بسم الله الرحمن الرحيم...

سلام الله على الأحبة الكرام و على الفاضلة الأديبة خديجة بن عادل...
و هذه كلمات على هامش طرحها لأسئلة من الأهمية بمكان في منتدى القصة القصيرة جدا و ذلك في تعليقها على قصيصة "اختراق"...

كل قراءة لعمل من الأعمال قد تثلج الصدر و تفتح آفاق النقاش حول الكتابة و دورها في الوجود...بحيث تطرح العديد من الأسئلة حول الإنسان و ماهية الكلام المكتوب و الكلام المقروء...أسئلة تثير فضول الكاتب و القارئ الملقي و المتلقي...أسئلة تنبش في العلاقة ذات الأبعاد الثلاثة البعد الروحي و النفسي و الاجتماعي...أسئلة تناوش اللغة الأساس الأولي في فهم الذات و الآخر الحياة و الكون...التقنية و مستويات تجليات و امتدادات العقل في المادة...المادة التي تبدو صماء مع الكائن الحي...هذا المتحرك الناطق باختلاف الألسن... قد تصبح هي الناطقة و المعبرة و الجسر الذي يتواصل به مع الآخر باعتبارها امتداد لما يجري في العروق من حبر يتنفس عبر كلمات و جمل تعبر القارات و قد لا تستقر في أقرب العقول إليك...

كل ما في الوجود في تفاعل مع الإنسان...

لكن يظل الإنسان في حيرة من أمره...هل هو في حالة تفاعل مع هذا الوجود...؟ و ما هو مدى تفاعله...؟و إلى أي مدى قد يصل هذا التفاعل...؟

والسؤال الذي يطرح نفسه
لمَ نكتب ؟ ولمن ؟ وما الفائدة ؟

لم نكتب...؟ كسؤلك لم يتنفس الإنسان...؟ و لم يأكل و يشرب و ينام و يتناسل و يتكاثر و يتكلم و يتحرك...؟ يكتب الإنسان لأن الإنسان كائن حي و الحي متحرك و المتحرك ينتج أفعال و ألافعال تتعدد بتعدد الحاجات...و الإنسان في حاجة إلى الفهم و الفهم معرفة و المعرفة تتطلب فعل أساسي هو فعل السؤال الذي يتطلب جواب...و الجواب يختلف باختلاف درجات الوعي الذي وصل إليه المجتمع...فإذا ما بلغ الإنسان مستوى الوعي بذاته و بكينونته و صيرورته احتاج أن يترك لمن خلفه ما وصل إليه من خبرة و معرفة كأجوبة على تلك الأسئلة...الأسئلة التي تتجدد كتجدد الأيام...و من تم كان الإنسان في حاجة إلى القراءة... لذلك كانت الكتابة هي الأرض الخصبة التي يزرع فيها الإنسان المعاني ليتناولها و يتشربها عبر العصور في صور كتب و رسوم و فنون و ألغاز كأجوبة على تلك الأسئلة التي أرقت الإنسان الأول كما صاحب ذلك الأرق و القلق الإنسان عبر العصور...

