بات المشهد التشكيلي العربي المعاصر رازحا تحت نير عدد من المؤثرات و الظواهر التي مارست فعلها على كافة المستويات لتنتج بالنهاية إطارا ضاغطا على عموم الفعل التشكيلي العربي، فاصلا إياه عن السياق العالمي و دامغا إياه بعدد من السمات التي تكاد تجعل منه حالة قائمة بذاتها و مغايرة عما عداها من أنماط المشاهد التشكيلية لدى أي من الثقافات و المجتمعات المثيلة المعاصرة.
و لست هنا بصدد الغوص عميقا ابتغاء بسط و تحليل العوامل المتحكمة في تكوين و نمو تلك المؤثرات و الظواهر سالفة الذكر – فهذا من شأنه أن يستدعي دراسات مفصلة و مطولة ليس مجالها موضوعنا الراهن – و إنما ارتأيت أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى تلك الظواهر و المؤثرات من منطلق تأثيرها على المسار الحياتي و الفني لشريحة الفنانين الذين ينتمي إليهم فناننا المتناولة أعماله هنا، و في هذه العجالة تكفي الإشارة إلى أهم هذه العوامل و المؤثرات على النحو التالي:
أولا: القطيعة المجتمعية: هناك شبه إجماع بين عموم المثقفين – فضلا عن المتخصصين من المشتغلين بتنظير الفن و نقده – أن ثمة قطيعة مجتمعية مزاولة من قبل الكتلة العظمى من أبناء الرقعة العربية تجاه نتاجات الإبداع التشكيلي على اختلاف صورها، و أن هذه القطيعة تزداد حدة و عمقا بالمقارنة بينها و بين الاحتفاء الذي يمارس بالمقابل على النتاجات الإبداعية المنتمية لحقول الأدب و فنون القول و الكتابة. و قد تراوحت هذه القطيعة بين الحياد المشوب بالتشكك في أهمية الفن التشكيلي و جدارته بالوجود من الأساس، مرورا بالتهكم المتسم بالنبرة المغالية و الكاريكاتيرية (و هو ما يفصح عن نفسه من خلال التنميط Stereotyping الواضح في الأفلام السينمائية و الأعمال الدرامية التي تجسد الفنان التشكيلي على صورة البوهيمي عدو النظافة أو بوصفه ذلك الملحد معاقر الخمر وزير النساء، و في كل الأحوال كأفاق مدعي ينزع نحو إنتاج القبائح و العبثيات الشكلية معاملا المتلقي بصلف و جلافة و متهما إياه بعدم الفهم) و وصولا إلى إشكالية التحريم التي تلج أحيانا إلى فضاء التكفير و الاتهام بالزندقة.
و قد أسفرت القطيعة سالفة الذكر عن عدد من الظواهر الفرعية على مستوى العروض و الفعاليات التشكيلية؛ يأتي على رأسها ظاهرة عزوف المتلقين عن ارتياد المعارض و المناسبات التشكيلية، و التي يكفي لتبيان عمقها عقد المقارنة بين كثافة الحضور في أحد مهرجانات السينما أو المسرح و مثيلتها – كثافة الحضور – في أي من عروض أو مهرجانات الفن التشكيلي مهما عظمت قيمتها، الأمر الذي بات مؤرقا للمعنيين بالحركة التشكيلية إلى حد تخصيص "بينالي الإسكندرية لدول حوض البحر الأبيض المتوسط" لحلقة بحثية كاملة لبحث أسباب و تداعيات هذه الظاهرة ضمن الندوة الدولية المنعقدة بالتوازي مع دورته السابقة؛ حيث شرف كاتب هذه السطور بعرض ورقة بحثية ضمن هذه الندوة لبحث الظاهرة المشار إليها. و لم يكن تخصيص البينالي لهذه الحلقة من باب الرصد العام لظاهرة وقتية؛ إنما تكمن خطورة المسألة في معاناة هذا الحدث الثقافي الهام – "بينالي الإسكندرية الدولي" – نفسه من تداعيات الظاهرة المبحوثة على الرغم من كونه ثاني أقدم بينالي دولي متخصص في الفنون التشكيلية على المستوى العالمي، تاليا في ذلك لبينالي فينيسيا الشهير!!!!
ثانيا: تغريب الخطاب البصري: الظاهرة الثانية و التي باتت متفشية في صميم الطرح التشكيلي العربي تتجسد في النزوع نحو التغريب و الارتماء في أحضان الخطابات البصرية ذات المنشأ الغربي، و تتبع الوافد و المستحدث من المذاهب و التقنيات التي تلفظها محترفات الغرب على اعتبار أنها (أحدث خطوط الموضة العالمية)؛ و كأن الأمر هنا يجري على شاكلة الهوس العربي الاعتيادي بمستحدثات التقنية الغربية ذات الطابع الكمالي و التي تعتبر أجهزة الهواتف النقالة أبرز مثال لها. بل إن الأمر قد تعدى هذا الجانب المظهري إلى مستو أكثر خطورة؛ و ذلك حين عمد عدد كبير من ذوي التأثير من نقاد الفن التشكيلي و المهيمنين على صنع القرار الفني في أرجاء الوطن العربي بتشجيع شباب الفنانين على نحو سافر على تبني الوسائط و المذاهب الموغلة في الغرابة و العبثية مع اعتماد الموضوعات و القضايا ذات الطابع الغربي (النسوية، الشذوذ، السوداوية، الانسحاق...الخ) كقضايا في نتاجاتهم البصرية في مقابل التشجيع على هجر الوسائط و المذاهب ذات الطابع الشرقي أو التي تمت بجذور إلى صميم الثقافة العربي (الخط العربي كأوضح مثال) بزعم أنها قد أضحت (فنونا تقليدية...تراثية... نمطية) إلى آخر قائمة الاستعلاء اللفظي على فنون تم تهميشها و قمع فنانيها لأسباب شتى، و هنا تكمن ضراوة الضربة القاضية التي وجهت إلى دعاة هذه النعرة التغريبية، و ممن؟ من صميم الآلة الإعلامية و التجارية المهيمنة على مسار الفن الغربي نفسه؛ و ذلك حين أسفر المزاد الأخير لفرع قاعة "كريستي" بأحد دول الخليج العربي عن إقفال أعلى سعر للوحة فنية على مستوى الوطن العربي للفنان المصري المقيم بإنجلترا الدكتور "أحمد مصطفى" (450000 دولار) و تكمن الغرابة هنا في أن أعمال الفنان هي من تنويعات الخط العربي!!! في حين لم تتجاوز لوحات غيره من (المستغربين) سقف 15000 دولار، أي بما يساوي فارق الثلاثين ضعفا لصالح (فنون التراث النمطية) التي يزدريها صناع الخطاب التغريبي!!!
ثالثا: الهيمنة المؤسساتية: و تأتي ثالثة الظواهر المتحكمة في مسار المشهد التشكيلي المعاصر متمثلة في الهيمنة المطلقة لمديري و رؤساء المؤسسات الرسمية على مجموع الفعاليات المسيرة و الميسرة لحركة الفن التشكيلي في الواقع العربي؛ تلك الهيمنة التي يتم بمقتضاها تطويع قوائم العروض الموسمية و التأثير على نتائج لجان التحكيم فيما يخص منح الجوائز و إتاحة فرص السفر و الاحتكاك بالعروض الدولية و ليس ختاما بقوائم الاقتناء التي يتم بموجبها تحديد ذوي الحظوة من الفنانين، و هو ما يجري وفقا لطبيعة علاقة هؤلاء الإداريين بالفنانين سواء كانت علاقة (ودية) قوامها التزلف و النفاق و تبادل المصلحة بين الفنان و الإداري، أو علاقة (جفاء) قائمة على الحياد و محاولة الفنان الاحتفاظ بكرامته.
و قد أسفرت الظواهر و العوامل سالفة الذكر عن عدد من ردود الأفعال المتباينة التي تصدر دوما عن شريحة الفنانين الذين لا يجيدون – أو يربأون بأنفسهم عن ذلك – التزلف المقيت و الاستجداء الفاضح الذي يمارس من قبل آخرين على أعتاب الإداريين، و الذين غالبا ما يكونون من غير القابلين للتطويع بغرض تبني خطابات بصرية غربية مفارقة لما يؤمنون به من طرح بصري متجذر في ثقافتهم العربية، مما يسفر عن تبنيهم لعدد من التكتيكات السلوكية و الحياتية التي تعمل على تشكيل المسارين الفني و المعيشي الخاص بهم؛ فمن الزهد المطلق و الانزواء و مقاطعة الحركة بأسرها، إلى تبني خطاب الهجوم الصارخ و مناوأة الجاري على الساحة علنا و دائما، إلى تطويع المسار الحياتي للموائمة بين مقتضيات العيش الكريم و المتطلبات الملحة لمواهبهم و فنهم الأثير.
و إلى الفئة الأخيرة ينتمي فناننا "طلعت عبد العزيز"، ذلك الفنان المصري الصعيدي الذي تفتح وعيه المبكر على الإنجازات البصرية التي شادتها عبقريات جذوره الفرعونية منذ عصور فجر الضمير ماثلة في آيات فنية موشومة على جسد الصخر بطول الوادي الخصيب.
آثر "طلعت" أن ينضم – مخلصا في ذلك لفطرته الشرقية الصعيدية المتأبية على النفاق الرخيص – إلى زمرة الهاجرين لسياق التهافت هجرا جميلا، مطوعا مساره العملي ليوائم متطلبات فنه؛ حيث اتخذ من هذا الفن بعينه تكئة لكسب لقمة العيش، فاختار أن يتخصص كمصمم جرافيكي يتخذ من أدوات الرقمنة وسيطا يصوغ به متطلبات أعماله الموظفة تجاريا، ليخلو ليلا إلى وسائطه اليدوية الأثيرة في سويعات مسروقة من رحم الغربة – حيث يعمل بإحدى الدول الشقيقة – ملتمسا عزائه في أعماله التي ينتجها لوجه فنه الخالص.
و تأتي أولى الملحوظات فيما يخص أعمال "طلعت" في كونها لا تندرج تحت تصنيف ثابت يمكن أن يدرجها ضمن مذهب بعينه أو أسلوب واحد من أساليب المدارس الفنية المتباينة؛ و هي سمة عامة مشتركة بين فئة الفنانين غير المتفرغين التي ينتمي إليها فناننا، فهم لا يتحيزون لمذهب بعينه بسبب تفرق أوقات الإبداع – و هو ما يتعارض مع العكوف على استبطان مذهب بعينه – من جهة و من جهة أخرى بسبب حنينهم الجارف و نهمهم إلى الارتماء في أحضان الفن بدافع المتعة الشخصية و التماس العزاء لا بدافع الظهور في الحركة – التي أعطوا ظهورهم لها أصلا – كرواد مدرسة بعينها.
و تتضح الملحوظة السابقة من خلال استعراض بعض أعمال الفنان "طلعت" و التي أراها قادرة دون غيرها على الإفصاح عن مكنونات تفرده الصياغي و تبيان عالمه البصري؛ حيث تأتي لوحته التي يعبر فيها عن انفعاله بشخصية فنان الكاريكاتير العراقي "حيدر الياسري" لتكشف بجلاء عن قدراته الكامنة في مجال الرسوم الفكاهية التي نراه قد ارتقى بها إلى آفاق أبعد من مجرد الكاريكاتير الاعتيادي؛ و ذلك حين حاول ابتكار نسق جديد من أنساق اللوحة الكاريكاتيرية ملتفتا إلى المزاوجة بين بناء الكتلة في شخصية "الياسري" و توزيع المساحات في الخلفية بأسلوب طازج اعتمد فيه على إدراج مصفوفة من الوجوه المنتمية لشخصيات عربية معروفة في نسق لوني متناغم (شكل رقم 1).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
شكل رقم 1

و يطل الجانب الإنساني الكامن في نفسية الفنان حين نتأمل إحدى لوحاته التي أبدى من خلالها انشغالا مهموما بقضايا إخواننا من ذوي الاحتياجات الخاصة، متحيزا في ذلك إلى فئتهم و منافحا عن حقهم في الوجود من خلال تكوين يعتمد على الليونة العصية على الانكسار للخط المنحني، عاكسا من خلالها عناد الأرواح التي و إن كانت قد استكنت في أجساد برحت بها العاهات إلا أنها تتأبى على وقائعها المهيضة، غير متناس أن يوازن في تكوينه التجريدي ذي الصبغة التعبيرية بين مقتضيات المجموعات اللونية الباردة و نظيرتها الدافئة (شكل رقم 2).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
شكل رقم 2

و تفصح قدرات "طلعت" كملون محترف عن نفسها من خلال أحد أعماله التي نفذها تحت تأثير انفعاله الديني بمقدم شهر الصيام؛ حيث استغل الحياد التام للون الأسود في إبراز البهرج المتألق للمجموعة اللونية الصادحة في أعلى يمين العمل، و التي تتوزع مساحة اللوحة بينها و نظيرتها السوداء الكامدة، و كأنه يدعونا إلى استبطان الحالة الأرضية السوداوية التي تسبق حلول شهر الصيام في مقابل الحالة الروحانية الشفيفة التي تفيض خلالها نفحات السماء ألقا لونيا نورانيا بمقدم الشهر المبارك (شكل رقم 3).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
شكل رقم 3

و يستدعي "طلعت" كنوزه التراثية حين ينبري لمعالجة أحد جوانب فنوننا الأثيرة ممثلة في الخط العربي، متكئا في ذلك على فيوضات الآية الكريمة التي تفتتح سورة "القلم"، مستدعيا التأثير النفسي الروحاني الخصيب لدرجات اللون الأخضر بوقعها الفردوسي الواعد، و محملا إياها على بنيان متين من خلال تكوين صلب متماسك لمفرداته الخطية مظهرا إحاطة و فهما بتنويعات الخط العربي و قدرة على التصرف ضمن حدود قواعده الجمالية (شكل رقم 4).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
شكل رقم 4

ثم يفاجئنا بجانب من جوانب تمكنه من أدواته الفنية؛ و ذلك حين يطالعنا من خلال أحد أعماله التي تنتمي لفن الصورة الوجهية Portrait ، ذلك المجال الذي يتطلب إلماما واسعا بقواعد التشريح بغرض ضبط نسب الملامح، فضلا عن مقدرة الإنجاز السريع التي تقتضيها ظروف جلوس الموديل إلى الفنان؛ حيث يأتي عمله الذي يسجل من خلاله ملامح الفنان السعودي الراحل "طلال المداح" – و هو واحد من سلسلة من الأعمال التي ينشرها تباعا في مجلة الإعلام و الاتصال – ليفصح من خلاله عن قدرة عن اقتناص الملامح النفسية للمطرب الراحل، و مقدرة جديرة بالإشادة على تسجيل الملامح المعروفة للفنان السعودي بدقة و قوة (شكل رقم 5).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

شكل رقم 5

تلك كانت خواطري حول أعمال الفنان المصري "طلعت عبد العزيز" ذلك الفنان المصري الأصيل الذي أبت طبيعته الشرقية أن ينحني أمام تكتيكات المشهد التشكيلي الراهن، فآثر أن يبتدع تكتيكاته الخاصة معلنا من خلالها انحيازا مطلقا للفن الخالص من هوى المنفعة.