"أشواك" سيد قطب! ويا لها من أشواك!
خواطر بلا ضابط ولا رابط )1- 2(
د. إبراهيم عوض
Ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://ibrahimawad.com/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

بالمصادفة وقعت منذ يومين، وأنا أبحث فى المشباك عن شىء من الدراسات النقدية يتعلق برواية "أشواك" لسيد قطب، على كلمة كتبها صعلوك من صعاليك المشباك الذين يتكاثرون كالديدان والصراصير يتهم فيها سيد قطب بأنه زعيم الإرهابيين الذى لم يستطع أن يجد لنفسه موطئ قدم فى دنيا الأدب والنقد فتحول إلى الكتابة فى الدين ليضمن لنفسه ولمؤلفاته الرواج. طبعا، والدليل على صحة ما يَصِرّ به هذا الصُّرْصُور أن سيد قطب كان رجلا، نعم رجلا بكل معانى الكلمة، فى مواجهة ما رآه طغيانا واستبدادا، ولم يَلِنْ ولم يتزلف أو يتراجع عن آرائه أو مواقفه، وآثر أن يجود بروحه فوق أعواد المشانق على أن ينال العفو والسماح من يد من كان يؤمن أنهم سبب ما البلاد فيه من فساد واتجاه إلى الانهيار. والجود بالروح أقصى غاية الجود كما يعرف ذلك كل قاص ودان، اللهم إلا الديدان والصراصير.
طبعا، والدليل على صدق ما تقايأته هذه الدُّودة أن سيد قطب قبل هجره ميدان الأدب والنقد كان هو بوابة السعد التى يمر منها المحظوظون من الأدباء والكتاب ممن لم يكن المجتمع الأدبى قد اعترف بهم بعد، فإذا كتب هو، رحمه الله، عن أحد منهم وأشاد به كانت كتابته عنه هى خاتم النسر، أو قل: خاتم سليمان، الذى تنفتح له بوساطته كل أبواب السعد والشهرة. ولا أدل على ذلك من نجيب محفوظ، الذى تحول من حال إلى حال بعدما كتب عنه سيد قطب مقالين يجدهما القارئ فى كتابه المسمَّى: "كتب وشخصيات" أثنى فيهما عليه وعلى فنه القصصى خير ثناء، فـ"انتشله بذلك من طيات الظلام" (elevating Egyptian novelist Naguib Mahfouz from obscurity) بتعبير كاتب مادة "سيد قطب" فى النسخة الإنجليزية من الموسوعة المشباكية الحرة (The Free Encyclopedia) المسماة بــ"الويكيبيديا: Wikipedia". وكانت تلك هى البداية لنجيب محفوظ، الذى تكرر حديثه عنها فى بعض حواراته، وإن كان قد استدار من ناحية أخرى فقدم سيد قطب، مع شديد الأسى والأسف، فى كتابه: "المرايا" باسم "عبد الوهاب إسماعيل"، فى صورة المتعصب المنفر الشكل والسمت. وهى لفتة من محفوظ تكشف عن أشياء فى الأعماق. طبعا، والدليل على استقامة الحكم الذى أصدره هذا الفَدْم البليد الذى يتهم سيد قطب، رحمة الله عليه، بأنه زعيم الإرهابيين وأنه ترك الأدب والنقد إلى الكتابات الإسلامية كى يشتهر، أن ما كتبه سيد قطب من أدب ونقد قبل أن ينتقل إلى التأليف الإسلامى هو من أقوى وأصفى وأعمق وأدق ما كُتِب فى هذا الميدان: شعرا كان أو قصصا أو نقدا أدبيا. فأما فى الرواية فيكفيه "أشواك" وحدها على ما سوف أوضح فى هذه الكلمة التى بين يدى القارئ، ودعونا من روايته الأخرى: "المدينة المسحورة". وأما شعره فها هو ذا ديوانه تحت بصر القراء، يستطيعون أن يرجعوا إليه ليرَوْا بأم أعينهم مدى رقىّ ذلك الشعر، وبخاصة إذا وضعوا إزاءه هذه الهلوسات والتشنجات الحاليّة المنتشرة كالجرب والتى يسميها بعض المهاويس من أحلاس النقد والواغلين فيه على غير استعداد ولا موهبة ولا ثقافة: "شعرا"، وما هى من الشعر فى قُلٍّ أو كُثْرٍ.
وكيف يُتَّهَم سيد قطب بالإرهاب، وهو الذى يقول: "من الصعب عليَّ أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيلة خسيسة؟ إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل، فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيلة خسيسة؟ بل كيف نهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل؟ لابد أن نصل إلى شط الملوثين. إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى مواضع هذه الأقدام. وكذلك الحال حين نستخدم وسيلة خسيسة. إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغاية التي وصلنا إليها! إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية، ففي عالم الروح لا توجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الإنساني وحده إذا أحس غاية نبيلة فلن يطيق استخدام وسيلة خسيسة، بل لن يهتدي إلى استخدامها بطبيعته! "الغاية تبرر الوسيلة": تلك هي حكمة الغرب الكبرى لأن الغرب يحيا بذهنه. وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات والفوارق بين الوسائل والغايات"، "ما يخدع الطغاة شيء كما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها، وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا، وإنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب، وتمد له أعناقها فيَجُرّ، وتحني لها رؤوسها فيستعلي، وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم، فالطاغية، وهو فرد، لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها"، "إن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودًا طويلةً في التربية والإعداد، وإنها لا تجئ عن طريق إحداث انقلاب"؟ وهذه النقول مأخوذة من مادة "سيد قطب" فى النسخة العربية من "الويكبيديا: Wikipedia".
