الاحداث الجانحون ( )
طفل يرتكب جريمة، قد يبدو هذا مجرد قول أو خبر نادر الوقوع ولكن رجال القانون ورجال الطب ورجال التربية يدركون عمق هذه الجملة وخطورتها .. تعال معي نستعرض سجلات الشرطة عندنا لنعرف نسبة تقريبية لجرائم الاحداث وكثرتها وتعال معي الى المدرسة الاصلاحية في بغداد والى السجون والى دار الشفاء لنرى صوراً متعددة ودرجات متفاوتة لهؤلاء الجانحين فمنهم من يبدو طفلاً عادياً لم يرتكب مخالفة سوى بضع مرات ومنهم من يبدو عليه أثر اضطراب عصبي أو نفسي ومنهم من هو المجنون .. ولكن ماذا نقصد بالحدث الجانح؟ وما نوع جريمته؟ الحدث الجانح هو كل من ارتكب عملاً مخالفاً للقانون وهو لم يبلغ سن الرشد بعد. أما جرائم الأحداث فهي غالباً ما تتكون من السرقة النشل والاعمال المخالفة للآداب والجرائم الجنسية واحيانا القتل.
واكثر ما ترتكب جرائم الاحداث في اعمار تقترب من السابعة عشر او قبلها ببضع سنين ونسبتها في الذكور أكثر من الإناث بكثير وهذا مالم يوجد له تفسير معقول حتى الآن. إذاً ما الذي يدعو الطفل الى مخالفة القانون؟ وما الدوافع الحقيقية التي تكمن وراء مخالفته؟. إن من الطبيعي وجود أسباب متعددة وليس هنالك من سبب واحد تعزى اليه الجريمة ... على أنه يجب أن نتذكر دائماً أن العامل الوراثي قد فقد أهميته الآن ولم يعد سبباً أساسياً كما كان في عهد سابق ثم أن تصرف الإنسان على العموم هو مزيج من تركيبه الذاتي ومحيطه ولا يمكن أن نفصل بينهما. وقد يكون عند الانسان استعداد فطري الى الجريمة ولكن هذا الاستعداد قد يبقى كامناً مستوراً مالم يظهر في بيئة عامل يحرك هذه الصفة ويدفعها الى الظهور. والفعل الخاطئ عند الطفل هو نتيجة لسلسلة طويلة من التصرفات المتتابعة المربوطة ببعضها وقد يبدأ عند الطفل بسرقة والديه أ زملائه أو بفترات من التصرف المشين في المدرسة او بنوبات من العدوان وتحطيم الاشياء القريبة، إذاً ما هذه العوامل التي تثير في الحدث النزوع الى الجريمة؟.
1- البيت:- لقد دلت الاحصاءات في انكلتراأن نسبة الاحداث المجرمين تكثر ببع العوال مما يؤيد ادعاء البعض بأن الجريمة مصدرها العائلة. والبيت المحطم هو التربة الخصبة للجريمة والطفل – أي طفل – يحتاج الى غذاء نفسي من أبويه يشعرف بالأمن والحنان واللذة، والطفل الذي ينشأ في بيت يخلو من حنان الأبوين وعطفهم وفي بيت تكثر فيه المنازعات والعلاقات السيئة بين الوالدين تؤدي بالطفل ان يشعر بالقلق وأن يفقد الراحة النفسية واللذة وهذا القلق يهدد حياته الآمنة ويولد عنده سلوكاً مريضاً ومن هذا السلوك ما يعد مخالفة للقانون. الطفل الآمن بين احضان ابويه يسير على نهج والده وحبه لوالديه واعجابه بهما يدفعه الى السلوك الطيب، والطاعة الناشئة عن احترام لا عن خوف هي دليل الاستقرار العاطفي كما أن انعدام الخلق والمبدأ دليل العلاقة السيئة مع الوالدين، فالعائلة الممزقة والأب القاسي والأم الفظة يحرمون الطفل من البدأ والسلوك الطيب فهو يفتقد شيئاً في داخله ويريد حلاً لمشكلته وقد يكون هذا الحل – حسب ظنه هو – هو المخالفة والأنانية وسوء التصرف. وهو حل غير منطقي طبعاً ولكنه منطق الطفل.
