آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: وليمة الديك الزعوري ... نص ومحاولة لملء الفضاءات البيضاء!

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية علي حاج علي
    تاريخ التسجيل
    28/04/2009
    المشاركات
    52
    معدل تقييم المستوى
    15

    افتراضي وليمة الديك الزعوري ... نص ومحاولة لملء الفضاءات البيضاء!

    وليمة الدّيك الزّعوري
    قصة قصيرة
    للاديب السوداني محمد عبد الملك
    خبطت ميمونة ، شبيهة الليمونة ، بيدها المخضوبة علي صدرها الناهد ، ذلك ، حين برَقَ ، عند التقاء الأرض بالسماءِ ، برقٌ عبّاديُّ شال فجأةً وحطّ في أرخبيل ذلك الأصيل . خبطت ميمونة علي صدرها ثم شهقت ، حين هبّت نسمة ٌ طرية ٌ تتخلل المسام وتمكنّت ، بصعوبةٍ ، من سماع صوتها وهي تستغيث من نفسها إلي نفسها : هيييْ ... سجمي ! الليلة ، يا ربِّي ، الطرفة البكّاية دخلت ؟. هرولت إلي الركن المقابل دون هدف . عادت لذات المكان وهرولت ، توقّفت في منتصف الحوش وهي غارقةً في حيرتها . ثم نظرت ، رغِبةً ورِهِبة في أرجاء مملكتها المتناثرة المكوّنات : كانت أحجار الرحى في أقصي أركان المملكة مطرقة ً بعد ضجيج المُحرَاكة التي خلّفت عجيناً متناثراً علي الأرض رتعت فيه الدجاجة أم كُدر وكتاكيتها زُغُب الحواصل وهي تُصوْصِو جذلىْ وتنفضُ ، مرحةً ، بأذيالها الناشئة فضلاتٍ متوهّمة ٍعالقةٍ بمؤخراتها الصغيرة ، رتعت جنباً إلي جنب العنزة التاورية ُ الكرتاء قصيرة الأذنين .. كِريت والتي كانت تثغو بصوتها المشروخ : مييييييغ ، لكأنها تنادي علي صغارها التي ظلّت تتقافزُ فرحىْ كلما هبّت نسمة مشبّعة بالرذاذ .
    وسط تلك المملكة ، وقرب حفرة أم بريمة الواسعة ، كانت شجرةُ نيم ٍ ضخمة تنشر أعرافها في باحة البيت وقد خبأت في غياهبها بخيت القرد الذي استلقى في حضن حليمة وهو نائمٌ في خدَرٍ ناعم بينما هي منهمكة في تفلّية القملَ ونزع الصئبان من فروة جلده الغزيرة الناعمة . قنُّ الدجاج كان في طرف المملكة الغربي قرب خلوة الضيوف ، خلف التُكل كانت اللدايات وحُوْر كذا حائطٍ قصير يُحفظ فيه حطب الوقود ، داخل التُكل كان حرزُ للطلح والشاف والكُليت ، فوقه نطعٌ معلّقٌ في أعلى الركائز جمّلهُ سوادُ دخانٍ مازجَ بياض َ سعفه وحنقوقه حتي بدا كدخان العزباء أو كريش النعام ، عُشيبات الربعة والسعدة تتناثرُ في باحة الحوش وقد أطلّت قُرب الصرفان فطريات عُش الغراب كماردٍ صغير ينفضُ عنه الطين ، في الجوء تتطاير ملكات الفسّاية ووصيفات الطهّارة و عسس حُمار إبليس . حين برق البرقُ ثانيةً وأرعدت السماء كانت العنزة كريت تعُبُّ ، و خلفها صغارها ، من العجين المتناثر علي حواف الرّحىَ . نهرتها ميمونة ، شبيهةُ الليمونة ، وهي تمسكها من أذنها الكرتاء وتبعدها قليلاً : تّك . يتكوك لي السّكّين . ثمّ صاحت في الدجاجة أم كُدر و رهطها المِمْراح : كَر.. يكُرووك .. . فجأةً ، وقبل أن تكمل جملتها من نعوت الشتائم التي ترتجلها ارتجالاً تذكرت الديك الزّعوري ممعوط الرقبة ، فارتعبت وهتفت لنفسها : سجمي ! الديك الزعوري وينو ؟ ونادت ، لأول مرة ، بصوت ٍ مرتجف ٍ حياءً زوجها النائم :-
    - أرباب . أمرق السحابة دي شالت بالحيل .