وأحب أن أقول إننى منذ فترة طويلة أركز فى نقدى الاجتماعى والسياسى على الشعوب العربية والإسلامية، مع علمى أن حكومات العرب والمسلمين هى أسوأ وأتفه حكومات الأرض جميعا، إلا أننى أدرك جيدا أنه لولا صمت الشعوب وجبنها وفزعها من خيالها وتبلدها وخور عزيمتها وكراهيتها لبذل أى مجهود يستعيد لها كرامتها وحقها فى الحياة والعزة ما جرؤ أى جاهلٍ فَدْمٍ حقيرٍ على أن يصنع بها ما يصنع فتزداد له تأليها وانكبابا على حذائه تلحسه وتملّس عليه بخدودها التماسا للبركة. كما أن حكام العرب والمسلمين إنما يعكسون فى عيوبهم عيوب شعوبهم، ففى كل شخص من تلك الشعوب فى الغالب مشروعُ حاكمٍ تافهٍ مستبدّ. ولا يغرنكم، أيها المصلحون، ما تسمعونه من شعارات وهتافات وانتقادات للأوضاع الفاسدة، فالعبرة بالمواقف لا بالكلام، وإلا فكلنا يحسن الكلام الكبير المنمق، إلا أننا عند الجِدّ سرعان ما نلحسه دون أدنى شعور بالخجل، وكأن شيئا لم يكن. ثم تَعَاَلْوا نجب على هذا السؤال: من يا ترى يساعد أولئك الحكام على فسادهم واستبدادهم وانحرافهم وتنفيذ سياستهم المنحازة فى كثير من جوانبها إلى أعداء الأمة؟ أليسوا هم أفراد تلك الشعوب؟ أم هم كائنات أتت من الفضاء الخارجى؟ نعم من أين يأتى القضاة والوزراء والصحفيون والمديرون وسائر الموظفين ومن يسمَّوْن بــ"نواب الشعب" الذين ينفذون سياسة الحكومات؟ أليسوا من بين صفوفنا؟ ولماذا نذهب بعيدا، وها هو ذا مقياس دقيق فى أيدينا يمكننا استخدامه للحكم على شخصيات تلك الشعوب، ألا وهو مقياس السلوك اليومى المعتاد؟ ترى بالله عليك، أيها القارئ، ما نسبة الأشخاص الذين يُطْمَأَنّ إلى سلوكهم ووعودهم إلى جموع الشعب التى لا ترعى واجبا ولا تفى بوعد ولا تَصْدُق فى كلمة ولا تريد أن تعمل أو تتعلم ولا تحب نظافة ولا نظاما ولا تبالى بعزة أو كرامة ولا يُعْتَمَد عليها فى إنجاز شىء؟ وهذا هو سيد قطب قد سبقَنا جميعا إلى هذا المعنى. ولقد فكرت مرارا أن أكتب مقالا صارخا أهيب فيه بالمصلحين أن يفضّوها سيرة ويتركوا الشعوب لمصيرها الأسود ما دامت تستعذب هذا الهوان، ولْينصرفوا إلى مصالحهم وراحة بالهم بدلا من التعرض للضرب والتعرية "بلابيص" فى الصحراء والمرض ومصادرة المال والسجن والقتل فى غير طائل. فما رأيكم يا أيها المصلحون من مفكرين وأدباء وصحفيين وخطباء ودعاة؟ حرام ما تفعلونه بأنفسكم دون جدوى! ألا تَرَوْن أن هذه دعوة حكيمة ينبغى على الأقل أن تفكروا فيها، إن لم تتبنَّوْها قلبا وقالبا فتريحوا وتستريحوا؟ إن هذه شعوب تعيش خارج التاريخ بعد أن انتهت فترة صلاحيتها الحضارية، وتنتظر الآن كلمة القضاء والقدر فيها بزلزال شامل يجتثها من جذورها ويخلص الدنيا من عارها وقبحها وتبلدها وخنوعها. أما أنتم يا حكامنا فهنيئا لكم تلك الشعوب التى لا يوجد لها مثيل فى الرضا بالقهر والإذلال والهوان والاستزادة منه والهتاف باسم أصحابه. ولا تصدقوا كلام المصلحين عن احتقان الناس وقرب انفجارهم، فهذا كلام فارغ، وإلا فها أنتم أولاء تنكِّلون برعاياكم منذ عقود وعقود وعقود، وتصنعون بهم كل ما يخطر وما لا يخطر على البال من عسف وترويع وسرقة وقتل ونهب، فهل رأيتم أو سمعتم أحدا منهم قد تحرك؟ أما أنتِ أيتها الشعوب الجبانة فمِنْك لله! لقد خذلتِ نفسك فى كل الفرص التى أتاحها القدر لك، فخذلكِ الله!
هذا عن الرواية عند سيد قطب، وأما بالنسبة للنقد فلنكتف فقط بكتابيه المشهورين: "النقد الأدبى- أصوله ومناهجه" و"كتب وشخصيات"، ولا أظن أنه كان فى دنيا النقد فى تلك الأيام ما يزيد على هذين الكتابين فى شىء، سواء من ناحية الأسلوب أو السلاسة أو التحليل أو الإحاطة أو الفهم والتذوق. بل قلما نجد حتى الآن كتبا تضارعهما. ولأكن صريحا فأقول إنه لو وُضِع ما كتبه أىٌّ ممن اشتهروا بكتابة النقد القصصى فى العصر الحديث لقاء ما كتبه سيد قطب لرجحت كفة قطب بكل يقين واقتدار لما تتسم به كتاباته من شدة أسر فى الأسلوب ودفء فى التعبير ووضوح شفاف فى الفكرة واستقلال فى الشخصية وقوة ثقة بالنفس وعدم فناء فى المصطلحات والمفاهيم الأجنبية، إلا أن قطب لم يجد من يتحدث عنه ناقدا كما وجد هؤلاء، وبخاصة أنه انصرف إلى الكتابات الإسلامية بكل كيانه رغم أنها، كما سوف نرى، ليست بعيدة عن الأدب والنقد كما يتوهم الكثيرون، وكان يستطيع أن يجمع بينها وبين المقالات والدراسات التى يتناول فيها أعمال الأدباء والنقاد، لكنْ كان للأقدار كلمتها المختلفة.
ولو قارنّا مثلا بينه وبين د. محمد مندور، الذى يسميه اليساريون: "شيخ النقاد"، ولا أدرى على أى أساس شَيَّخوه، فهو يعتمد فيما يكتب على التلخيص لما يقرؤه دون الإشارة إلى المصدر الذى اعتمد عليه، بل مع الدعوى العريضة بأنه إنما استلهمه من وحى عبقريته استلهاما، وأحيانا على السطو على ما قرأه هنا وهناك كما صنع مع جان كالفيه ونعمات فؤاد، لرجحت كِفّة قطب رجحانا وشالت كِفّة مندور. وقد اخترت مندور لأنه اشتبك مع سيد قطب فى الأربعينات من القرن البائد فى معركة نقدية تشامخ فيها "شيخ النقاد" الذى لم يكن قد شاخ بعد، وظن أنه قادر على أن يهزم قطب بالتحدث من طرف أنفه، متناسيا أنه كان حديث عهد بالعودة فاشلا من فرنسا دون أن يحصل على درجة الدكتورية التى ابتُعِث من أجل الحصول عليها رغم قضائه تسع سنوات كاملات فى فرنسا، ومتناسيا أيضا أنه إلى وقت قريب كان يبدى الكثير من ضروب الخضوع والتزلف للدكتور طه حسين فى خطاباته التى كان يرسلها إليه من بلاد الفرنسيس كلما أخفق فى أمر من أموره هناك، وما أكثر ما كان يخفق، أو احتاج إلى تدخل منه لتسهيل هذا الموضوع أو ذاك أو لإعفائه من هذه العقوبة أو تلك، وما أكثر ما كان يحتاج إلى مثل تلك التدخلات، وهذه الخطابات متاحة لمن يريد الاطلاع عليها لمعرفة هذا الجانب الخفى من حياة مندور وشخصيته فى كتاب نبيل فرج الذى أصدرته دار الهلال فى تسعينات القرن المنصرم، فلم يكن هناك إذن أى مسوغ لهذا التشامخ المتصنَّع بأى حال، ومتناسيا كذلك أنه، فى كتاب له يعتز به هو ومشايعوه أيما اعتزاز، وهو كتاب "نماذج بشرية"، قد سطا على الفصول التى وضعها الكاتب الفرنسى جان كالفيه عن النماذج البشرية فى الأدب الفرنسى واستطعت أنا أن أثبت بالصوت والصورة فى كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة" أنه قد سطا فعلا وحقا على سبعة نماذج على الأقل من نماذج كالفيه، ولو قُدِّر لى أن أضع يدى أيضا على كتاب كالفيه فى النماذج البشرية فى الآداب الأوربية فأغلب الظن أننى سأجده قد سطا على فصول أخرى مما خلفه الكاتب الفرنسى، فكان ينبغى إذن أن يشعر بفظاعة ما اجترمت يداه من سرقة ويتصاغر وهو يكلم ناقدا كبيرا ملء هدومه كسيد قطب، ومتناسيا فوق هذا وذاك أن ما كان يدعو إليه من "أدب مهموس" ظن أنه قد فتح به عكا ليس شيئا آخر سوى ما يقول فيه الفرنسيون: "à (de)mi-voix" (كما فى هذين العنوانين مثلا: "La foi à mi-voix" و"Contes à mi-voix")، ومن ثم ليس له فضل فيه، وهو ما كان ينبغى أن يضعه فى اعتباره حين أخذ يطنطن بأنه ابن بجدتها وأن ما يطلق عليه: "الأدب المهموس" إنما هو من بُيَنّات أفكاره، وبخاصة أن هذا اللون من التعبير الأدبى لا يصلح فى كل المواقف والمناسبات: فشعر الفخر والحماسة مثلا لا يصلح له الهمس والنجوى (كما فى معلقة عمرو بن كلثوم، وبائية أبى تمام فى فتح عمورية، ونشيد "دع سمائى فسمائى محرقة")، كما أن الشاعر الذى غدرت به حبيبته مثلا وطعنته فى قلبه طعنة نجلاء لا يمكنه الهمس والنجوى، بل لا بد له من التألم والصراخ أو التنفيس عن نفسه بتوعدها بالانتقام وتجريعها من نفس الكأس حتى لو لم ينتقم أو يضع وعيده موضع التنفيذ (كما فى بعض أشعار كُثَيِّر عَزّة، ونونية ابن زيدون، و"لستَ قلبى" لكامل الشناوى)، وأن سخرية قطب منه لهذا السبب هى سخرية فى موضعها بالتمام والكمال رغم ما سببته لمندور من وخز مؤلم يستحقه بكل تأكيد، فضلا عن أن أسلوب قطب أحلى وأكثر إحكاما من أسلوبه رغم ما يتمتع به أسلوب مندور بوجه عام من بساطة ودفء، إلا أنه يفتقر إلى ما تتصف به لغة قطب من شدة أسر وبعد تام عن التهافت والركاكة اللذين يقابلاننا فى كتاباته هو هنا وهناك.