سؤال سيظل يتردد عبر العصور و لن يرتوي الإنسان بالإجابات لا القديمة و لا الجديدة بحكم ما يسميه الأديب الفاضل اللبيب أحمد المدهون "وهم البحث عن الكمال" و ما أسميه بكل بساطة "البحث عن الكمال"...
فالإنسان عبر العصور ما فتئ يبحث عن الكمال في كل شيء...كيف ذلك؟
أليست السعادة و الطمأنينة و السلام من بين القيم التي كدح الإنسان من أجلها عبر العصور...؟
أليست الحرية و العدالة و الحق و الخير و الجمال من القيم الكبرى التي دافع عليها حتى يحقق غاياته الأولى...؟
ألم يرسل الله جل و علا الأنبياء و الرسل لكي يعيش الإنسان في ظل طمأنينة و سعادة و عدل و حرية و خير و جمال و سلام...؟
ألم يكن الإسلام هو قدر الأرض مند نشأتها و سيظل هو الرجاء للبعض و الحلم للبعض الآخر و الوهم بالنسبة للبعض الآخر كما يشكل الأرق الذي يقض مضجع البعض من جهة أخرى...؟
إذا كان آدم و حواء عليهما السلام مسلمين لله في اعتقادهما موحدين له في الربووبية و الألوهية جل في علاه و كان آخر الأنبياء و المرسلين عليه الصلاة و السلام دعا إلى الإسلام كما دعا الأنبياء و الرسل صلوات الله و سلامه عليهم الذين بعثهم الله من قبله...دعوا بدعوة الإسلام...مع العلم أن الله يقول في كتابه الكريم و قوله الحق:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }آل عمران85
ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة, والعبودية, ولرسوله النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان به وبمتابعته ومحبته ظاهرًا وباطنًا, فلن يُقبل منه ذلك, وهو في الآخرة من الخاسرين الذين بخسوا أنفسهم حظوظها.[التفسير الميسر].
أليس هذا الكم الهائل من الدراسات و الأبحاث في العلوم الإنسانية و في العلوم الحقة هو بحث عن تحقيق الكمال في العلم و المعرفة (مع الوعي التام بأن العلم قاصر لحد الآن على تحقيق السعادة و الطمأنينة و السلام للعالم بأسره)...؟
أليس الإحساس بالنقص هو من بين الدوافع الأكثر تأثيرا في العلماء للتحدي الذي يقومون به لاكتشاف مكونات و أسس الحياة في الإنسان و في الفضاء و في أعماق البحار و في كل شيء...؟

الكمال كصفة من الصفات لن و لن يدركها الإنسان مهما بذل من جهد و قاوم و تعب و أخلص... لأن الإنسان كائن ناقص في كل شيء فقير إلى الله عز و جل في كل شيء سواء كان على وعي بذلك أو لم يكن...

هذه حقيقة ينساها من ينسى أنه احتاج في أول يوم من ولادته لأمه ثم لأبيه ثم لمعلمه ثم لأستاذه ثم لهذا و هذا حتى شب عن الطوق و أصبح هو الآخر يقضي الحاجات لأولاده و زوجته و للآخر...و مع ذلك يظل هو الآخر في حاجة إلى هواء يتنفسه و ماء يشربه و العديد من الحاجيات التي هي لب الشهوات و الرغبات التي تحرك الجانب الآدمي البشري في كينونته...

فقضية الحاجة هي بيت القصيد في نقصان الإنسان على مستوى الروح و النفس و العقل من جهة و على مستوى الجسد من جهة أخرى...كما هو شأنه في كل الحاجيات المادية و المعنوية...و مع ذلك ما دعانا الله عز و جل للتقوى إلا لكي نطمح لبلوغ الصفة بل الصفات التي مكن بها الأنبياء و الرسل صلوات الله و سلامه عليهم تمكين اقتداء لا تمكين اصطفاء...
على ضوء هذه الحقيقة يمكن القول أن هناك فرق بين الوهم و البحث الدؤوب للتصحيح و التقويم و التغيير...فالكمال بالنسبة للإنسان ليس هي صفة الكمال المطلق بل هي صفة التقوى التي تشكل قمة الكمال على المستوى الإنساني...أما الكمال المطلق فهو لله جل و علا المنزه عن الحاجة الغني عن أي شيء لأنه جل و علا ليس كمثله شيء...و ذاك له جل في علاه و ليس لغيره حتى من الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام...
{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً }الفرقان7
وقال المشركون: ما لهذا الذي يزعم أنه رسول الله (يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم) يأكل الطعام مثلنا، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق؟ فهلا أرسل الله معه مَلَكًا يشهد على صدقه،[التفسير الميسر].
فانطلاقا من الأفعال التي تحقق الاستمرار و الكينونة كان فعل الكتابة و ربيبه الذي لا يعني شيئا بدونه فعل القراءة من الأفعال التي تعتبر كالماء و الهواء في حياة الإنسان خاصة بعد نزول الأمر بالفعل من فوق سبع سماوات فعل "اقرأ"...لماذا...؟ لكي يتعلم الإنسان ما لم يعلم من قبل و يترك بالقلم الذي شرفه الله بالكتابة ما علمه السلف للخلف من ذرية آدم عليه السلام...