    - ....... السحابة شالت !
    - آآي السَّحابة ، أمرق ربّط الغنم .
    - .......أربّط الغنم !
    - آآي الغَنَم . أنا طحنتَ العجين.
    - ..... العجين !
    - آآي العجين ، ولمّيت الحطب ، ودخّلت الجِداد .
    - ..... الجِداد !
    - آآي الجِداد ، دخّلتو ، إلا الدّيك الزعوري ما لاقياه .
    - قلتِ شنو ؟ الديك الزعوري ؟ ما لاقياهو ؟ كيف الكلام دا ؟
    حين خرج أرباب النحيل ، زوج ميمونة ، مذعوراً باحثاً عن الديك لفحَهُ تيارُ الهواء المشبّع بالرذاذ ولاحظ من طرف ٍ خفي ٍ فجور بخيت وحليمة في غياهب النيمة غير عابئين باضطراب أغصانها . ميمونة كانت تسنُّ شفرة السكين علي حجر الرحى ثم قامت بنظافة حفرة الدخان وأنزلت النطع من أعلى الشِعبة وأوقدت النار علي ما انتخبت من أعواد ِ طلحٍ وشافٍ وكُليت ثمّ وضعت قربها كُرات الدّلكة المتماسكة ذات الروائح المثيرة والمحفوظة في شنطة زواجها منذ سنين ٍ ظلّت خلالها ، ميمونة ، تترقُّب هذا اليوم ، ذلك، منذ أسرّت إليها أمينة المشّاطة ،وهي منكّبةً على تصفيف شعرها ، بالسِّر المكنون :
    - الشيخ قال لازم بيضة .
    - بيضة ؟ بيضة شنو كمان يا إنتي ؟
    - بيضة جِدادة فِرتيت ، تفقّس ويمرق منها سوسيو ممعوط الرقبة خلقة كدي . السوسيو يكبر يبقى ديك زعوري . الديك تضبحوه بعد ستة شهور وخمسة أيام وضهريّة .
    - أها . عاد كيفن احسب الأيام والشهور ديل ؟
    - الفينا دا سايق الكرامات ، ما يا هو ؟ يعني المواعيد بتجي في الفطر التاني أول يوم في الطرفة البكّاية . والشيخ قال راجلك ياكل السديفة والوركين وما في جنس إنسان في الدنيا دي كلها يعرف الكلام دا. فهمتي مني ؟
    - سمح . إلا البيضة دي وين نلقاها ؟
    - الشيخ ، في فزعتي ، بغلبو عاد ؟ استغفري يا بِت أمي . ها دي البيضة حافظاها ليك فرق شطوري ديل . شوفيها . يقول ليك الشيخ خلّي جدادتك أم كُدر دي تحضن فيها من الليلة .
    - جِدادتي أم كُدر ؟ ووب عليّ . ووب علي ّ . شعرة جلدي كلّبت . عرفا كيفن حاضنة ! يلحقني ويفزعني يا يُمّة .
    - يلحقنا كُلنا . إلا ما تنسي وصيَّة الشيخ : ما في جنس إنسان في الدنيا دي يعرف . وكمان ما في جنس مخلوق ياكل منها إلا راجلك . فاهمة ؟
    - فاهمة ... في فزعتي . يلحقني ويفزعني يا يمُة . أها والبيَاض ؟
    - البياض ! بعدين .