ولا ننس أيضا ما يتصف به مندور فى غير قليل من الأحيان من الميل إلى خطف المعلومات خطفا وعدم التأنى للتثبت مما ينقل أو يكتب، وهو ما كشفتُه فى كتابى السالف الذكر وكذلك فى الفصل الأول من كتابى: "مناهج النقد العربى الحديث" حيث تبين لى بكل يقين أنه لم يكن لديه الصبر على البحث والتنقيب، ولهذا كان يسارع إلى إطلاق الأحكام الفاسدة المتهافتة، وعلى نفس دَيْدَنه فى اصطناع أستاذية لا تليق بهذا الكسل والتسرع. وعلاوة على هذا فسيد قطب كان شاعرا وقصاصا، ثم أضاف إلى ذلك الكتابة الإسلامية، وهو كله مما ينقص مندور. أما الكتابة السياسية فيشترك الاثنان فيها، وإن كانت كتابات مندور قد انتهى تأثيرها لأنها كتابة وقتية تتصل بظروف معينة لا تستطيع تجاوزها والحياة بعيدا عنها، فيما تظل كتابات قطب تنتشر وتستولى على العقول والقلوب بعد موته ميتة الشهداء لأنها ذات طبيعة حية باقية ما بقى الإسلام والمسلمون وقضاياهم. نعم تنتشر كتاباته وتستولى على العقول والقلوب لا فى مصر وحدها كما هو الحال بالنسبة لمندور فى كتاباته السياسية أيام أن كان يكتب فى تلك الموضوعات، بل فى العالم العربى والإسلامى جميعا، مع الفرق الهائل بين الأثرين، لصالح سيد قطب بكل تأكيد. ثم هناك فرق آخر شديد الأهمية، وهو أن مندور إنما كان يردد كلام اليسار الوارد من الخارج، أما قطب فهو مغموس فى أرض الإسلام لا يستورد شيئا من خارج الديار ولا يتحذلق بالتبعية للفكر الإغريقى والأوربى على طريقة القرعاء التى تتباهى بشعر بنت جارتهم، ولذلك كانت الضريبة التى دفعها، رحمه الله، رهيبة!
وثمة كتابه البديع: "فى ظلال القرآن"، وهو عمل فكرى وأدبى لو كُتِب لمندور أن يعيش أضعاف عمره ويُوهَب أضعاف ما وُهِب من قوة فكرية وذوقية فلن يمكنه إنجاز معشاره. أقول هذا رغم أننى لست ممن يوافقون سيد قطب على طول الخط، فقد كتبت بالتفصيل عن هذا التفسير الفريد فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه"، ووافقته فى بعض الأشياء، وخالفته فى بعض الأشياء، ولكن يبقى الكتاب بعد هذا كله قمة لا يطولها أمثال مندور، وهذا إن فكر مندور أصلا أن ينطلق من منطلق الإسلام! وعجيب أن يتجاهل الدكتور مندور المرحوم سيد قطب فى كتابه عن "الشعر المصرى بعد شوقى" فلم يعرض له فى قليل ولا كثير رغم أنه يتفوق بدون أدنى جدال على شعراء كالهمشرى وإبراهيم نجا وحسن كامل الصيرفى مثلا، وإن لم يكن فى الأمر أدنى عجب عند التأمل، فمندور وقطب، بعيدا عن المعركة النقدية التى نشبت بينهما قبل ذلك، يمثلان فكرين متنافرين: الفكر اليسارى المستورَد لدى مندور، والفكر الإسلامى الأصيل لدن سيد قطب.
كما أن الإعلام الرسمى، ومن ورائه الأدباء والنقاد، والشيوعيون منهم بالذات لتنافر طباعهم وطبع سيد قطب الرجولى المحب لأمته ودينه لا البائع نفسه بيع البخس والوكس والنحس لأعداء أمته ودينه والسائر فى خطا الصهاينة الأرجاس الذين عملوا بكل قواهم على زرع خلايا الشيوعية فى بلادنا حتى تكون تلك الشيوعية فى خدمة الصهيونية ضد العروبة والإسلام والمسلمين وحتى يرقص الشيوعيون على أنغامها ويتقافزوا كما يفعل "القرد أبو صديرى"، فالمهم عند أولئك المناكيد ألا تكون هناك قيود على ذممهم الخربة وأجسادهم النجسة وشهواتهم المنتنة، فلا عراقيل أمام الخمر والزنا واللواط والدياثة والقوادة والعمالة، هذا الإعلام قد تجاهل تماما إبداعات سيد قطب فى الأدب والنقد وغير الأدب والنقد. ولقد ظهر أيام انهيار غير المأسوف على شبابه: الاتحاد السوفييتى وثائق تدين عددا من كبار الشيوعيين فى بلادنا غير المحروسة وتذكر المبالغ التى كانوا يتقاضَوْنها لقاء عمالتهم لهذه الدولة التى كانت كبرى إلى وقت قريب. وما زال هؤلاء الكبار (الصغار فى الحقيقة) يمرحون فى الأرض ويتفيهقون ويعلموننا دروس الوطنية والكفاح والشرف الذى على أصوله على نحو سمج مقيت يبعث على الغثيان. ذلك أن أولئك البعداء، جراء ما مرودوا على الخيانة والعمالة، لم يعودوا يشعرون بشىء اسمه الحياء والخجل.