2- الافلام السينمائية والروايات المرعبة الخرافية والبوليسية من العوامل الأخرى التي قد تثير دوافع الاجرام عند الأحداث، وانه لمنظر مؤسف ذلك الذي نراه يتكرر في دور السينما عندنا حيث يستصحب بعض الآباء اطفالهم الى افلام مثيرة كأفلام رعاة البقر الامريكية او افلام القصص الخرافية التي تثير اعصاب البالغ والكهل فكيف بالطفل الصغير ذا الخيال الواسع ؟.
3- انخفاض المستوى الخلفي في المجتمع يفسح المجال لارتكاب المخالفات ... ولقد كانت الفقرتان اللتان تلتا الحربين العالميتين الاولى والثانية خير دليل على ذلك. ففي أيام الشدة والحرمان تكثر مخالفة القانون.
4- والحروب نفسها تخلق ظروفاً شاذة تدفع بالحدث الى الجريمة فهذا الذي تركه والده وذهب الى ساحة القتال ... وذاك الذي فقد امه في احدى الغارات الجوية ... وآخر فقد عائلته من كثرة الهجرة والتنقل من مكان لآخر ... وهذا كله يذكرنا بأهمية العائلة والحنان للطفل الناشئ.
5- وهناك اسباب جسمية اخرى كإصابة الطفل مرض طويل مزمن أبعده عن عائلته فترة طويلة أو بعض من امراض التهاب السحايا والدماغ أو يكون غبياً منذ ولادته – أي ناقص التكوين الدماغي- كل هذه اسباب عضوية تأتي بالدرجة الأخيرة من حيث الأهمية. والآن نميز عند الحدث استعداده الى الجنح؟ إن اكثر ما يلاحظ عند الحدث الجانح هو عدم الاستقرار فهو في حركة دائبة ينشد اللهو والنسيان ولا يستقر في بيت او مدرسة وهو يحاول أن يملأ كل لحظة من حياته بعمل ما يلهيه عن صراعه النفسي واضطرابه العاطفي وهو لا يقرأ الا النوع المثير من القصص ولا يميل الى الدروس التي تحتاج الى اصغاء مستمر وتركيز وانتباه وهو يهرب من كل مكان هادئ ساكن الى حيث الأماكن الصاخبة المثيرة كساحات الألعاب ودور السينما .. كأنه يريد ان يكون في نهج على الدوام. وقد نتسائل اذا كان سلوك الحدث هو نتيجة صراع نفسي فهل نحاسبه على جرمه؟ والكلمة هنا لرجال القانون ... ورجال القانون يقولون أن الحدث مسؤول عن عمله وهو يدرك ما يفعله ويدرك أن ما يفعله مخالف للقانون. وفي انكلترا يعتبر الجانح مسؤولاً قطعياً او مجنوناً. وليس هنالك حل وسط بين الأثنين أما في اسكتلندا فهنالك مسؤولية نسبية وفي جميع الأحوال لا يمكننا اعتبار الطفل الجانح الذي لم يتجاوز الثامنة مسؤولاً عن فعلته وكون جريمة الطفل نتيجة لتوتر عاطفي لا تعني ان نتساهل معه ....