    حُظي الديك الزعوري ، إثر ذلك ، بمعاملةٍ كريمةٍ لم يلقها بشر، فمنذُ اللحظة التي تمّ وضعه فيها خلسةً في دُنقُر الدجاجة أمُ كُدر وهو بعدُ بيضةً تتناوبُ علي رعايتها ميمونة و تشتط في الحرص عليها حتى أنها قامت بثلم منقار الدجاجة أم كُدُر بجمرةٍ متقدةٍ كإجراءٍ احترازي من أن تقوم بنقد البيضة أو شرب زلالها وصفارها ، وكانت ، بعد ذلك ، كثيراً ما تجدها مبعدةً من بقية البيض حتى اضّْطُرت لعصب عيني الدجاجة وطلي جميع البيض بالتِّفته ومنقوع الحنقوق ، وكانت تلك أنجع وسيلة لإبهام حواس الدجاجة الحاضنة ، بل إنّ ميمونة كانت علي استعداد لأن تقوم هي بدور الحاضنة متى ما كان ذلك ضرورياً . بعد التفقيس خاضت ميمونة حرباً ضروساً علي جبهتين : جبهة إجبار الدجاجة أم كُدرعلي تبني الكتكوت ممعوط الرقبة ثمّ جبهة السر العزيز الذي تحفظه ماشطة ٌ تتدلى بين يديها كل رؤوس نساء القرية وليس بين شفتيها وآذانهن سوى سيجارة البرنجي وفنجان القهوة البكري ، لذلك فقد حبست نفسها – ميمونة- تستعجل الشهوروالأيام والعِيَن تحسبها عِينةً عِينة وترقبُ ديكها الزعوري ينمو ويكبر ويرسل عُرفه و تتدلي عُلعُلته وهو يصيح فرحاً بصوته المتحشرج : صوتُ أول البلوغ ، ثم ترقبه وهو ينفشُ ريشه ويمد عنقه الأجرد ويدور حول الفراريج في زهوٍ بالغٍ . ستة شهورٍ وخمسة أيام وهذا الأصيل ظلّت رؤوس النسوة وآذانهن تتقلّب بين أصابع الماشطة وشفاهها الهامسة والكتكوت يتقلّب في الأطوار حتى أرخبيل هذا الأصيل الذي استصرخت فيه ميمونة زوجها أرباب وهبّا ، كلاهما ، لقبض الديك الذي برع في التقافز بين أسطح الرواكيب والقطاطي فكان ألفتُ ، بما أحدثه من ضجيج ، لنظر الجيران وأدعىَ لشهامتهم ومروءتهم فهبوا جميعاً للمساعدة في القبض عليه .
    بطحَ أرباب الديك علي الأرض مستقبلاً به القبلة ثم ثبّت جناحيه بقدمه اليسرى ومطّ عنقه الخالي من الريش باليد اليسرى ثم ّ شحذ سكّينته باليمنى وكبّر الله ثم أنزلها علي العنق الأجرد وهو يتمتم بما أملتُه عليه ميمونة وما تدرّب على قوله زماناً ، قطع الودج الأيمن بيدٍ مرتجفةٍ وجسدٍ خائر وقبل أن يمر بالسكين علي الودج الأيسر ، لمع ، فجأةً ، برقٌ خطف ضوءه كل الألباب ثم سُمع بعده كرُّ رعدٍ صاعق ٍ مُزلزل ، عندها أفلت أرباب الديك من يده وسقط علي ظهره . برهةً ، سُمع فيها صراخ ميمونة ثم عمّ سكونٌ عادت بعده الاشياء لطبيعتها فاستدرك أرباب وضعيته فطفق يصرخ في ميمونة : الديك وين ؟ الديك .. الديك وين ؟ . وميمونة تصرخ فيه : ألحق الديك .. سجمي ، الديك وين . ألحق الديك . كان الديك قد خرج، مترنِّحاً ، من تحت باب الحوش ودلف إلي الشارع يجري بساقيه الطويلتين وعنقه نصف المذبوح ودمه يهتِّف : تَف .