نحو تفسير أسهل

الدكتور عائض القرني

سورة المدثر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ



يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ ﴿1﴾
يَـٰٓأَيُّهَا ٱلْمُتغطي بثيابه ، وهو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعدما عاد من غار حراء خائفا فدثروه بالملابس.

قُمْ فَأَنذِرْ ﴿2﴾
قُمْ من مرقدك وحذِّر قومك عذاب ربك وادعهم إلى التوحيد ، وخوِّفهم العذاب الشديد إن هم خالفوك وعصوا أمرك .

وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿3﴾
وعظِّم ربك وحده بتوحيده وتنزيهه عن الأضداد والأنداد ، وداوم على ذكره ، ووصفه بما وصف به نفسه والذل له .

وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿4﴾
وطَهِّرْ ثِيَابَكَ من النجاسات ودينك من المعاصي والمخالفات، وتوحيدك من الشركيات ، لتكون نقيا من كل ذنب وعيب .

وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ ﴿5﴾
واهْجُرْ الشرك كله من عبادة الأصنام والأوثان وكل ما عُبد من دون الرحمن ، وأخلص توحيدك للواحد الديان .

وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿6﴾
لا تهب الهبة لتُعطى أكثر منها ، ولا تمنَّ بالعطية فتؤذي صاحبها وتظهر كثرة عطائك وكرمك على الناس .

وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ ﴿7﴾
واصبر لوجه الله على أداء الطاعة واجتناب المعصية ، وتحمُّل المصيبة طالباً الثواب من الله وحده .

فَإِذَا نُقِرَ فِى ٱلنَّاقُورِ ﴿8﴾
فَإِذَا نُفخ فِى ٱلقرن نفخة البعث والنشور حينها يشتد الخطب ويعظم الكرب ، لأن الأمر صعب .

فَذَ‌ٰلِكَ يَوْمَئِذٍۢ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴿9﴾
فذاك اليوم يوم عسر ، وموقف خطر ، لكثرة أهواله ، وشدة فزعه ، وعظيم ما يحصل فيه من أمور .

عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍۢ ﴿10﴾
فهو يوم شديد على الكفار لما يشاهدونه من أخطار ، حينها يناقشون الحساب ، ويذوقون العذاب ، وينزل بهم العقاب .

ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًۭا ﴿11﴾
دعني أنا ومن أوجدته من بطن أمه وحيداً فريداً فقيراً ، لا مال ولا ولد والمراد به الوليد بن المغيرة المكذب بالرسالة .

وَجَعَلْتُ لَهُۥ مَالًۭا مَّمْدُودًۭا ﴿12﴾
ووهبته مالاً كثيراً وفيراً واسعاً بعدما خرج إلى الحياة مملقاً معدماً فأغنيته بما أعطيته .

وَبَنِينَ شُهُودًۭا ﴿13﴾
ورزقته أولاداً حضوراً معه في مكة ، لا يغيبون عن خدمته ، فقد أعطيتهم ما أغناهم عن السفر للمعاش .

وَمَهَّدتُّ لَهُۥ تَمْهِيدًۭا ﴿14﴾
وسهَّلت له طرائق الرزق تسهيلاً ،ويسَّرت له أسباب المعاش حتى كثُر ماله وعظم جاهه .

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ﴿15﴾
ثم يأمل بعد هذا العطاء زيادة الغنى من المال والنعم ، والخدم والحشم ، فهو كثير الطمع والجشع ،لا يشبع .

كَلَّآ ۖ إِنَّهُۥ كَانَ لِأيَـٰتِنَا عَنِيدًۭا ﴿16﴾
ليس الأمر كما يظن هذا الكافر الأثيم لا أزيده على ما أعطيت ، لأنه عاند الحق ، وجحد الصدق ، وحارب الرسالة .

سَأُرْهِقُهُۥ صَعُودًا ﴿17﴾
سأكلفه المشاق من النكال والإرهاق ، وأبتليه بأشد المصاعب من كربات وأزمات لا راحة له منها .

إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ﴿18﴾
إِنَّهُۥ فَكَّرَ في نفسه وهيأ كلاماً يطعن به في القرآن ، فهو معدٌ للسوء ، متعمد له ، مترصِّد للإثم .

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿19﴾
فلعن وهلك وغلب وقهر كيف هيأ في نفسه هذا الطعن؟ وكيف أضمر هذا السوء وما حمله على ذلك؟.

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ﴿20﴾
ثُمَّ لعن وهلك كيف هيأ هذه الإساءة ، وحَبَك هذا الطعن ، وما الذي جرَّأه على هذا الطعن .

ثُمَّ نَظَرَ ﴿21﴾
ثُمَّ نَظَرَ فيما قَدَّرَ ، وفَكَّرَ فيما أضمر ، فهو أجال رأيه ليبحث عن مطعن ، وأعمل فكره ليلتمس عيباً .

ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ﴿22﴾
ثُمَّ قطّب وجهه ، وكلح به لما عجز أن يجد مغمزاً ، فقبح وجهه وساء لما ضاقت به الحيلة في العثور على عيب .

ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ ﴿23﴾
ثُمَّ أعرض عن الصواب ، واستكبر عن الحق ، فهو مُدبر عن الهدى ، متعاظم أن يعترف به ، رفضه لمِّا أتاه ، وكرهه وأباه .

فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا سِحْرٌۭ يُؤْثَرُ ﴿24﴾
وقال عن القرآن : هذا سحر يتعلم من الأوائل وينقل عمن سبق ، فهو مأخوذ بالتلقي ، متعلّم بالتلقين .

إِنْ هَـٰذَآ إِلَّا قَوْلُ ٱلْبَشَرِ ﴿25﴾
ما هذا القرآن إلا كلام الناس أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم من أفواه الرجال ، وليس وحياً ، كذباً منه وزوراً .

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴿26﴾
سأدخله النار تحرقه بلهبها وتصليه بحرِّها يتقلب على وقودها ، ويُشوى في جحيمها .

وَمَآ أَدْرَىٰكَ مَا سَقَرُ ﴿27﴾
وما أعلمك أي شئ هذه النار؟ إنها فوق الوصف عذاباً وألماً ، وإنها فوق الخيال نكالاً وضنكاً .

لَا تُبْقِى وَلَا تَذَرُ ﴿28﴾
لا تبقي لحماً ولا تترك عظماً ، لا تبقي بشراً ولا تترك أثراً ، تحرق الأجسام ، وتذيب الأجرام .

لَوَّاحَةٌۭ لِّلْبَشَرِ ﴿29﴾
تغيّر البشرة ، وتسوِّد الجلود ، تحرق الجسم وتشوي اللحم ، يصبح فيها الإنسان فحماً والبشر حمماً .

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴿30﴾
يتولى أمرها ويشرف على شأنها تسعة عشر ملكاً من الزبانية الأشداء ، والجبابرة الأقوياء .

وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ إِلَّا مَلَـٰٓئِكَةًۭ ۙ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةًۭ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِيمَـٰنًۭا ۙ وَلَا يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۙ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌۭ وَٱلْكَـٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلًۭا ۚ كَذَ‌ٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۚ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِىَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ﴿31﴾
وَمَا جَعَلْنَا خزنة َ ٱلنَّارِ إِلَّا كل ملك غليظ جبار ، وَمَا جَعَلْنَا ذلك العدد إلا إمتحاناً لمن كذّب وجحد ، ليقع اليقين لليهود والنصارى، أن ما جاء به القرآن موافق لما نزل عليهم في كتبهم من الرحمن ، فيعظم لديهم الإيمان ، ويزداد المؤمنون بذلك تصديقاً ورسوخاً في اليقين وتحقيقاً ، ولا يشكك في صحة ذلك الذين نزل عليهم الكتاب من اليهود والنصارى ولا من آمن بالله ورسوله ، وليتحدث أهل الكفر والنفاق والريبة والشقاق عن سرِّ العدد المتعجب منه ، وماذا أراد الله باختيار هذا الرقم؟ وبمثل هذا الذي نزل يضل الله من أراد ضلاله ، ويهدي من أراد هدايته ، فالقرآن هداية لأهل الإيمان ، وخسار لأهل الكفر والطغيان ، وما يعلم ذاك العدد من الملائكة إلا الواحد الأحد ، وما النار إلا تذكرةٌ لأولي الأبصار ، وعبرةٌ لأهل الإعتبار ، وموعظةٌ لمن خاف الواحد القهار .

كَلَّا وَٱلْقَمَرِ ﴿32﴾
ليس الأمر كما ذكروا من التكذيب ، وأقسم قسماً بالقمر وهو آيةٌ باهرة على حسن الصنع ، وبديع الإتقان .

وَٱلَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴿33﴾
وأقسم قسماً بالليل إذا ذهب بظلامه ، وولِّى بسواده بعد أن غطى العالم بجلبابه ، وستر الدنيا بثيابه .

وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ ﴿34﴾
وأقسم قسماً بالفجر إذا أضاء ، وانبلج بالسَّناء ، وأقبل بطلعته البهية ، وإشراقه الزاهي ، ووجهه الأغر .

إِنَّهَا لَإِحْدَى ٱلْكُبَرِ ﴿35﴾
إن النار لإحدى الدواهي الكبار ، فهي من عظائم الأمور ، ذكرُها يقصم الظهور ، وتضيق من هولها الصدور .

نَذِيرًۭا لِّلْبَشَرِ ﴿36﴾
وهي تخويف للعباد ، ليتهيؤوا ليوم المعاد ، ففي ذِكر النار من الإنذار ما يخلع قلب كل مستكبر جبار .

لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴿37﴾
لمن أراد أن يتقرب بفعل الطاعات ، أو يتأخر بعمل المحرمات ، قالمصدق يتقدم بصلاحه ، والمكذب يتأخر بفساده .