والعلاج كما هو بديهي يتكون من عنصرين: وقاية وعلاج. اما علاج الحدث الذي ارتكب الجنح فهو يتوقف على نوع جريمته وأغلب الجرائم في ادائها بسيطة فبعد مثوله امام المحكمة يعود الى بيته وعائلته حيث يبدأ العلاج الفعلي .. ولكن يبقى في نفس الوقت ضمن المراقبة، وفي البيت يجب أن يحاول الأبوان تجنب العراك وسوء التفاهم على مرأى من الطفل ومسمع والعلاقة الطيبة بين الوالدين والطفل والحنان هي الدواء الشافي على أنه لا يجب أن ينتهي الحنان الى الاهمال والتساهل في الزجر والتربية الحازمة كما انه يجب أن نتذكر دائما بأن اكثر من 70% من الذين يرتكبون جنحاً لا يعودون الى ارتكابها بعد ذلك مطلقاً فعلينا ان لا نفقد الأمل في اصلاح هؤلاء الجانحين وأن وقعوا في ايدي رجال القانون. اما فكرة كون الاجرام مطبوع بدم الطفل فهي فكرة خاطئة ويجب ان نمحيها من افكارنا دائماً ثم حذار من ان نهدد الطفل بأننا سنتركه ونهجره اذا عاد الى ارتكاب جريمته لأن هذا التهديد يؤدي الى نائج سيئة بل قد يدفعه فعلاً الى تكرار جريمته وقد ترتئي المحكمة ان ترسل الحدث الى مدرسة اصلاحية وفي المدرسة الاصلاحية يتعهده مربون واساتذة متخصصون في هذا الموضوع. وفي المدرسة تعود نفسية الطفل الى حالتها الصحيحة في أغلب الاحيان. ويجب أن لا ينقطع الوالدان عن زيارته وتشجيعه أو على الأقل مراسلته حتى لا يشعر بأنه محروم الاهل والوالدين. أما الوقاية – في بلادنا- فهي أصعب من العلاج بكثير، إذ هي ليست كالوقاية من الملاريا او التيفوئيد او البلهارزيا بل انها تحتاج الى عمل إجتماعي ... إلى وقاية اجتماعية شاملة وهذه الوقاية ترتكز على دعامين نفتقر اليهما، هما الثقافة والمؤسسات والجمعيات الإجتماعية. ولنستعرض وسائل الوقاية في انكلترا – بصورة مختصرة- لنرى مبلغ الجهد الذي يبذل في هذا المضمار، ففي انكلترا توجد نواد خاصة للأطفال يشرف عليها مربون اجتماعيون يعتمد على اخلاقهم وعلمهم وقد أثبتت هذه النوادي صلاحيتها وفائدتها ولكنها قليلة العدد. وفي انكلترا يؤشر على كل فلم سينما يعرض في دور السينما بحروف مثل (A, x) وكل حرف يدل على نوع المتفرجين المسموح لهم بالدخول، فهناك افلام خاصة للبالغين من النساء والرجال وهناك افلام يسمح للأطفال بمشاهدتها وهكذا وهذا عمل يستدعي تشكيل لجنة خاصة في وزارة الشؤون الاجتماعية ومع ذلك فإن بعض الافلام يجب ان تمنع بالرغم من ان منع الافلام لا يعتبر عملاً ديمقراطياً لأنها افلام معدية وخطرة على الجيل الجديد. وهناك جمعيات خاصة لمساعدة العوائل المتأخرة اجتماعياً ووظيفتها أن تكشف عن العوائل المتأخرة المنحلة وتقدم لها الوسائل لأجل رفع مستواها الصحي والثقافي والاجتماعي فمثلاً ترشد الأم الى المستوصف الفلاني والى الجمعية الفلانية والى المكتب الفلاني حيث تجد فيها بغيتها من وسائل الارشاد والمعونة على أن اصعب الوقايات هو كيف نبني عائلة متينة قائمة على المحبة والتفاهم لا على المصلحة المادية وعدم التكافؤ في العمر أو الثقافة. ولقد تبين من دراسة 2400 جانح في السجون في انكلترا بأن اكثرهم قد ترعرع في بيت مفكك الروابط ناقص التربية كما أن 20% من هؤلاء الزيجات انتهت بالطلاق او الافتراق فإذا استطعنا أن نكون عائلة صحيحة تمكنا أن نستأصل أو أن نسيطر على جرائم الاطفال ومآسيها والطفل الذي ينشأ في عائلة شقية يكون بدوره عائلة شقية أخرى .....