تَف .تَف . سلك في البداية الزقاق الضيّق بين الحيشان التي يعتليها الليف واللبلاب والجُبّيْن حتى طلع إلي فضاءٍ ثم صعد طريق السوق ، وهو يجرُّ ساقيه الطويلتين جراً، ماراً بالطاحونة حيث يجلس لاعبو السيجة و صفرجت ، رأوه يمر من بينهم فألجمتهم الدّهشة حتى صاح أحدهم : أُمّك .. صفرَجت . بعد ذلك دلف الدّيك ، لا يلوي على شئ ، بين البيوت الواطية وهو يجر ساقيه جراً حتى وصل ساحة الدونكي بصهاريجه الجافة المشرئبة ، كظمّ ظمأهُ وعرّج ، بعد ذلك ، علي الدرب التحتاني الذي يقود للأنادي ، كان السكارى عند أول إنداية يتراهنون بالكرتلّة المضمونة ومبرشمة على دجاجةٍ بضّةٍ فرّوج ، توقّف الديكُ ونظر ، بكل أشواقه المسفوحة ،إلي الدجاجة ثمّ تأوَّه وما عتمَ أنْ لفّ يساراً ناحية السوق ثم مضى يخِبُّ ويشبّح بين ساقيه ودمه ما زال يهتِّف : تف تف تف . ربعَ بكل جسده ناحية الكنتين النّاصية وفيه جمعٌ من الناس حيارى ، تجاوزهم ، وبينما هو يمر أمامهم أدرك ببصيرة نافذةٍ أنّ موعد آذان المغرب قد أزف ، عاد ووقف هنيهةً أمام الجمع المشدوه ومدَّ عنقه نصف المذبوح ناحيتهم وصاح فيهم مذكراً بالصلاة ثمّ عاود ركضه بما تبقى له من دم حتى وصل بيت أمينة المشّاطة عند الطرف القصي من القرية وهناك ، وبينما هي ترفو ثوبها الخلِق علي ضوء فانوس الغروب الخانس ، نزف الديكُ الزّعوري آخر قطرة دم ٍ في جسده ثمّ ألقي حمل روحه ، دفعةً واحدةً، وسقط عند عتبة قطيّتها المتهالكة و استراح.
    خبطت أمينة المشِّاطة علي صدرها الأعجف ، حين رأت جثة الديك هامدةً ، وشهقت ثم صاحت : يا النبي نوح .. الطرفة البكـّاية دخلت ؟ ثمّ نهضتْ . لفّت ، على عجلٍ ، ثوبها المهرود حول جسدها النحيل وحملت الديك من ساقيه الطويلتين ثمّ خرجت ، علي ضوء المغيب ، تُتمتمُ بتعاويذ مبهمة ، مقتفيةً ذات الأثر ، سالكةً نفس الطريق التى عبرها الديك في رحلته الأخيرة فمرّت بالكنتين الناصية ،حيث الجمع المشدوه. والأنادي ،حيث السكارى ما زالوا في لُجاج الكرتلة، ثمّ الطاحونة ومرقت بين لاعبي السيجة و صفرجت ، وعرّجت ناحية السوق ثم انعطفت يميناً وانحشرت في الزقاق المعرّش بالليف واللبلاب حتى دخلت بيت ميمونة ، شبيهة الليمونة ، فوجدتها منهمكةً تسنّد زوجها الذي ضاع نصفه الأعلى بين أغصان النيمة المتشابكة مشتبكاً مع بخيت القرد وحليمة اللذيْن خطفا ، في فوضى هروب الديك، كُرات الدِّلكة المتماسكة وظلا ، كلما استفزهما أرباب ،يرمي بها أحدهما إلى الآخر وهكذا دواليك كأنهما حواةٌ في سيرك حتى دخلت أمينة المشَّاطة