فالسؤال لم نكتب...؟ يظل من الأسئلة التي تعتبر معقدة و مركبة و بسيطة في نفس الآن...
معقدة :لأن فعل الكتابة ليس بالفعل البسيط كبعض الأفعال التي تصبح آلية و بدون عناء تفكير...فهو غداء الحروف التي لا ترتوي إلا بسبك المعاني في جمل...تنطلق من الذات لتخاطب الذات و الآخر...كذلك الذي يكتب بدمه ليخاطب بني جنسه...أو يكتب بروحه ليخاطب من خلقه...أو يكتب بوجدانه ليخاطب إنسانية الإنسان فيه و في غيره...و غير ذلك من أنواع الكتابة...

مركبة:لأنها تمزج بين تجربة الذات و تجربة الآخر و التجربة الإنسانية بصفة عامة...فالإنسان كائن اجتماعي و الكائن الاجتماعي هو كائن متفاعل سلبا أو إيجابا مع ذاته و غيره...هذا التفاعل هو الذي يختار طوعا أو كرها أسلوبا معينا يسكب فيه من ماء حياته ليسقي الآخرين ظمأ المعرفة بغض النظر عن صوابها أو خطأها...و لذلك لسيوا سواء كل من قرأ و كتب...فهناك من يدعو إلى الحق و هناك من يدعو إلى الباطل و هناك من هو في حيرة و تيه...و هناك من هو على علم و يقين ليس في كل شيء بل فيما تقتضيه الضرورة...

بسيطة:لأن الإنسان الذي جعل الله في صدره قلب و على كتفيه رأس أمده الله بقنوات المعرفة ليسأل حتى يعرف الحق من الباطل و الصواب من الخطأ و يستوعب حقيقة التصرف في حياته...بين اختياراته و إمكاناته بين طموحاته و آماله...بين أحلامه و أوهامه...فالله جل و علا أمد الإنسان من فضله بالقلب الذي يعقل به أمور حياته من صغيرها إلى كبيرها من بسيطها إلى مركبها...بشكل من أشكال فهو ينفق أناء الليل و أطراف النهار سواء كان على علم و دراية بما يفعل أو كان يتصرف كما تتصرف الكائنات الأخرى دون إدراك تام لحقيقة الوجود و العاية منه...و الكاتب قد أغناه الله جل و علا بالمادة الأولية و هي اللغة..اللغة التي تعتبر الأساس في تبليغ أية تجربة أو شبه تجربة سواء كانت ناضجة أو ناقصة غير مكتملة المعالم...فهو من غير شك يتأرجح بين الظن و اليقين في أمور عديدة...و من تم تشغله هموم مجتمعه كما تشغله هموم أمته كما تشغله هموم الإنسانية التي ينتمي إليها...مع العلم أن ذاته تكون هي محطة من تلك المحطات التي عبرتها قوافل المعاني حتى استقرت في إبداعات أو ابتكارات أو اختراعات فاستفادت البشرية منها بشكل او بآخر...فالإنسان الذي لديه زاد من اللغة و رصيد لا بأس به من المعلومات و الخبرات و التراكمات المعرفية يستطيع أن يقدم لربه و لنفسه و للآخر تجربته في الحياة... مواقفه تصوراته و غير ذلك... مما يستطيع به أن يساهم في تقدم و رقي الإنسان...

فالإنسان يكتب للإنسان و ليس لغير الإنسان قل مستواه أو كبر و عظم مستواه...


تحيتي و تقديري المتواصل...