أجداد وأحفاد

الدكتور عثمان قدري مكانسي

كثيراً ما أسأل رجلاً عن أحواله ، راغباً مرة ومجاملاً مرة ، فيجيب : الحمد لله رب العالمين . وقد يُقبّل ظهر كفّه مُظهراً السعادة والسرور قائلاً : الأولاد حولي، والصحة وافرة ، ولنا بيت نملكه ، والمال يكفي، ولا نحتاج أحداً غير الله تعالى ، وليس هناك ما ينغّص علينا....
وهذا مبلغ علمه وغاية ما يريد من هذه الدنيا الفانية. بل هذا ما يعيشه الكثرة الكاثرة من أمتنا حين نسيت أن الله تعالى قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فجهلوا معنى الآية.

لكنّ الزبرقان بن بدر – رضي الله عنه – يرى غير ما يرى الرجل ويسعى إلى أمور أخرى أكبر بكثير من تفاهات الدنيا . ويعلم أن الله لم يخلقه ليأكل ويشرب وينعم في الدنيا فحسب ـ فالمسلم داعية عليه واجبات، ينبغي العمل لها .
الزبرِقانُ من بني أسد ، شاعر وجيه في قومه، وفدَ معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلم مخلصاً لله تعالى قلبُه. ورأى فيه الحبيبُ صلواتُ الله عليه علائم النجابة والذكاءَ والصدقَ ، فقلّده في قبيلته جباية الزكاة والصدقات ، فأظهر كفاءة في عمله ، فأقرّه الصدّيق على عمله – في خلافته- وفعل الفاروق ذلك حين تولّى الخلافة من بعده.
زاره الشاعر الحُطَيئة ومدحه، فأكرمه الزبرقانُ ،ووهبه من حُرّ ماله، وأحسن وِفادتَه،إلا أن حُسّاد الزبرقان أغرَوُا الحُطَيئة بأكثر مما أعطاه الزبرقانُ على أن يهجُوَه ويُشنّع عليه ، ففعل ذلك وأنشأ قصيدتَه الشهيرةَ التي نالت من الزبرقان يقول فيها :
دعِ المكارمَ لا ترحل لبُغيتها * واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي

فتثورُ ثائرة الزبرقان ، ويتألم كأسد جريح نالته طعنة نجلاءُ . فيذهب إلى الخليفة عمر الفاروق يشكو ما فعل الحطيئةُ .
وعمر رضي الله عنه ناقد ، وذوّاقة للشعر ، عرفَ ثقلَ ما يعانيه عامله الزبرقان من ألم ، إلا أنه – كي يصدر حكماً صحيحاً – يستشير شاعر رسول الله حسّان بنَ ثابت.
ويسمع حسان القصيدة ، ثم يقول : إن الحطيئة لم يهْجُه فحسبُ إنما سلح عليه.... فقد كانت القصيدة غاية في الذمّ والانتقاص.
إن العربي المسلم لا ينحصر همّه في الأكل والشرب وجمع الأموال ، وأن يخطِر في ثياب جديدة زاهية . إن له هدفاً سامياً في حياته خلقه الله تعالى له ، وسيحاسبه عليه . إنه نشر الدعوة الإسلامية بالقول والفعل ، والعملُ على إظهار الحق وإغاثةُ اللهفان ، ومساعدة ذي الحاجة.
وجيء بالحُطيئة الذي مال لمن دفع له أكثر فباع دينه وخُلُقَه ، ولم يراعِ حرمة ، ولم يحفظ عهداً ، فعوقب بالسجن جزاء ما اقترف لسانُه.
ويأتي العيدُ – وما أدراك ما العيد- والرجالُ بين أهليهم وفي أسَرِهم إلا الحطيئة الشاعرَ بعيداً عن أولاده وصاحبته وأهله ، فيرسل إلى الخليفة الراشد مستعطفاً بأطفاله الصغار الذين لم يبلغوا سنّ الرشد ، أبوهم بعيد عنهم ولن يسعدوا بالعيد ومعيلهم قابع في سجنه :

ماذا أقول لأفراخ بذي مرخ(1) * زغبِ(2) الواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعر مُظلمة (3) * فاغفر، عليك سلام الله ،يا عمرُ

ويرقّ قلب الخليفة الحاني ، فيخرجه من سجنه ، ويشتري منه أعراض المسلمين بأربعة آلاف درهم على أن لايعود إلى هجاء أحد ، وإلا قطع الخليفةُ لسانه.
فيلتزم الحُطَيئة وعدّه ، ويحفظ عهدَه ما دام الفاروقُ حياً . ثم يعود إلى عادته الذميمة حين يأمن العقوبة ، فهو شاعر بذيء اللسان ، هجا أمه ! أفلا يهجو الاخرين وينال منهم ؟ بل إنه يهجو نفسه حين لا يجد غيرها.

الهوامش
(1) ذو مرخ: موطن قبيلة الشاعر.
(2) الزغب: الصغير من الطير لم يستوِ ريشُه بعدُ.
(3) قعر مظلمة: سجنه في بئر عميقة.