وبيدها الديك فصاحت حين رأت المشهد : سجمي .. الليلة يا كافي البلا وحايد المِحَن . فكان ذلك كفيلاً بوضع حدٍ لحرب الدِّلكة الخاسرة فنزل أرباب مهزوماً ولم يكد يطأ الأرض بقدميه حتى هبّت ريحٌ مشبّعة بالرذاذ أسقطت كُرات الدِّلكة علي رأسه كُرةً كُرة وأجفلتْ العنزة فمشى أرباب ، تضوع منه رائحة الدِّلكة ، متثاقلاً ناحية الأصوات التي كانت تناديه من جهة الباب : أرباب . أرباب . ها ناس . الديك حكايتو شنو ؟ إن شاء الله لقيتوه ؟
    وبينما كان أرباب منشغلاً باستقبال وفود المستفسرين الذين دخلوا مباشرة علي خلوة الضيوف ، كانت القرية تغرق في دخان الطلح المنبعثة روائحه من كل البيوت بينما أمينة المشاطة تنزع ريش الديك ريشةً ريشة بعد أن سلقته علي ماءٍ حامٍ . وحينما كانت حلّة الديك الزعوري تجقجق وتنضج علي نارٍ هادئة ، كانت ميمونة ، شبيهة الليمونة ، تتهيأ للجلوس علي حفرة الدخان وصوتُ أمينة المشاطة يلاحقها : ما في جنس إنسان في الدنيا دي يعرف . فهمتي مني ؟ الوركين والسّديفة لي راجلك . فهمتي مني ؟ ما في جنس مخلوق ياكل منها غير راجلك . فهمتي مني ؟ . في تلك الأثناء ورجال القرية المحشورون في خلوة الضيوف يقطعون لحظات الانتظار باللغط والهزار كانت سماءُ الطرفة تبكي بدمعٍ ساجمٍ مدرار والبروق تضرب : قبلي .. حبشي ، مربط عجيل وأضان حُمار.

    الحزن لايتخير الدمع ثياباً
    كي يسمى بالقواميس بكاءً
    هو شيئ يتعرى في فتات الروح
    يَعبُر من نوافير الدم الكبرى
    ويهرب من حدود المادة السوداء
    شيئ ليس يفنى في محيط اللون
    أو يبدو هلاماً في مساحات العدم
    الحزن فينا كائن يمشى على ساقين
    دائرة تطوف فى فراغ الكون
    تمحو من شعاع الصمت
    ذاكرة السكون المطمئنة

    للشاعر (الصادق الرضي)

  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية علي حاج علي
    تاريخ التسجيل
    28/04/2009
    المشاركات
    52
    معدل تقييم المستوى
    15

    افتراضي رد: وليمة الديك الزعوري ... نص ومحاولة لملء الفضاءات البيضاء!

    قراءات لـ نص (وليمة الديك الزعوري)
    بقلم : علي حاج علي
    مرحباً ...
    يرحب بك النص ، ويدعوك للجلوس مع الرجال في خلوة الضيوف ، عند أرباب الذي سينفرد بالسديفة والوركين في ذلك اليوم الذي كان ينتظره هو وزوجته ميمونة شبيهة الليمونة بفارق الصبر ، بعد أن حسبوا له العِيّن والشهور ، و لان أمينة المشاطة أخبرت نساء القرية بميقات الوليمة وبقصة الديك الزعوري .
    تفضل بالجلوس ، هامسا ، ومهزرا ، ومنتظرا ، مع الآخرين ، لان تلك السحابة قد شالت (بالحيل) !
