جعفر بن أبي طالب.. الشهيد الذي يطير مع الملائكة
قُطعت يداه في الجهاد فعوضه الله بجناحين في الجنة

إعداد الدكتور أبو الفتوح صبري


جعفر بن أبي طالب من أوائل المسلمين وله مواقف شهيرة ومقامات حميدة وأجوبة سديدة وأحوال رشيدة، وقد قال جعفر للنجاشي: كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأتي الفواحش ونسيء الجوار فبعث رسول الله، فدعانا إلى الله، وأمرنا بالكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور.

وقال عنه ابن كثير: لما قتل جعفر وجدوا فيه بضعاً وتسعين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر.

ابن عم النبي (صلى الله عليه وسلم) وأخو علي، وأبو عبد الله جعفر بن أبي طالب..

أسلم جعفر (رضي الله عنه)، قبل أن يدخل الرسول (صلى الله عليه وسلم) دارَ الأرقم ويدعو فيها(الطبقات لابن سعد)، وكان (رضي الله عنه) من السابقين في الإسلام..
قال ابن إسحاق: أسلم جعفر بعد أحد وثلاثين نفسا..
وعن الحسن بن زيد، أن عليا أوّل ذَكَرٍ أسلم، ثم أسلم زيد، ثم جعفر. ورُوي أن أبا طالب رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) وعلياً (رضي الله عنه) يصليان، وعليٌّ عن يمينه، فقال لجعفر (رضي الله عنه): صِل جناح ابن عمك وصلِّ عن يساره(أسد الغابة).

هجرته إلى الحبشة

لما أسلم جعفر، أصابه ما أصاب المسلمين من أذى الكفار.. فلما أذن الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة، هاجر إليها جعفر وزوجته أسماء بنت عميس، وظلا بها حتى فتح خيبر.
كان جعفر أمير المؤمنين المهاجرين إلى الحبشة، فاستطاع أن يُقنع النجاشي بأن القرآن الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، والإنجيل الذي نزل على عيسى (عليه السلام) يخرجان من مشكاة واحدة.. ففسدت بذلك خطة قريش للوقيعة بينه وبين المهاجرين..

جعفر والنجاشي وجهاً لوجه

لما هاجر المسلمون إلى الحبشة، فرارا بدينهم من أذى قريش، بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد تطلب من النجاشي -ملك الحبشة العادل- تسليمهم..
فقال جعفر لإخوانه: أنا خطيبكم اليوم.. فكان نعم الخطيب، ونعم المدافع عن قضيته..

لما دخل جعفر على النجاشي سلّم ولم يسجد، معللا ذلك بقوله: - إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.. ثم زاد الأمر إيضاحا: إن الله بعث إلينا رسولا، ثم أمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
ثم قال جعفر للنجاشي: إنّك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي، فأمُرْ هذين الرجلين(أي: عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد) فليتكلم أحدهما، فتسمع محاورتنا..
فقال عمرو لجعفر: تكلّم..
فقال جعفر للنّجاشي: سله: أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا، فارددنا إليهم.
فقال عمرو: بل أحرار كرام.
فقال: هل أهرقنا دماً بغير حقٍ فيُقتص منا؟
قال عمرو: ولا قطرة.
فقال: هل أخذنا أموال الناس بغير حق، فعلينا قضاؤها؟
فقال عمرو: ولا قيراط(مختصر سيرة الرسول).

لقد استطاع جعفر أن يحصل من خصمه اللدود على اعتراف بأنهم –أي المسلمين- قوم شرفاء، أطهار، أحرار.. فلا مبرر إذاً لما تقوم به قريش من محاولة استعادتهم وتسليمهم..

وعندئذ، شعر جعفر بأنها اللحظة المناسبة لبيان حقيقة هذا الدين الجديد للنجاشي ومن معه.. فقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام... فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارِك، ورجونا أن لا نُظلَم عندك أيها الملك»( السيرة النبوية لابن هشام).
ثم أوضح له الفرق بين ما كانوا عليه قبل الإسلام، وكيف أصبحوا بعد أن شرّفهم الله بالإسلام: أمّا الذي كنا عليه فتركناه، فهو دين الشيطان. كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة. وأمّا الذي تحوّلنا إليه فهو دين الله الإسلام، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له(مختصر سيرة الرسول للشيخ محمد بن عبد الوهاب).
ثم قرأ جعفر على القوم سورتي العنكبوت والرّوم، ففاضت عينا النجاشي من الدمع،
فقال: زدنا من هذا الحديث الطيب،
فقرأ عليه سورة الكهف. ولعل أصعب اللحظات التي مرت على جعفر وأصحابه هي تلك التي سأله فيها النجاشي عن رأي الإسلام في عيسى ابن مريم وأمه.. ولم يجد جعفر حرجا في بيان ما يعتقده المسلمون في عيسى وأمه.. فالمقام ليس مقام مناورة ومجاملة، ولكنه مقام مكاشفة ومصارحة..
قال جعفر: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد(السيرة النبوية لابن كثير )،
وفي رواية النهاية لابن الأثير: ولم يفترضها ولد، أي: لم يؤثر فيها ولم يحزها –يعني قبل المسيح- وفي رواية ابن الجوزي: ولم يقرعها ذكر.. ثم قرأ عليه سورة مريم..
وحينئذ.. جمع النجاشي كل قسيس وراهب،
فقال لهم: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّاً؟
قالوا: اللهم نعم. قد بَشَّرَنَا به عيسى،
وقال: مَن آمن به فقد آمن بِي، ومَن كفر به فقد كفر بِي..
ثم رفع النجاشي بقَشَّةٍ من سواكه قدر ما يقذي العين،
فقال: واللهِ ما زاد المسيح على ما تقولون نقيراً..
ثم قال لجعفر وأصحابه: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده.. أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم.. انزلوا حيث شئتم، واللهِ لولا ما أنا فيه من المُلك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه.
ثم أقبل على جعفر،
ثم قال: اذهبوا فأنتم سُيوم (سيوم أي: آمنين) بأرضي، من سَبّكم غرم.

حب النبي له

لما هاجر جعفر (رضي الله عنه) إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية -ومعه امرأته أسماء بنت عميس- لم يزل بأرض الحبشة حتى هاجر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة، ثم ترك الحبشة مهاجرا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو بخيبر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
« لا أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما قدِم رسول الله من خيبر، قدِم جعفرُ (رضي الله تعالى عنه) من الحبشة، تلقاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقبَّل جبهته، ثم قال: « واللهِ ما أدري بأيهما أنا أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟».

وروى أبو داود في كتاب الأدب -باب في قُبلة ما بين العينين- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) تلقَّى جعفر بن أبي طالبٍ فالتزمه وقبَّل ما بين عينيه.

أبو المساكين

كان جعفر (رضي الله عنه) كريما جوادا، وكان لكرمه يقال له أبا المساكين؛ لإحسانه إليهم، ورفقه بهم.. روى ابن ماجه في كتاب الزهد -باب مجالسة الفقراء- عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال:
« كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكنيه أبا المساكين».
وروى البخاري في كتاب الأطعمة، عن أبي هريرة قال:
«.. وخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليُخرج إلينا العُكَّةَ(العُكَّةُ بالضم: آنية السمن، والجمع عُكك وعِكاك) ليس فيها شيء، فنشتقُّها فنلعق ما فيها.

أشبهت خَلْقي وخُلُقي

أخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لجعفر:
«.. أما أنت يا جعفر، فأشبهتَ خَلْقي وخُلُقي، وأنت من شجرتي التي أنا منها »،
قال: قد رضيتُ يا رسول الله بذلك..
فكان أبو هريرة يقول: ما أظلت الخضراء على وجهٍ أحب إلي بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من جعفر بن أبي طالب؛ لقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أشبهت خلقي وخلقي.

فضل جعفر:

قال أبو هريرة (رضي الله عنه) ما احتذى النعالَ ولا انتعل، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكور(الكورُ بالضم: الرَّحْلُ بأداته) بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أفضل من جعفر بن أبي طالب، (رضي الله عنه) ،
(قال ابن كثير في البداية والنهاية: وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه). أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري.

وعن ابن عباس (رضي الله عنهما)، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
رأيت كأني دخلت الجنة فرأيت لجعفر درجة فوق درجة زيد، فقلت: ما كنت أظن أن زيدا يدون أحدا، فقيل لي: يا محمد، تدري بما رفعت درجة جعفر؟ قال: قلت: لا، قيل: لقرابة ما بينك وبينه
(أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

وأخرج الحاكم أيضا، عن أنس بن مالك (رضي الله تعالى عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
« نحن بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وعلي وجعفر وحمزة والحسن والحسين والمهدي »
( أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه).

وعن أبي موسى (رضي الله عنه) قال:
لقي عمرُ أسماءَ بنتَ عميس فقال:
أنتم نِعْم القوم، لولا أنكم سُبقتم بالهجرة، فنحن أفضل منكم، كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يحمل راجلكم ويعلم جاهلكم، ففررنا بديننا.
فقالت: لستُ براجعة حتى أدخل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)،
فدخلتْ عليه فقالت: يا رسول الله، إني لقيت عمر فقال كذا وكذا، فقال:
« بلى، لكم هجرتان: هجرتكم إلى الحبشة، وهجرتكم إلى المدينة »
( أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه).

جعفر يطير في الجنة

أخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأن جعفر شهيد.. فهو ممن يُقطع له بالجنة..
ولما كانت يداه قد قطعتا وهو يدافع عن لواء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقد عوّضه الله عنهما بجناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.. ولذلك فهو الشهيد الطيار.

أخرج الحاكم عن ابن عباس (رضي الله تعالى عنهما)، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
« دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها، فإذا جعفر يطير مع الملائكة..».
وعن أبي هريرة (رضي الله تعالى عنه) قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
« مرَّ بي جعفرُ الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم، أبيض الفؤاد ».
أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

دعاء النبي لجعفر:

روى الحاكم في المستدرك أن عبد الله بن جعفر، قال: لو رأيتني وقثم وعبيد الله بن العباس نلعب إذ مر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على دابة فقال:
« احملوا هذا لي » فجعلني أمامه، ثم قال لقثم: « احملوا هذا لي »
فجعله وراءه ما استحيا من عمه العباس أن حمل قثم، وترك عبيد الله، ثم مسح برأسي ثلاثا، فلما مسح قال:
« اللهم اخلف جعفرا في ولده » .
قلت لعبد الله بن جعفر ما فعل قثم؟
قال: استشهد،
قلت لعبد الله: الله ورسوله كان أعلم بخبره
قال: أجل.

الدروس والعبر

1 ـ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب: فلم يكن جعفر (رضي الله عنه) أميرا على المهاجرين إلى الحبشة، ومتحدثا رسميا باسمهم، لصلة القرابة بينه وبين النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولكن لأنه كان جديرا بذلك، بدليل أنه استطاع أن يُفشل خطة قريش في استعادة المهاجرين، بل واستطاع –بفضل الله- أن يقنع النجاشي ومن معه بالإسلام، وأنه هو الدين الحق.

2 ـ المؤمن كيّس فطن: وكذلك كان جعفر (رضي الله عنه). فقد كان مطلوبا منه أن يوضح حقيقة موقفه ومن معه من المهاجرين، ولماذا تركوا وطنهم وهاجروا إلى بلد لم يعرفوه من قبل... ولم يكن ذلك بالأمر السهل، فبناءً على كلامه سيقرر النجاشي مصير هؤلاء.. إما بطردهم من أرضه وتسليمهم إلى قومهم، وإما بالسماح لهم بالبقاء، وإعطائهم «حق اللجوء السياسي».. فماذا فعل جعفر؟

أولاً:
قام بانتزاع شهادة عزيزة من خصمه، بأنه ومن معه ليسوا عبيدا آبقين يجب إعادتهم إلى أسيادهم، بل هم أحرار كرام، وبالتالي، فهم أحرار في تصرفاتهم، وأنهم ليسوا قتلة مجرمين يستحقون القصاص، ثم إنهم ليسوا سارقين أخذوا أموال الناس بغير حق.

ثانيا:
قام ببيان حقيقة الدين الجديد، موضحا الفرق بينه وبين ما كانوا عليه من جهالة وضلال وعبادة لما لا يضر ولا ينفع، ليخرج بنتيجة مفادها أن الإسلام هو دين الفطرة، وأنه الأحق بالاتباع.

ثالثا:
كان صريحا وواضحا في بيان حقيقة المسيح وأمه (عليهما السلام)، وأنهما ليسا إلهين، بل هما من البشر، فالمسيح نبي مثل محمد، وأمه صدِّيقة، وأن ما جاء به محمد (صلى الله عليه وسلم) وعيسى (عليه السلام) يخرجان من مشكاة واحدة.. ومنبع واحد..
وبسبب قوة حجة جعفر، اقتنع النجاشي بعدالة قضيته، فأنصفه ومن معه: (انزلوا حيث شئتم)، (اذهبوا فأنتم سُيوم بأرضي) وأعلن إسلامه لله رب العالمين.

عن صحيفة العرب القطرية