أن يحاكي التغيرات في البشرية والعصر ، فهو خاسر لا محالة ، كل كاتب يتبع شكل معين ، ومن خلال النقد البناء واللابناء يتعرف على ثغراته ، فإما يعمل بها إحسانا وإصلاحا وإما يغير بها إلى الأفضل ، فالكاتب الحدق لا يستطيع أن يتشكل في قالب واحد ، إذ إن الزمن مغاير وما يحمله في طياته من تبعات تجبره محاكاته ، ومماثلته بل إحسانه وتجميله ، بما حباه الله من معرفة وتأثر ، ولا بد له من مجاراة الواقع وما فيه من معاناة وإشكالات حاضرة أو ماضية ، ولا بد له من الخروج نوعا ما بالحلم البعيد عن واقعه المرير ، إلى عالم يجعله يعيش السعادة ، ربما هي خيال موجود أو منسوج في عقله الباطني ، قد ادركه من خلال الموجودات حوله ، فكم من كاتب أوحت له صخرة وتكلمت أحداثا وقصصا ، وكم من كاتب أوحى له الموج والشاطئ عن أساطير عفاريت وجان ومارد ..
لا بد للكاتب أن يماثل مرآة مجتمعه فهو ليس بعيدا عنها ، ولا بقريب منها ، فبعده خطأ وقربه خطأ فهو بين بين ، فهو بين جماعته بفكره وحاضر بقلبه ، أو يبعد عنهم بخياله وخلجات داخله ، وذاته ، ولابد للكاتب من أن ينزل من علياء عرش خياله ووحدته ليحاكي الناس من حوله ، يحاكيهم بلغتهم من البساطة حتى أصحاب المعارف والثقافة ، يحاكيهم ويحاكونه ، يعلم عنهم الكثير ويعلمونه ..
لا ننكر بأن لدينا قضايا كثيرة ، منها إجتماعية وتاريخية ودينية وسياسية ، ودائما للكاتب نظرة شمولية ، وأحيانا نظرة مسبقة للأحداث ، بما حباه الله من قدرة على استيعاب الجزء ليتحول للكل ، فيلتقي بفكرته بين عدة أفكار ربما تكون هي بمثابة إشراق جديد لفكرة ما، أو تجديد في إنتاج أو إعادة عمل بال ولكن مازلنا نتعلم منه اليسير ، ولا بد للكاتب من أن يتأثر بالمجتمع حاملا معه هموم الظلم والإستبداد ، فيحاول بوعي المسؤولية أن يرفع ويغير مايلزم تغيره ، ويبقي ويرسخ مايلزم بقاءه ، ولا بد له منةتسليط شعله من نور حول حادثة ، أو فكرة ينقل من خلالها فكره ، وما يحاول به أن يحوطه ويمحوره ، ويوصله للآخرين ، فيسلط الضوء على هذه القضايا ، ويرسم لها طريقا نهائيا للتتفكر من خلاله الألباب بنمط هذا التصرف أو ذاك وتبعاته وعواقبه ، وبذلك يكون هذا الكاتب قد أرسى رسالته عبر كلماته وحروفه ليحاكي بها المفكرين ويتنبه بها الغافلين ، فهو دائما يحمل في طياته ضميرا يعاتبه أو يغدغه إذ سكتت همته ، وهمدت كلمته ، فعندها تتناثر هذه الكلمات في كل الإتجاهات تناثر أوراق الخريف في مهب الريح ، بل عليه أن يوجه كلماته لكل الناس بما يعود عليه بالخير الكثير .
نسبة من الناس تعود للتأمل والتفكر ، وتستوضح من خلال ذلك بعض الأفكار والحكم والدلائل ، فربما حلت من خلاله مشكلة إجتماعية سائدة ، وأصبحت بفضله بائدة ربما أنار درب كثيرين عجزوا في إكمال منتصف الطريق أو أوله ، وهو له الفضل في توجيههم إلى نهايته .
كما ذكرنا سلفا على كل كاتب التنوع بما يكتبه ، وأن يحاوط العلوم كلها ، كلما أخذ منها توجه إلى غيرها ، حتى إذا فرغ من غيرها عاد إلى أولها وهكذا دواليك ، وللكاتب مكتبة خاصة به يجمع ما يحوكه من قصص وروايات وعلوم وأدبيات وكتابات وأفكار مطروحة هنا وهناك ، متناثرة منظمة ، ويوما ما ستتصدر إذا كتب لها الولادة بعد المخاض ، الكاتب دائما يوجه كلماته وكتبه لكل من يتجه إليه ، وتلعب كلماته وكتبه الدور الفعال في استمالة القلوب ودعوتها إلى سماع صوته الهامس عبر حروفه السابحة في الفضاء ، الكتابة والقلم لا يعترفان بجنس عن جنس فهما للجميع دون تثنية ، وأنهما مهما اختلفا فلا بد من اللقاء ، فيريا أنهما واحد وإن اختلفت اللغات والتوجه فهما يصبان في قالب واحد ، ولكل كاتب له طريقته في رسم الكلام والجمل والعبارة ، وإن اجتمع شكلا ومضمونا ، شكل بذلك وحدة قوية في حمل هموم الثقافة والعلم والإبداع ليصل به إلى مساره الصحيح ، وليتوج به في عالمنا العربي عامة وفي لبنان خاصة .
إن حروفي وكلماتي تجمع دائما على الخير وحبه ، ونبذ كل ماهو خطأ بالخليقة وبالفكر يبلورها العقل والمنطق ، تحاكي كتاباتي هموم المجتمع وما يدور فيه ، وإلي أين هو راحل ، وإلى أين المسير ، تدعو كتاباتي للتعقل ونبذ جاهلية أولى وما هو ليس بالدين والأخلاق ، وتدعوا إلى طلب العلم والثقافة والتزود بها فمهما عرفنا مازال أمامنا بحر ، حتى تتحول كلماتنا وتواصلنا معا بالعلم والثقافة وترك سخف العقل .
الكاتب يحمل مسؤولية فكرته ، ويحاكي الناس بوعيه دائما ، وعليه أن لا يتأثر بالآخرين ، فيستحي من الحق ، فالحق لا يستحي منه ، بل عليه أن يوجهه بمنظاره الصحيح ولا يصيبه الإنطواء والتردد ، أو العودة به إلى الوراء ، عليه أن يتابع رسالته من غير تبرم أو أفأفة .
الفن القصصي والمقالة تلعبان دورا فعالا في إيصال الكلمة والحرف والحبر ، وريقات إن تعددت ولكنها مقروءة ومسموعة على السواء ، وعلى الكاتب أن ينتقي مايجده في ضوء مجتمعه ومجتمع غيره ، فيوجه تلك الصفحات وتلك الأسطر إلى ظاهرة منتشرة يحاول أن يعلق عليها بحكمة اكتسبها من خلال تجاربه وتجارب الأخرين، ويشارك بها عقول القراء قبل أن يبدي رأيه بل يبديه بطريقة يتشارك بها مع الجميع فيوافقونه الرأي ويوافقهم ، الكتابة بحد ذاتها هي للكتابة فالمنشد ينشد صوته عبر الإهتزازات الصوتية النابعة من أوتاره ، والكاتب ينشر كتاباته عبر حروف كتابه ، ربما هي ثورة على المتغيرات والمرتكزات البالية البعيدة عن منطق التعقل والقبول والتي تنتشر بيننا في مجتمعاتنا القريبة قبل البعيدة منها ، حاملة الخطأ تاجا تزين فيه الرؤوس، متغاضية عن الصح خلف الظهور.
التحريض لا يصنع كاتبا ، الكاتب الحر يصنع المستحيل ، فيغير ويبدل ويجمع حوله المفكرين والمتعلمين المثقفين الواعيين في مجموعة حسبنا أنفسنا في غنى عنها أو أننا نعيش في توحد دائم ، ولكن تلك العملية هي الأعم في جمع آراء المتعلمين والمفكرين والمبدعيين حتى البسطاء ، والذين نالوا ولو قسطا بسيطا من العلم يستطيعون أن يحاكوا الآخرين بالقلم واليراع ، والورق والكلمات فما يخرج من القلب فهو للقلب قابع ، القاريئ المطلع هو أكبر ناقد يستطيع أن يفرق بين الكاتب المبتذل المنافق الذي ينسج من فكره وحبره ما يدفئ فيها قلوب الذين يحتاجون للكلمة الطيبة دون مقابل ، الكاتب إلهامه الأول حبه لما يكتب ، وهو دائما مسافر إلى محطات تعددت في حياته ، وفي كل محطة تعطيه فكرة ما ، وماهي الفكرة السائدة التي تحوطه ، والتي يتأثر بها ، وبما يجدها سواء أكانت في منزله أو بين طيات حياته ، في عمله في وحدته ، أثناء تجوله ، ربما يجدها عند أبسط الأشياء وأبسط الناس ، عند عابر سبيل ، عند مهاجر غريب ، عند حيوان شريد ، عند نبتة ثابتة على عرشها رغم أهوال العصوف والرياح ..
لا نستطيع أن نكبل الكاتب ونربط فكره ويديه عن صنع كلمة ، فهو حر طليق كحرية الطائر في بسط جناحيه الذي يسافر بهما عبر الزمن .
لقد نشرت دار التيار الجديد إعلانا عن أعمالي في الgoogle الجديد لقصصي ، صور وعبر ، باحثة عن روحها بين طيات النسيان ، وعادت الأرض بعد المغيب ،وفي لكل انحاء العالم ، أما بالنسبة لكتابي الأخير واقعنا المنتظر بين الحاضر والماضي هو من نشر دار الهدى الإسلامية في لبنان وعملت له إعلانا على الفيس بوك وكذا كل القصص السابقة .
أقول والقول يسير أن لكل إنسان القدرة على التغيير للأفضل وللأحسن ، وكل حسب مهارته وقدراته ، لا خجل من كلمات سهلات بسيطات ، فلربما هي الأكثر أثرا على الناس ، لأنها عندما تخرج من القلب حبا للآخرين سيتناولها الآخرون بكل حب وشوق ، ولتكن الرسالة دائما للأحسن ، بنبذ الأنا والنفس تضحية ، وإعطاء ماحبانا الله من نعم قدر المستطاع ، فإنه لابد ليوم سيأتي ويعود علينا بالجميل .