    وأنت تقرا (وليمة الديك الزعوري) لا بد أن تستنشق رائحة الطين الذي يخرج من تلك الأرض التي تنتشر فيها الربعة والسعدة ، وتطير فيها ملكات الفساية ووصيفات الطهارة وعسس حمار إبليس ، رائحة الطين التي تنتشر في الأنحاء بعد أن يلامسها رذاذ تلك السحابة الشايلة (بالحيل) ، لان الطرفة البكاية قد جاء أوانها .
    ولا بد أن تمتع ناظريك بتلك المملكة الخاصة لميمونة شبيهة الليمونة ، لان الكاتب اختار الأسماء والمعاني والكلمات السهلة الممتنعة من وحي البيئة لمكان وزمان الحكاية ، فالمكان هو تلك القرية الهادئة ، ربما تكون هي هي ، بل هي بالتأكيد قرية الدريسة ، تلك القرية التي كان قمرها عندما يصير بدرا كاملا يتحدث عنه الناس بأنه (قمرا يتناكحن فيه الكلاب) ، تلك القرية التي فيها أشهر انداية على الإطلاق ، لملكتها ام كنيش العالمة بأصول وأعراق العالمين ..
    انظر :
    (( ... وعرّج ، بعد ذلك ، علي الدرب التحتاني الذي يقود للأنادي ، كان السكارى عند أول إنداية يتراهنون بالكرتلّة المضمونة ومبرشمة ... ))
    في أماكن متفرقة من النص يذكر لنا الكاتب الأسماء والمعاني والكلمات التالية :
    (( أحجار الرحى ، المحراكة ، الدجاجة أم كدر ، العنزة التاورية الكرتاء ، وحفرة أم بريمة الواسعة ، تفلية القمل ، خلوة الضيوف ، القنُّ ، التُكل ، اللدايات ، الطلح والشاف والكليت ، والنطع ، دخان العزباء ، والربعة والسعدة ، وملكات الفساية ووصيفات الطهارة وعسس حمار إبليس ، أرباب ، الطرفة البكاية ، كرات الدلكة ، المشاطة ، سايق الكرامات ، الفطر الثاني ، جداده فرتيت ...))
    من الصعوبة أن يجتمع كل هذا الحشد من الأسماء والمعاني والكلمات ، في عمل أو نص واحد ، إلا إذا كان كاتب النص له المقدرة الكاملة في أن يوظف كل اسم أو معنى أو كلمة ، في مكانه تماما ، من دون أن يؤثر ذلك على ساحة عرض النص الرئيس ، أو أن يؤثر على مكان وزمان النص ، بل يجعلك تنتقل بكل حواسك إلى مكان وزمان الحكاية . هذه التقنية السردية يتفرد بها كاتبنا دائما ، وهو يمتلك المقدرة على القوص عميقا داخل الفكرة ، ويدعمها بتلك الذاكرة الحديدية التي تحتفظ بإنسان ولغة وثقافة وأفكار وأشياء بيئيته وما جاورها .
    في ترجمة لـ أحمد بو حسن لمقال كتبه امبرطو ايكو بعنوان (القاري النموذجي) ، ونشر في كتاب طرائق تحليل السرد الادبي من منشورات اتحاد كتاب المغرب ، الطبعة الاولى ، الرباط 1992 ، في صفحة 158 : يقول :
    (( النص إذا نسيج من الفضاءات البيضاء ، والفجوات التي يجب ملؤها ، وان الذي (أرسله) كان ينتظر دائما بأنها ستملأ . وانه تركها لسببين : أولهما لان النص إوالية mecanisme بطيئة (أو اقتصادية) تعيش على فائض قيمة المعنى الذي يدخله فيه المتلقي ...))
    سأحاول أن أتسلل إلى مداخل هذا النص ، مستندا على الرؤية أعلاه ، باعتباري قارئا ومتلقي .
    تتحقق الوليمة بوجودهم الثلاثة معا ، ميمونة شبيهة الليمونة التي كان عندها ميقات وقرائن اليوم ، وزوجها أرباب صاحب السديفة و الوركين ، والديك الزعوري أساس الوليمة .