كُلُّ نَفْسٍۭ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴿38﴾
كُلُّ نَفْس محبوسة بما عملت ، مرهونة بما اكتسبت ، لا تُطلقَ حتى تؤدي الحقوق ، ولا تُفك حتى تتخلص من الواجبات والتبعات .

إِلَّآ أَصْحَـٰبَ ٱلْيَمِينِ ﴿39﴾
إلا الصادقين من المؤمنين ، فكوا الرقاب باتباع السنة والكتاب ، وأعتقوها بفعل ما صلح من الأسباب .

فِى جَنَّـٰتٍۢ يَتَسَآءَلُونَ ﴿40﴾
نزلوا جنات النعيم ، في خير حال وأحسن مآل ، وراحة بال ، يسأل بعضهم بعضاً زيادة في الإيناس والبهجة .

عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴿41﴾
يسأل المؤمنون في الجنة أصحاب النار من الكفار ، وهذا زيادة في غبطة أصحاب الجنة ممن رأى المعذب وهو سالم اغتبط ، وبضدها تتميز الأشياء .

مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ ﴿42﴾
ما العمل الذي أُدخلتم بسببه النار؟!! وهذا زيادة في إيلام الفجار ، فإن المعذّب إذا سُئل عن سبب عذابه زاد ألمه.

قَالُوا۟ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ ﴿43﴾
قال المجرمون للمؤمنين : دخلنا النار لأننا لم نكن نصلِّي في الدنيا .

وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴿44﴾
وما كنا نتصدق على الفقراء ، ولا نعطي المساكين ، فهم مع ترك الصلاة منعوا الزكاة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتال الناس حتى يقوموا بهما .

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلْخَآئِضِينَ ﴿45﴾
وَكُنَّا في الدنيا نتحدث بالآثام في كل كلام حرام ، من باطل وزور وكذب وفجور وغواية وضلالة .

وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴿46﴾
وَكُنَّا ننكر يوم القيامة يوم الجزاء والحساب ، ونرى أنه لا يقع ، وأن كل خبر بحصوله كذب .

حَتَّىٰٓ أَتَىٰنَا ٱلْيَقِينُ ﴿47﴾
حتى جاء الموت بالسكرات ، ونحن في تلك الضلالات ، جاحدين بالبعث والنشور ، حتى فاجأنا قاصم الظهور .

فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـٰعَةُ ٱلشَّـٰفِعِينَ ﴿48﴾
فما تمنعهم من العذاب شفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين ، لأن الله لم يأذن لأحد أن يشفع لهم ، والله لا يرضى عن هؤلاء الفجار .

فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ﴿49﴾
فما لهؤلاء الفجار الكفار انصرفوا عن الإتعاظ بالقرآن ، وأعرضوا عن تدبر الفرقان .

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌۭ مُّسْتَنفِرَةٌۭ ﴿50﴾
كَأَنَّهُمْ في فرارهم من سماع القرآن حمر وحشية ، لجامع البلادة والبهيميّة ، وطيش الأحلام ، وسفه العقول ، ووجود الجموح والإعراض .

فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍۭ ﴿51﴾
هربت من اسدٍ كاسر ، وفرت من ليث غادر ، فأخذت تفرُّ أمامه في غاية السرعة ، فهؤلاء لما سمعوا بالرسالة نفروا من قبولها .

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًۭا مُّنَشَّرَةًۭ ﴿52﴾
بَلْ يطمع كل واحد من المشركين أن ينزل عليه قرآن من السماء منشوراً مثلما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنَّى لهم ذلك ، فالرسالة اصطفاء ، والوحي اجتباء ، وليس بالتشهي .

كَلَّا ۖ بَل لَّا يَخَافُونَ ٱلْأَخِرَةَ ﴿53)
ليس الأمر كما ادعوا ، ولكن الصحيح أن سبب كفرهم أنهم لا يخافون عذاب الآخرة ، ولا يؤمنون بالبعث والنشور ، فحملهم هذا على الكفر والفجور .

كَلَّآ إِنَّهُۥ تَذْكِرَةٌۭ ﴿54﴾
حقاً إن القرآن موعظة عظيمة ، وحجة بالغة ، وذكرٌ لمن كان له قلب يوقظه أجلُّ النصائح ، وأشرف الوصايا .

فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُۥ ﴿55﴾
فَمَن اراد الانتفاع به انتفع ، ومن أحبَّ أن يتعظ بمواعظه فعل ، فلا إكراه في الهدى ، فَمَن شاء اهتدى ، ومن شاء تردى .

وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ۚ هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ ﴿56﴾
وما ينتفعون بمواعظ القرآن إلا بمشيئة الرحمن ، ولا يهتدون بهداه إلا إذا اراد الله ، فالله وحده أهلٌ أن يُتقة ويُطاع ، وأهلٌ أن يغفر لمن أطاع ، فحقه أن يُوحَّد ، وأن يُعبد ، وحق الموحِّد عليه ألا يعذبه بل ينعم ويسعد .