والآن إلى بعض التفاصيل: فواحد من هؤلاء الشيوعيين الشرفاء (!) كانت زوجته الأمية التى التقطها من شوارع إحدى المناطق الشعبية بجوار "الست الطاهرة" حيث كانت تعيش فى كنف أب سكير، وحيث كانت تذهب إليه فى شقته القريبة التى كان يعيش فيها وحده بعيدا عن أهله الريفيين، كانت هذه الزوجة التى تعلمت، فيما بعد، القراءة والكتابة وأضحت تقدمية على سنة الشيوعيين الصائعين تعاشر عشاقها فى حضور ذلك "الجردل" بالشقة المشتركة التى ظلا يسكنانها بعد الانفصال. ولا يملك الجردل إلا أن يشكو لطوب الأرض دون جدوى: فلا هى تكف عن ممارسة الخنا أثناء وجوده فى الشقة، وعلى فراش الزوجية ذاته، ولا هو يكف عن الشكوى الذليلة المهينة! وسلم لى على الشيوعية والشيوعيين الشرفاء. وأحسن من شرف الشيوعيين "ما فيش"! وكان ينبغى أن يعرف أنه لا معنى للشكوى مما تصنعه هذه الصائعة، فهى من غرس يده وتعليمه، ومن ثم فمن المستحيل أن تطهر حتى لو اغتسلت بماء "النهر" كله من القاهرة إلى أسوان! وهذا أمر يعرفه الجميع، لكن العجيب أنك تقرأ ما كتبه كلاهما عن علاقتهما فلا تجد إلا كلاما عن الإخلاص والكفاح المشترك! ولقد شاهدتُ تلك الحيزبون أكثر من مرة فى الفضائيات وهى تنعى على الرجال أنهم لا يهتمون من المرأة إلا بالنصف الأسفل! تقول هذا وهى تشير بإصبعها إلى نصفها التحتانى على مشهد ومسمع من الدنيا كلها دون حياء! صحيح: تربية حوارى!
وهناك الشيوعى الحقير الآخر صاحب دبلوم التمريض ومؤجّر أَسِرّة المستشفى الذى كان يعمل فيه للداعرين والداعرات من رفاق الخلايا الشيوعية المنتنة يقضون فوقها حاجاتهم الحيوانية الوسخة مثلهم ومثل هذا القواد النجس. وتنظر فتجد هذا القواد يكتب فى كل الصحف العربية بأمر من الدوائر التى تحتضنه هو وأمثاله وتسهل لهم سبل العيش الدنس، وكأن المحروسة قد خلت من الأقلام المثقفة الطاهرة العاقلة الراقية، ولم يبق إلا هذا الوسخ وأشباهه، وما أكثرهم هذه الأيام!
وفى أوائل السبعينات ترددت عدة مرات على مقهى "ريش" بشارع سليمان بالقاهرة مع معيد زميل لى تربطه علاقة ببعض اليساريين. وفى إحدى هذه المرات، وكنت قد صليت المغرب قبلها بقليل فى أحد الأركان فى الممر الضيق هناك، مال علىّ زميلى قائلا وهو ينظر ناحية شارع سليمان: هل أنت جوعان؟ فقلت له: كلا، ولكن لم هذا السؤال؟ قال وهو يشير إلى شاب يشبه البُرْص مار بالشارع: هذا هو فلان الفلانى (ولم أكن سمعت به، ثم عرفت منه أنه يكتب القصة)، وأنا متأكد أنه جوعان لم يأكل منذ أمس. ولسوف أطلب بعض السميذ والبيض والجبن الرومى من بائع السميذ هذا، وأتظاهر أنى جائع حتى أعطيه الفرصة كى يأكل دون حرج. وقد كان، إذ نادى الشاب الذى يشبه البرص، وطلب بعض الطعام من بائع السميذ، وترك لصاحبنا الطعام كله يزدرده، وهو يتصايح بشعارات الكفاح اليسارى الحنجورى بعد أن أخبرنا أنه كان نائما منذ البارحة لم يستيقظ إلا الآن، وأنه لا يزال يشعر بألم خمار الشراب الذى كان يعب منه مع رفاقه عبًّا أثناء السهرة، وهو ما بعثنى إلى التهكم على ذلك اللون الرخيص التافه من التشدق بالنضال الطبقى، على حين لا يفكر رفيقنا الهمام الذى ليس عنده بعض شىء من الدم فى أن يجد لنفسه عملا يكفل له لقمة العيش على الأقل، فاغتاظ من ملاحظتى وتوتَّر وركبه عفريت. ولأول مرة أرى بُرْصًا يغتاظ ويتوتر ويركبه عفريت، فكانت تجربة مدهشة لى.
وفى أثناء ذلك كله كان الشاب الذى يشبه البرص يلتفت ناحية مجموعة يسارية جالسة على مقربة منا مكونة من بعض الشبان وإحدى الصائعات الشيوعيات، وكانوا جميعا يشربون شيئا من نقيع البراطيش الذى لا ترتاح معداتهم المنتنة لشىء سواه، وهو لا يكف عن قذف البنت الصائعة الضائعة التى تجلس مع الثلة إياها بألفاظ السباب المنتقاة التى يتقنها هو وأضرابه من لمامة الشوارع مثل: "القحبة بنت القحبة"، وهذا أخفّ ما قال، مع حرصه فى ذات الوقت على المخافتة من صوته جبنا منه وهلعا كيلا يقوم أحد من الجماعة الأخرى بضربه وإلزامه السكوت. والسبب؟ السبب هو أنه كان يخاللها على سُنّة الشيوعيين الأنجاس، لكنها تركته إلى شيوعى حقير آخر.
ولم يعمَّر ذلك البُرْص طويلا، بل سرعان ما مات وذهب فى ألف داهية جراء الإسراف فى الخمر والزنا، مع الجوع والتشرد اللذين بلا بهما معه ابنته الصغرى دون أى ذنب جنته تلك الصغيرة البريئة التى كان يجوب بها الشوارع وهو يحملها على كتفه بعد أن هجرته زوجته أخت الشيوعى الآخر السكير الهلفوت، لعنهما الله. ولقد قُدِّر لى بعد ذلك أن أقرأ للبُرْص بعض القصص التى كتبها فوجدته من قصاصى الدرجة العاشرة، إلا أن الشيوعيين، كعادتهم فى رفع كل بُرْص حقير إلى السماء، كانوا يغدقون عليه صفات العبقرية، حتى أراحنا الله من خلقته وكَسَحَه القدر إلى مجارى التاريخ حيث ينتمى.
ولا ننس حكاية أروى صالح، التى كانت واحدة منهم ثم تبين لها أنها تعيش أكذوبة كبرى، ثم كانت ثالثة الأثافى اكشتافها أن الرجال (الرجال؟) الذين تزوجتهم، وكانوا كلهم من الشيوعيين، هم جميعا من الشواذ على نحو أو على آخر كما كتب د. محمد عباس فى مقال له مشهور، فلم تطق صبرا على كل هذا القبح والنتن، وانتحرت وغاردت دنيا الشيوعية والشيوعيين الدنسة غير آسفة عليها ولا مأسوف عليها هى أيضا.