    الاستفادة من الوليمة لكل من ميمونة شبيهة الليمونة وزوجها أرباب ، تكاد تكون متساوية تماما ، وان اختلف الجهد المبذول من قبل الطرفين فيما قبل وبعد الوليمة . (محل ما يسري يمري) .
    أما الديك الزعوري فقد اخذ حقه مقدما ، لأنه حظي برعاية خاصة .
    انظر:
    (( .. حظي الديك الزعوري ، اثر ذلك ، بمعاملة كريمة لم يلقها بشر ..)) .
    المعالجة التي استخدمها الكاتب لاكتشاف لحظة الميقات للوليمة تمثلت لنا في عدة إشارات ، أكثرها إثارة تلك الشهقة التي لازمت ميمونة شبيهة الليمونة من أول البرق العبادي ، وحتى لحظة جلوسها على حفرة الدخان استعدادا لطقوس ما بعد الوليمة ، وشهقة أمينة المشاطة عندما مات الديك الزعوري عند بابها .
    انظر:
    (( ... خبطت ميمونة على صدرها ثم شهقت .... هيي سجمي ! ... الليلة ، يا ربي الطرفة البكّاية دخلت؟ ..))
    ثم نادت زوجها أرباب بصوت مرتجف ، لأول مرة :
    (( - أرباب . امرق السحابة دي شالت بالحيل .. ))
    تأكيدا لدخول الطرفة البكاية ، أخبرته بان السحابة شالت ، وكانت المفردة المتفردة (بالحيل) تأكيدا (لشيلان) السحابة و لدخول ميقات وليمة الديك الزعوري .
    ميقات الوليمة كان قد تحدد قبل ذلك بستة شهور وخمسة أيام وضهرية ، ومنذ ذلك الوقت كانت ميمونة شبيهة الليمونة تتخيل نفسها بأنها تحمل سرا خاصا بها ، واستطاع الكاتب أن يبرع في تشبيه ذلك بالحرب على جبهتين ، يا لها من مسكينة ميمونة شبيهة الليمونة .
    انظر :
    (( ... بعد التفقيس خاضت ميمونة حربا ضروسا على جبهتين : جبهة إجبار الدجاجة أم كُدر على تبني الكتكوت ممعوط الرقبة ثم جبهة السر العزيز الذي تحفظه ماشطةُ تتدلى بين يديها كل رؤوس نساء القرية ...))
    لان الجميع في القرية كان قد عرف ميقات وليمة الديك الزعوري ، لذلك اهتم كل سكان القرية في ذلك اليوم باستقبال الطرفة البكاية وتأكدوا من دخولها بتلك الحركة الغير مألوفة في بيت أرباب وميمونة شبيهة الليمونة ، وعندما هبوا جميعا للمساعدة في القبض على الديك الزعوري ، ومن ثم التلصص والنظر إلى حفرة الدخان وما حولها من نطع وكرات الدلكة ، والتأكد من حلول ميقات الوليمة ، حتى انتشرت العدوى في كل القرية ، لتعم عليهم بركات الديك الزعوري .
    انظر :
    ((... كانت القرية تغرق في دخان الطلح المنبعثة روائحه من كل البيوت ..))

    حتى بخيت وزوجته حليمة اكتشفا سر ذلك اليوم فقاموا ببمارسة ذلك الفعل الفاضح غير عابئين بدخول الطرفة البكاية أو بان السحابة شالت ، قاموا بذلك الفعل الفاضح ، ليغيظوا ميمونة شبيهة الليمونة وزوجها أرباب ، وليؤكدوا لهم بأنهم سبقوهم في الاستمتاع بضهرية ذلك اليوم و أرخبيل أصيله .
    التأكيد الأخير لدخول الطرفة البكاية ، هو ما جاء على لسان أمينة المشاطة عندما زرف الديك الزعوري اخر نقاط دمه أمام بابها وشهقت الشهقة الثانية التي كانت بمثابة الإعلان النهائي لدخول الطرفة البكاية ، و بداية وليمة الديك الزعوري .
