ليس أضرّ على إنسانية الإنسان من القول ليس في الإمكان أبدع مما كان. أما فِرجيل فلم يُخْرِسهُ شِعرُ هوميروس، ولا أعيَت شيشرونَ خطابةُ ديموسثنيس. ورُبّ خطيبٍ جَزْلِ الرأي رَدِف ابنَ ساعِدة خطيب العرب، وكم شاعرٍ مُفلقٍ تَلا ذا القروح. وكثيرٌ أولئك الذين كتبوا بعد عبد الحميد وابن المقفع. وموكبُ الفلاسفة ينأى عن الحصر، ومسيرة الحكماء ماضية.
ومَن ذا الذي لا يَذكر ذلك البولاندي الذي لم يُمْتِعه كونُ بطليموس، فاختار أن يمتطي ظهر أرضٍ تدور علَّ الرحلة تكون أمتع! ومَن ينسى ذلكم الفارسَ الذي لم تَروِ غُلّتَه نظرية الحنين فهبّ يخاطب أرسطو قائلا: إليك عني وشيؤك الساقط حنينا إلى موضعه! ثم مضى يجذب الأجرام بعضها إلى بعض برباط أوثق، شاكراً العمالقة. أيْ نعم، شكراً لكَ كِبْلر، عرفانا وتقديرا من نيوتن الفارس. ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا الفضلاء. طرح كِبلر دائرةَ أفلاطون واستودعَ كوكبَه سَفراً إهْليلَجيّا فأصابَ الكوكبَ دُوارُ فَلكٍ جديد! وداعا أيتها الدائرة، سيَذكركِ العالَم ما لاح كوكبٌ في السماء. ثم مضى العالِم الألمعيّ مُفيدا مما رصد ذلك الذي مات عن كنزٍ يجهله.
ما أسعدَك يا بْراهي! حين شعَّ نجمُك الجديدُ مُعلنا أن في السماء كونا وفسادا توارى أرسطو خجلا. قد علِم الآن أنها أضغاث أحلام. أما دُوق توسكانيا فقد أحسن حين قصدَ غاليلي، وهل يُقصَد الجُهّال؟ ولأنّ العِلم رحِمٌ بين أهله رأيتَ القدَرَ يجمعُ أهلَه. فكأنما تواعدَ غاليلي وتوريشيلي وباسكال، أيّ الثلاثة يحوز قصبَ السّبق؟ الجبلَ الجبلَ يا باسكال وفي يدِكَ زئبق! أما أنت أرسطو فما أتعسَك! ما عادت الطبيعة تخشى الفراغ.
جاء جيمس وات على أثَر مَن سبقه متفائلا، ولولا رجال وأعمال ما رأى محرّكُه النور. فتحيّة لمن جعلوا طريق البُخار سالكة!
وذاتَ صفاءِ روح وانقداحِ شرارةِ عقل، عنَّ لابن فرناس أن يطير. طار حكيمُ الأندلس وطارت شهرته حين عانق هواءَ الرّصافة. وكانت طائرة رايْت أحكمَ وأقوى. والفضل لمن يجرؤ بلا سابقة. أما من وطئ الحَزْن والسّهل، وركب البرّ والبحر، وخبَر اليسير والوَعر، فلا يُرضيه الموضعُ الذي خالَهُ مَن سبق نهايةَ الأرب. ذلك دأْبُ كلّ رَحّالة. وها هو ابن بطوطة يسعى، يجوب الآفاق ويطوي الأرض طيّا.
العلماء يستدرك بعضهم على بعض، ويردّ بعضهم قولَ بعض، وفوق كل ذي علم عليم. لكن جَهيزةَ التي قطعت قولَ كلّ خطيب يسوؤها الإبداع. ثم جاء بعدها من يرى أن السّلف ما تركوا للخلَف فسحة اجتهاد. ثم ما لبث أن انبرى من يَعجب من الرأي المَعيب. فكان أهل النظر طرائق قددا. مكث بعضُهم طويلا أمام الباب المسدود دون حَراك. وبعض آخر أعياه الطرْق فولّى مُدبرا. وآخرون نادَوا لعلّ الباب يُفتح، وما علموا أن من أغلق الباب كسر المفتاح وبقيَ حبيس الدار، فلا هو قادر على الخروج، ولا هو يستطيع فتح الباب لمن يُنجده. وقليل من أدرك أن للدار أبوابا غير الباب الذي أُغلق، فطفقوا يدخلون من أبواب متفرقة.
ذلكم هو شأن المبدعين، أدركوا أنه ما كان للحياة أن تسكن في كونٍ كلُّ مَن فيه سابحٌ في فَلكٍ معلوم.