ويلحق بهؤلاء كاتبات هذه الأيام اللاتى لا يكتبن فى الواقع "أدبا" بل يفتحن مواخير يمارسن فيها "قلة الأدب"، إذ يضطجعن على قارعة الطريق عاريات كما ولدتهن أمهاتهن، وقد فتحن أفخاذهن لكل عابر سبيل، أو قل: "عابر سرير"، مثلما صور العهد القديم أُمّة بنى إسرائيل، التى قال على لسان المولى سبحانه وتعالى فى الإصحاح السادس عشر من سفر "حزقيال"، وإن كان من غير الممكن أن يقول الله سبحانه وتعالى كلاما عاريا على هذا النحو: "25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيق بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ، وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ". هؤلاء لسن أديبات ولا مؤدبات، بل قحابا ومومسات من الصنف العَفِش الذى لم يكن يدور لإبليس ذاته فى بال ولا خيال. ذلك أن القحاب والمومسات المعروفات لا يخلون من بقية حياء، فهن يستترن بعهرهن، أما هؤلاء فيضطجعن للمارة على قارعة الطريق عاريات فاضحات مفضوحات فاتحات أفخاذهن، كاشفات سوآتهن المنتنة مثل أخلاقهن، وبمباركة رجالهن، إن صح أن يقال عن أمثال أولئك الجرادل: "رجال"! وهذا التحلل والانحلال هو كل ما يهم الشيوعيين ومن على شاكلتهم رغم جعجعاتهم حول الشرف والبطولة. وما أكثر السفلة "الأدناف" من أشباه الرجال الذين يكتبون مشجعين أمثال أولئك القحاب على كسر ما يسمونه برطانتهم الكريهة:"التابو" والتحرر من كل خلق كريم وكل قيمة نبيلة! ولم لا، والجميع تربية خلايا الشيوعية التى تعمل على تسهيل كل شىء لأعضائها فى العتمة، وأولها إطلاق العِنَان للأجساد الملتهبة التى لا تعرف نظافة ولا استحماما والتى لا يردعها خوف من رب ولا تفكير فى حساب أو ثواب وعقاب لأنهم لا يؤمنون برب ولا بثواب وعقاب. إنهم مجموعة من الحيوانات قد أُطْلِق سراحها وتسلط عليها السعار الجنسى فاشتعلت شهوةً واغتلامًا، فكُلُّه يقفز على كُلِّه. ولم لا، والأمر بالنسبة لهم "مولد، وصاحبه غائب"؟
وإذا كان هذا الإعلام قد تجاهل سيد قطب كأنه لم يكن فهو تجنُّبٌ لا يمكن أن يدوم إلى الأبد. وأين ذهب عبد الناصر ذاته بعد أن كان اسمه يسدّ عين الشمس حتى أحال الدنيا إلى ظلام مخيف ورعب ما بعده رعب؟ وإضافة إلى هذا فالمشاهَد أن كثيرا من الـمُسَمَّيْن بـ"الإسلاميين" لا ينظرون إلى إنجازات المرحوم سيد قطب الأدبية والنقدية عادة بعين الترحيب والرضا، أو على الأقل: لا ينظرون إليها بعين الاهتمام، على رغم أن إنجازات الرجل فى تلك الساحة هى إنجازات كبيرة بكل المقاييس. وإنى لأرجو أن يأجره الله عليها أجرا كبيرا، فليس بالقليل عند خالق الذوق والجمال أن يعمل أحد عباده بقلمه فى تربية الذوق وصيانة الجمال، إذ ليست الدنيا كلها أكلا وشربا ولا حتى صلاة وصياما فقط، بل هذا وذاك وذلك وتلك وذوقا ولياقة وكياسة وهُفُوًّا للجمال وحسن تقدير له... إلخ. ثم إن من صفاته سبحانه جل وعلا أنه جميل يحب الجمال.
وبهذه المناسبة أذكر أننى، قبل عدة سنوات، لاحظت غياب طالب متدين من محاضراتى فى مادة "القصة" كنت أَشِيم أن بإمكانه التفوق فى تلك المادة وغيرها، ولما سألته عن سر هذا الغياب بَدَهَنى بردٍّ لم أكن أتوقعه البتة، إذ قال إنها محاضرات فى القصة، وهى ليست من الأهمية بمكان لأنها لا صلة لها بالدين. وعبثا حاولت أن أفهمه أن النقد الأدبى فرع من فروع المعرفة، التى حض الإسلام أتباعه على السعى لتحصيلها واكتسابها، وأن دين النبى العظيم لا يعرف تلك التفرقة المصطنعة بين علم وعلم، تلك التفرقة التى لا تظن أن ثم أجرا على تحصيل العلم إلا إذا كان متعلقا بالدين من فقه وحديث وعقيدة وما إلى هذا، وأن النقد القصصى، والنقد الأدبى بوجه عام، من شأنه إكساب الطالب الحساسية الجمالية والذوقية والتعمق فى فهم الحياة، إذ شعرتُ كأننى أنفخ فى رماد أو فى قربة مقطوعة، وبدا لى أن قطاعا كبيرا جدا من المسلمين ينظرون إلى الوجود من ثَقْب إبرة مع أنه ليس لِدِينهم نظير فى الاهتمام بالدنيا والدعوة إلى البراعة فى كل مناحيها وتسنُّم ذراها، فى الوقت الذى يجىء فيه المسلمون فى العصور الحديثة بوجه عام فى ذيل الأمم حتى فى أمور النظام والذوق والجمال! وها هى ذى دورة بكين الأولمبية تهتك الستر عن تخلفهم الشائن حتى فى ميادين الرياضة جميعا، وهو أمر مخجل لأية أمة أخرى غير أمة المسلمين التى لم تعد تعرف شيئا اسمه الخجل والخزى، إذ بات الخزى طعامها اليومى والأسبوعى والشهرى والسنوى حتى إشعار آخر يبدو أنْ سيطول انتظاره كثيرا كثيرا كثيرا.
وإذا كانت الكلمة الطيبة فى دين النبى العظيم صدقة، أفلا يُعَدّ كلامنا فى النقد الأدبى والقصصى كلمة طيبة نؤجَر عليها يوم القيامة لما تؤدى إليه من خير كثير فى هذه الدنيا التى أثبت المسلمون فى عصرنا أنهم أساتذة الفشل فيها؟ وإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة، أفلا تُعَدّ تلك المحاضرات لونا من إماطة الأذى، لا عن الطريق، ولكن عما هو أهم وأخطر: عن العقول والأذواق؟ أستغفر الله العظيم! ترى من أين أتى ذلك الطالب وأشباهه بهذا التفكير العجيب، وذلك الذوق الخشن، إذ لم يتورع أن يجبه أستاذه الذى يريد له المصلحة والتفوق بهذا الرد الجافى الخالى من كل أثر للياقة؟
لقد قرأت فى ذلك الوقت لأحد الدعاة المعروفين فى صحيفة من الصحف الإسلامية الخاصة ذات مرة أن كتابة القصة حرام!
- الله أكبر! لماذا يا مولانا؟
- لأنها قائمة على الكذب؟
- كيف يا فضيلة الشيخ؟
- ألا يقول القَصّاص من هؤلاء مثلا إن فلانا الفلانى قام من نومة القيلولة فحلق لحيته واغتسل وتعطر ولبس بدلته ثم خرج إلى الشارع قاصدا المقهى القريب... إلى آخره، رغم أنه ليس هناك رجل بهذا الاسم قام بهذا أو ذاك من التصرفات، بل كله من اختراع الكاتب الكذاب؟
لإِنْ كان الأمر كما يقول الداعية المشهور فكلنا، بحمد الله الذى لا يحمد على مكروه سواه، ذاهبون إلى جهنم، وبئس المصير، ولن يدخل الجنة سوى ذلك الداعية، إن دخلها، ما دام دخولها بهذا العسر العسير. لكن الله من رحمته جعل للجنة ثمانية أبواب، ولم يجعلها كمساجد مصر التى يحرص خادم المسجد المزعج الكسول على أن يغلق أبوابها جميعا ولا يترك منها إلا درفة واحدة من باب واحد لا تسمح بدخول أحد إلا إذا دخل بالجنْب ونَشِبَ فى حلق الباب كما تَنْشَب شوكة السمكة فى بلعوم الآكل وتسده فيختنق ويكاد أن يموت، ولم يستطع المرور إلا باستعمال لبِّيسة حذاء، وبعد أن يكون قد خلع ملابسه ودهن جسمه بالصابون. يا مُسَهِّل! لقد كان رسول الله يحب التوسعة، لكن المسلمين فى عصرنا هذا يغرمون بالتضييق فى كل شىء. الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: بشِّروا ولا تنفِّروا، ونحن ننفِّر ولا نبشِّر أبدا حتى لنرى أنه لو حدث أن انكشف من شعر المرأة "شعراية" واحدة لكان مصيرها قعر الجحيم للتو واللحظة.
الإسلام مَهْيَعٌ واسعٌ مكون من مسارات كثيرة، وكلها تؤدى إلى ذات المصير ما دام السائر يلتزم بالإيمان بالله واليوم الآخر والرسل الكرام وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم، وما دام يصدق فى كلامه وفعاله، وما دام يعمل ولا يكسل، وما دام يخلو قلبه من الأحقاد والضغائن، وما دام يحب الخير للناس جميعا، والمسلمين منهم بوجه خاص، وما دام يسعى وراء العلم والمعرفة، وما دام يحرص على الذوق الجميل، وما دام يحب نبيه ويقدر العمل العظيم الذى أنجزه والدور الكريم النبيل الذى أداه جميع صحابته الشرفاء معه... ثم لا يهم بعد ذلك التسمية التى يتسمى بها، فالله سبحانه وتعالى رب الجميع من سنة ومعتزلة ومتصوفة وشيعة وخوارج. إلا أن كل فرقة من الفرق التى تنتمى للإسلام ترى أنها هى وحدها الفرقة الناجية، محوِّلةً بهذه الطريقة المهيع الواسع إلى حبل رفيع معلق فى الفضاء لا ينجو إلا من يستطيع السير بل الجرى عليه ذهابا وإيابا طول النهار والليل وهو مغمض العينين دون توقف أو كلل، ودون تلعثم أو تلجلج؟ وأَنَّى لأحد ذلك؟ إن مصير من يحاول هذا الجنون معروف، ألا وهو سقوطه من حالق واندقاق عنقه وحمله على الأعناق إلى النعش فالقبر خَبْطَ لَزْق! أم ترى هناك من يرى خلاف ذلك؟ أَرُونِيه، ولكم الأجر والمثوبة من رب الأجر والمثوبة!
وبالمناسبة فقد كان عندى فى تسعينات القرن الماضى طالب لا يكف عن سؤالى عن مصير المعتزلة يوم القيامة: أهم فى الجنة أم فى النار؟ لتأتيه إجابتى على وتيرة واحدة لا تتغير أبدا، وهى: وهل أخبروك يا بنىّ أنهم سيعينوننى ضابط جوازات على باب الجنة كما يصنعون فى المطارات لأفرز القادمين: فمن كان معتزليا كالجاحظ والنظّام مثلا أمرت بزبانيتى أن خذوه واعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ومن كان مثلك يدخن واصفرت أسنانه من التدخين ولا يصلى، أو على الأقل: غير منتظم فى الصلاة، ولا يقرأ كما ينبغى لطالب مسلم أن يجعل ديدنه القراءة ويسعى فى تحصيل العلم لا يتوقف عن ذلك أبدا أمرت به أن احملوه معززا مكرما فى محفة مزينة بباقات الورد والريحان وضعوه فى الجنة؟ يا بنى، إننى أنا نفسى لا أدرى ما الله فاعل بى. ولو أننى نجوت من أهوال النار ولو بخمس وأربعين فى المائة أو بما هو دون ذلك بكثير وقبلونى فى الجنة عن طريق الرأفة والعطف لكنت أسعد السعداء؟ ثم أردت مداعبته فسألته: وأنت، هل تصلى؟ فأجابنى بما أعرف أنه سيجينبى به: أحيانا، وأحيانا. فعدت أسأله: أولا تدخن، رغم أن التدخين ضار لا يرضاه الله سبحانه وتعالى، سواء قلنا إنه حرام كما أفهم أنا، أو اكتفينا بكراهته؟ فقال: بلى. فقلت له عندئذ: أوليس من الأفضل أن تشتغل بمصيرك أولا ثم تبحث فى مصير كبار المفكرين كالجاحظ وغيره؟ أو تظن يا ناصر أن أمثال الجاحظ سيدخلون النار بهذه البساطة التى تتوهمها، وبكلمة من واحد مثلك، لا لشىء إلا لأنه معتزلى؟ وحتى الآن أرانى كلما رأيت ناصر، الذى أصبح من طلبة الدكتورية (المتقدمين قليلا فى السن)، أسأله ضاحكا: هيه! أين انتهى الأمر بك مع الجاحظ؟ وأين وضعته: فى الجنة أم فى النار؟ فيقول لى وفى وجهه بعض الخجل: أولا تزال تذكر هذه السذاجات يا دكتور؟ ثم أنظر إلى أسنانه البُنِّيّة وأسأله: هيه! والسجائر؟ فيقول منكسرا: أحاول أن أكف عنها. على أن المحزن فى الأمر هو موت الجاحظ ورحيله عن دنيانا منذ قرون طويلة، إذ كنت أتمنى أن لو كان من معاصرى ناصر، هذا الذى يريد أن يراه يتقلى فى النار ويصيح من ألم العذاب ولا مجير، فيضع فيه رسالة تخلده فى الدنيا وتدير اسمه على لسان العالمين ليل نهار، بدل هذا السخف الذى أحاول أنا تحبيره هنا عبثا! وبعيدا عن هذا التناول الفكاهى للأمر أرانى أتأمل هذا الانكسار من تلميذى فى بعض الأحيان وأقول فى نفسى: ومن يدريك يا فلان؟ (فلان هذا هو أنا طبعا كما لا أحتاج إلى أن أشرح للقراء!) ربما كان انكسار ذلك الطالب واهتمامه بالإسلام على قدر فهمه البسيط سببا فى دخوله الجنة، على حين يُحْرَم منها من هو مثلك يا أبا خليل. هل عندك اعتراض؟ فأسارع قائلا: ومن أنا حتى يكون لى اعتراض على ما يشاؤه الله؟
وعَوْدًا إلى داعيتنا الذى يكذّب القصاصين ويرى أنهم ذاهبون إلى جهنم نقول: من الواضح أنه يوسّع معنى الكذب بحيث يدخل فيه كل شىء تقريبا. وعلى هذا فإذا قلتُ مثلا إننى ما إن رأيت الأسد مقبلا علىّ حتى أخذت ذيلى فى أسنانى وقلت: يا فكيك، فأنا فى رأيه كذابٌ قرارىّ، لأنى أولا ليس لى ذيل، وحتى لو كان لى ذيل فمنذ متى يستطيع الحيوان "أبو ذيل" أن يأخذ ذيله فى أسنانه؟ وثالثا فإنه لم يحدث أن قلت أنا أو غيرى قط عند الهرب: "يا فكيك"، بل الذى يحدث أن الهارب يجرى بأقصى سرعته دون أن ينبس فى الغالب ببنت شَفَة. بل إن عبارة "بنت شفة" ذاتها كذب فى كذب، لأن الشفاه لا تحمل ولا تنجب، فكيف يكون لها بنون أو بنات؟ كذلك هل للجدار إرادة كما لنا نحن البشر مثلا حتى يقول القرآن عن موسى وفتاه إنهما وجدا فى القرية التى مرا بها جدارا يريد أن ينقض؟ وهل كل من كان فى الدنيا أعمى بالمعنى الذى نعرفه من العمى سيكون فى الآخرة أعمى وأضل سبيلا؟ إن هذا كله مجاز، ولو حاسبناه بحساب داعيتنا الكريم فسوف ننتهى إلى تلك النتائج الكارثية.