    انظر :
    (( ..خبطت أمينة المشاطة على صدرها الأعجف ، حين رأت جثة الديك هامدة ، وشهقت ثم صاحت : يا النبي نوح .. الطرفة البكاية دخلت ؟ ثم نهضت ... )) .
    لقد عاشت ميمونة شبيهة الليمونة وزوجها أرباب ، وحيدين من دون أطفال ، ربما يعانون مشكلة في الإنجاب ، فهم حتى ألان لم يرزقوا بمولود بالرغم من تلك الفترة الطويلة التي قضوها معا سويا .
    انظر :
    (( ... ثم وضعت قربها كُرات الدلكة المتماسكة ذات الروائح المثيرة والمحفوظة في شنطة زواجها منذ سنينٍ ظلت خلالها ، ميمونة ، تترقب هذا اليوم ... ))
    إذن مضى على زواجها سنين ، حتى إنها اتخذت من القردين ، حليمة وبخيت أولادا لها هي وزوجها أرباب . فهما اللذان يملان عليهما البيت ، يلعبان معهما ، حيناً ، وحيناً أخر يغيظاهما بتلك الأفعال الفاضحة جهارا نهارا .
    في مجتمعاتنا نجد إن أسباب تأخير الخلفة والولادة كله يرمى على المرأة (الزوجة) ، لذلك هي التي تعيش وحدها مهمومة ومكدرة ، لأنها ، لا تسلم من السن الجيران والأهل واقرب الأقربين ، والقيل والقال ، تلك الألسن الحادة كما الموس ، التي تقوم بعملية التجريح المباشر وغير المباشر ، في كل كلماتها للزوجة التي يتأخر الإنجاب عندها . والزوج أيضا قد تصله بعض السهام ، لكنه في الجانب الأخر يجد من يقول له :
    ( عرس فوق المرأة العاقر دي ، عرس فوقها يمكن ربنا يرزقك ) .
    لهذا نجد إن ميمونة شبيهة الليمونة ، تضع كل آمالها في تلك الوليمة الزعورية ، وتجد فيها خلاصها من تلك الألسن الحادة ، الخادشة ، الجارحة ، و ألان قد أتي اليوم الموعود وبدأت الطقوس استعدادا لما بعد الوليمة .
    نعتقد بان هذا هو المحور الرئيس في وليمة الديك الزعوري ، حيث نجد إن الكاتب قد برع في جعله مخفيا ، بالرغم من أن الجميع داخل النص يعرفه وتحدث عنه أيضا ، كما إن الكاتب وجد نفسه في مواقع كثيرة من النص ، وجها لوجه مع تلك الفكرة . إلا انه تركها لنا لنقوم نحن بتخيلها (هي) وما بعدها من أحداث .
    ونقتبس هنا ما جاء في نص (تم تم على ضوء القمر )* للكاتب نفسه :
    (( ... والقمر في الدريسة يشيع في الطبيعة غريزة البقاء وبالحب والعطاء ويحيل إلى الفعل الأسمى كل زوجين من سلالة سفينة نوح ...)) .
    ..........................
    انها مجرد محاولات لملّ الفضاءات التي تركها الكاتب .....
    اتبرا – 02/12/2010

    الحزن لايتخير الدمع ثياباً
    كي يسمى بالقواميس بكاءً
    هو شيئ يتعرى في فتات الروح
    يَعبُر من نوافير الدم الكبرى
    ويهرب من حدود المادة السوداء
    شيئ ليس يفنى في محيط اللون
    أو يبدو هلاماً في مساحات العدم
    الحزن فينا كائن يمشى على ساقين
    دائرة تطوف فى فراغ الكون
    تمحو من شعاع الصمت
    ذاكرة السكون المطمئنة

    للشاعر (الصادق الرضي)

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •