قصة قصيرة
الشيخ والمريض
حسن البقالي


حين فاه الشيخ بجملته غير المتوقعة إطلاقا, خيل إلى المريد أنه لم يسمع جيدا, فتلعثمت ساقاه تحت الجسد ولم يقوَ على الحراك.
كانت هناك مسافة..
هي المسافة الضرورية التي كانت وسوف تكون دوما بين الآمر والصادع بالأمر..
وبدا المكان رطبا..
وبين مجمرة من نحاس مهيأة لزغردة عود القماري, وبضع مخطوطات معتقة, جلس الشيخ وضاءا ناضحا بالمهابة ..
كان قد اصطفاه من بين المريدين, وأومأ إليه أن إئتني طوعا..فأتى يسابق خواطره..
بقلب واجف وخطى مرتبكة, دخل الى مخدع الأسرار حيث يلوذ الشيخ بجمرة المعاني..
في جلسته التي تستمطر الأحوال , لا هو باليقظ ولا المبحر في السبات..جفناه يرفان بتلك الحركات السريعة الفاضحة لأطوار شريط حلمي يمر خلف واجهة الجسد, بينما الكف تغازل حبات في حجم عقلة الأصبع لمسبحة أربعينية من خشب العرعر..
- رأيت أني أعودك, فكن مريضي.
فهل سمع المريد, لكن ذهنه لم يستوعب شراهة اللغة الداعية الى السقم؟
كان يعرف أنه مقبل على أمر جلل, كما يعرف أن الرؤيا زفرة من طاقة الغيب يمن بها الله واسع القدرة على من يصطفي من عباده..
رد بشكل لا يقبل أي التباس:
- شرف لي أن أكون مريضك, شيخي الجليل.
أنارت وجه الشيخ بسمة رضية..
وتقلصت المسافة الى الحدود الدنيا..
وفي الحال..
أحس المريد بمغص شديد يلوي أمعاءه, ورغبة في الهرولة باتجاه المرحاض, حيث يدفعه إسهال ماحق إلى إفراغ ماء الداخل..
ومن خلل امتقاعه, ألقى بنظرة مستفسرة إلى الشيخ, الذي لوّح بيده وقال:
- ليس بعد.
داهمته الحمى ..وهزت جسده رعشات متتالية..وفيما كانت حبات المسبحة تتأوه خشوعا تحت لمسات أصابع الشيخ البيضاء, بدت له خلال لحظة مقتطعة من زمن الحرائق, محض حلمات واعدة بنهود لن تلبث أن تبزغ في المجال وتشبع الهواء بمستقطر شهوة دفينة..
دفع بالخاطر الآثم إلى القعر , وأثقل جفنيه السؤال:
- هل رضيت يا شيخنا؟
- ليس بعد..ليس بعد..
رأى الجراثيم تداهمه من كل صوب , وطفحت خلاياه بأعراض أمراض فتاكة..
صار سمكة في بحر الألم.
أخذه الشيخ الى منزله ..دثروه بأغطية لم تمنع عنه استفحال المرض..حتى إذا استشعر دنو أجله, رفع عينين بيضاوين إلى الشيخ وغمغم في وهن:
- هل أنت راض الآن؟
أجاب:
- ظللت لسنوات مديدة مريدي الأثير, و...
لكنه أسلم الروح قبل سماع البقية..
سجّاه.
واخترق بنظراته الأشياء وهو يقول:
- رأيت أيضا أني.. أدفنك .
وانسل بين خيوط العتمة ونشيج أهل الدار.