وفن القصة هو بدروه مجاز، بيد أنه مجاز من نوع أوسع، فمجازه ليس فى الكلمة أو فى الجملة، بل فى بنائه كله من أوله إلى آخره. وهذا،كما قلت، معروف للطرفين: للأديب وللقارئ على السواء. والكذب بوجه عام آفة مرذولة يعاقِب عليها ربنا جل وعلا، وأفظع ألوانه هو الكذب الذى يتعمد فيه صاحبه الإخبار بغير ما حدث بغية تضليل الآخرين وإيذائهم، أو فى أقل القليل: بغية تفويت المصلحة عليهم. ويليه الكذب الذى ليس وراءه أى غرض كريم، بل الرغبة محض الرغبة فى تغيير الحقائق، وهو ما يعد مرضا، والعياذ بالله. والحق أنه لو قام أمر البشر على الكذب ما تحركت المجتمعات خطوة واحدة إلى الأمام، إذ إن التقدم والتحضر والعمل والإنتاج والسعى فى الأرض لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان هناك أمان واطمئنان إلى ما يتردد من روايات وأخبار وحكايات، وإلا فكيف يبنى الناس أمور حياتهم فى العلم أو فى العمل أو فى العلاقات الاجتماعية وغير ذلك على أرض من الرمال المتحركة المهلكة؟ والقصاصون لا يأتون إلى شىء وَقَع فيَلْوُونَه عن حقيقته رغبة فى الضرر والأذى، كما أنهم لا يكذبون حبا فى الكذب، بل يعرفون هم وقراؤهم منذ البداية أن الأمر كله خيال فى خيال، وأن المقصود هو التسلى عن الهم والتعمق فى فهم الحياة وتثقيف العقل والذوق واكتساب الرقىّ اللغوى والتعبيرى وشغل أوقات الفراغ بما يعود على الذهن والقلب بالنفع الكريم وترسيخ هذه القيمة أو تلك والتنفير من هذا السلوك أو ذاك... إلخ. فليس هناك إذن، من حيث المبدأ على الأقل، تضليل ولا تعمد لتشويه الحقائق ولا رغبة فى الإضرار بأحد. أما إذا وقع من بعض القصاصين ذلك فهؤلاء يدانون وحدهم لا فئة القصاصين جميعا!
نعم لقد كان هناك فى علماء المسلمين القدامى من كان ينظر إلى عمل القُصّاص فى المساجد شَزْرًا ويحذِّر منهم ومن قَصَصهم، لكن ينبغى ألا يفوتنا أن ذلك إنما كان موجها إلى القُصّاص الذين يخترعون الأحاديث ويضيفونها زورا وبهتانا إلى رسول الله لا إلى القُصّاص من حيث إنهم قُصّاص. فالأمران مختلفان كما وضحت فى الفصل الخاص بفن القصة من كتابى: "فنون الأدب فى لغة العرب". بل لقد استثنى الرسول من الكذب المعيب ما كان هدفه الإصلاح أو دَرْء الخطر عن الجماعة كما فى حالة الصلح بين المتخاصمين، أو فى حديث الرجل إلى زوجته طلبا لإدخال السرور على قلبها بدلا من صدمها بما فى قلبه من مشاعر الكراهية التى تعرض له فى وقت الغضب والمنازعة، أو الكذب على الأعداء حين يقع الإنسان أسيرا فى أيديهم مثلا. وبطبيعة الحال ليست هذه الحالات الثلاث هى الحالات التى يجوز فيها وحدها ولا يجوز فى سواها تنكب قول الحقيقة، إذ ليست إلا مجرَّد أمثلةٍ غير مستغرِقة.
ثم إن للواقع فى الأعمال القصصية معنى آخر. إنه ليس ما وقع فعلا، بل ما يمكن أن يقع أو ما يقتنع القارئ بأنه يمكن أن يقع. ولقد قلت: "أو ما يقتنع القارئ أنه يمكن أن يقع" حتى يدخل فيه قصص "ألف ليلة وليلة" والسِّيَر الشعبية التى يختلط فيها الجن والشياطين وبنو الإنسان فى وقائع الحياة اليومية دون أية فواصل ويقع فيها السحر والغرائب ببساطة تشبه بساطة تنفسنا للهواء، ويراه بعضنا الآن خرافات بَلْقاء لا ينبغى أن نصدق شيئا منها، إلا أن القدماء كانوا يعتقدون فيها ويؤمنون بها فيصدّقون بظهور الجن والشياطين للبشر وبقدرة السحرة على تصيير الناس أحصنة وبراغيث وأصناما جامدة خرساء، وما إلى ذلك. ولقد كنت يوما من الأيام أقول بما يقول به النقاد الآن من أن الفرق بين القصص القديم والقصص الحديث هو أن الأول يقوم على حكاية الخرافات والأمور اللامعقولة، ثم تنبهتُ فيما بعد إلى أن الخرافات بالنسبة للقدماء لم تكن خرافات، بل كانوا يتحدثون عنها حديث من يراها واقعا حقيقيا لا مراء فيه. بل إننا الآن لا نزال نتخذ من الأساطير والخرافات القديمة مشجبا لكثير من أعمالنا القصصية والمسرحية. بل لقد ظهر فى العقود الأخيرة ما يسمى فى عالم القَصَص بــ"الواقعية السحرية"، وهى ضرب من القَصَص يشبه إلى حد بعيد قصص "ألف ليلة وليلة" رغم أن الكتّاب الذين يتبعون هذا الأسلوب يعلمون جيدا أن هذا كله ليس إلا خرافات وأساطير لا تصدَّق. إلا أن هناك اتفاقا ضمنيا بين الكتّاب والقراء على السكوت عن هذه النقطة كأنها ليست هناك. ثم من يدرينا أن بعض ما نراه الآن حقائق لا ريب فيها لن يكتشف الناس فى المستقبل القريب أو البعيد أنها لم تكن سوى خرافات وأننا كنا مخدوعين عن أمرها؟ من هذا يتبين لنا كيف أن داعيتنا المبجل الجليل قد بسّط الأمر تبسيطا مُخِلاًّ حين أطلق حكمه المتسرع على القصة بأنها مجموعة أكاذيب وأن القصاص شخص كذاب ينبغى أن يتوب ويُنِيب ويعزم على ألا يعود إلى المعاصى أبدا ويبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام.
لكن هل ترك سيد قطب الأدب والنقد الأدبى تماما بعدما اتجه إلى الكتابات الإسلامية؟ كلا، فقد كتب مثلا "التصوير الفنى فى القرآن"، وهو كتاب فى التذوق البلاغى والنقدى للنص القرآنى المجيد. كما أن كتابه: "فى ظلال القرآن" هو أيضا، فى جانب من جوانبه، تناول بلاغى ونقدى لهذا النص الكريم. وكلا الكتابين مصوغ بأسلوب أدبى أنيق مشحون بالدفء وينفح بعطر الوجدان. بل إن كتابات سيد قطب الإسلامية التى لا علاقة لها بالأدب بمعناه الشائع هى رغم ذلك أدب بكل ما تعنيه كلمة "الأدب" من دلالة، إذ هى جميعا تتسم بحرارة التعبير وتجنيح التصوير وحلاوة الأسلوب وروعته. وهذه هى مواصفات النص الأدبى بغض النظر عن الموضوع الذى يتناوله ذلك النص. وهذا معروف لا حاجة إلى التدليل عليه. وقد أكده د. محمد مندور حين قال إن هناك من الكتابات التاريخية وغيرها ما يدخل فى الأدب لهذا السبب الذى ذكرته (انظر كتابه: "تأسيس الفنون السردية وتطبيقاتها"/ الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2008م/ 80- 85،120). وأذكر أننى قرأت لتوفيق الحكيم فى أحد كتبه استغرابه لانحصار الأدب عندنا فيما يسمى بالنثر الفنى، على حين أنه يضم، لدى الغربيين، الكتابات التاريخية والكتابات العلمية ذاتها إذا صيغت صياغة فنية جميلة. ويقول كاتب مادة "الأدب" فى "الموسوعة العربية العالمية" إن الأدب "تعبيرٌ راقٍ عن المشاعر والأفكار والآراء والخبرة الإنسانية. وهو، فيمعناه العام، يشمل كل ما كُتِب عن التجارب الإنسانية عامة... فالأدب هو أحد الفنون الجميلة، أو ما يمكن أن يشار إليه بالكتابة الجميلة".
وفى الطبعة الرابعة من " Penguin Dictionary of Literary Terms and Literary Theory"، وتحت عنوان"Literature"، نقرأ السطور التالية، وفيها أن مصطلح "الأدب" مصطلح لا يخلو من الغموض والاتساع حتى إنه ليشمل، إلى جانب الرواية والمسرحية والشعر، أعمالا مثل كتاب "الشعر" لأرسطو، و"أصل الأنواع" لداروين، و"تاريخ الحروب الصليبية" لرانسيمان مثلا، لما فيها من أسلوب فنى جميل وشعور حار وما إلى ذلك: "A vague term which usually denotes works which belong to the major genres: epic, drama, lyric, novel, short story ode. lf we describe something as 'literature', as opposed to anything else, the term carries with it qualitative connotations which imply that the work in question has superior qualities; that it is well above the ordinary run of written works. For example: 'George Eliot's novels are literature, whereas Fleming's Bond books are unquestionably not.' However, there are many works which cannot be classified in the main literary genres which nevertheless may be regarded as literature by virtue of the excellence of their writing, their originality and their general aesthetic and artistic merits. A handful of examples at random suggests how comprehensive the term can be. For instance: Aristotle's treatises on Poetics and Rhetoric; St Augustine's Civitas Dei; Erasmus's Moriae Encomium; Descartes's Discourse on Method; Berkeley's Platonic Dialogues; Gibbons's Decline and Fall of the Roman Empire; Prescott's History of the Conquest of Mexico; Darwin's On the Origin of Species; Lord Acton's Essays on Church and State; Lytton Strachey's Queen Victoria; R. G. Collingwood's The ldea of Nature; D'Arcy Wentworth Thompson's On Growth and Form; Sir Arthur Keith's The New Theory of Human Evolution; Sir Charles Sherrington's Man on His Nature; Sir Steven Runciman's The History of the Crusades; and Dame Rebecca West's The Meaning of Treason. Scores of others might be added to such a list.".
فسيد قطب إذن لم يترك الكتابة الأدبية والنقد الأدبى كما يتصور كثير من الناس، بل كل ما هنالك أنه انصرف عن تناول الأعمال البشرية إلى العكوف على القرآن العظيم والقضايا الإسلامية الكبيرة واضعا كل إمكاناته الذوقية والأدبية والنقدية فى خدمة هذا المشروع المتميز. وعلى هذا فلست من رأى د. على شلش، الذى وضع عن سيد قطب كتابا يشى عنوانه وحده بما يريد أن يقول، وهو "التمرد على الأدب- دراسة فى تجربة سيد قطب". ويرد د. شلش هذا التمرد المتوهَّم إلى شعوره بالإحباط من جراء عدم اهتمام الكتّاب الكبار به ورفضهم الاعتراف بقيمة ما يكتب من خلال مقالات ودراسات يؤلفونها عنه. ولكن هل كان سيد قطب قليل الشأن حتى يحس بالإحباط جراء أمر كهذا، وهو الذى كان يعطى بما يكتبه عن هذا الأديب أو ذاك صك الاعتراف به؟ لقد كان، رحمه الله، كاتبا كبيرا ملء السمع والبصر، بل كان الناقد الأول بالنسبة لجيله والجيل التالى له، وكان كل أديب يتمنى أن يفوز منه بمقال. ومن هنا تصفه "The Columbia Encyclopedia" فى مقالها عنه بطبعتها السادسة (2008م) بأنه "كان كاتبا وناقدا أدبيا محترما: Qutb became a respected writer and literary critic". وكان يكتب فى كثير من المجلات والصحف كما نعرف، وهو ما أشار إليه أيضا كاتب المادة الخاصة به فى "الويكيبيديا: wikipedia" فى نسختها الفرنسية، إذ نقرأ أنه كان "journaliste dans plusieurs des principales revues panarabes des années 30 et 40 (tel qu'Alaraby)"، وكذلك سهيل هاشمى (Sohail H. Hashmi) كاتب ترجمة "سيد قطب" فى "and the Muslim WorldEncyclopedia of Islam"، الذى كتب يقول: "His early writings, consisting primarily of literary criticism and works of fiction and poetry, brought him to the attention of Egypt’s cultural elite, including Taha Husayn". كما كان صاحب أسلوب لا يبارَى دقةً وأناقةً وسلاسةً وحيويةً ونصوع عبارة وسعة ثقافة ورهافة ذوق وقوة ثقة بالنفس. ثم إن من يشعر بالإحباط إنما يعتزل دنيا الكتابة، فضلا عن أن يعكف على كتاب الله الذى لا يقترب الكاتب العاقل منه إلا وقد نضج نضوجه النهائى، ولقد كان سيد قطب من هذه الناحية من أعقل العقلاء.
كذلك فالمقارنة فى هذا المجال بين سيد قطب، رحمه الله، وعادل كامل على نحو ما صنع د. شلش هى مقارنة مجحفة ولا معنى لها، فكامل قد طلق دنيا الأدب والأدباء والنشر والناشرين تطليقا بائنا، وانصرف إلى مهنته فى المحاماة، أما قطب فظل يكتب وينشر وتتهافت دور النشر على مؤلفاته. بل إنه، وهو فى السجن، قد وضع عددا من أهم أعماله وأخصبها، ومنها كتابه الفريد: "فى ظلال القرآن"، الذى يكفى وحده لوضع اسمه فى سجل الكتاب الخالدين فى كل العصور، بخلاف كامل، الذى لم يكتب بعد ذلك إلا رواية نشرتها له دار الهلال فى أوائل التسعينات على ما يقول الدكتور شلش نفسه اسمها: "الحل والربط"، وإن كان من الممكن جدا أن يكون قد كتبها قبل هجره لدنيا الأدب. وعلى أى حال فهذا، بالنسبة إلى كامل، هو كل شىء. فكيف تصح المقارنة بين الرجلين؟ وأين قامة عادل كامل من قامة سيد قطب أصلا؟ الواقع أن هذه مقارنة لا معنى لها ولا موضع من الإعراب.
أقول هذا رغم أنى مدين للدكتور شلش بتشجيعه إياى وأنا فى مقتبل الشباب حين قرأ لى فى أول السبعينات من القرن البائد قصتين قصيرتين أيام أن كنت أكتب القصة القصيرة وأتردد على دار الأدباء، التى قابلته فيها، وأثنى مشكورا على أسلوبى وطريقتى فى القص، مداعبا لى عن حق بأننى قد قصدت فى إحدى القصتين الإشارة إلى الفلم الفرنسى الذى كان يُعْرَض فى ذلك الوقت فى بعض دور الخيالة، وهو فلم "الموت حبا". وكان شلش ناقدا فنيا أيضا. وزاد الرجل فلفت نظر الدكتور عبد القادر القط إلىّ، وزكَّى نشر القصتين فى مجلة "المجلة"، التى كان الأستاذ الدكتور يرأس تحريرها أوانئذ، إلا أنها أغلقت أبوابها عقب ذلك بقليل فلم يتيسر نشر شىء لى فيها.
أما قول د. على شلش بأن نجيب محفوظ كان أصلب الثلاثة، إذ ظل يكتب وينشر فى الوقت الذى انصرف فيه الآخران عن الكتابة الأدبية، فهو كلام غير دقيق بالنسبة لسيد قطب رحمه الله. لماذا؟ لأن سيد قطب لم يهجر الكتابة بتاتا فى يوم من الأيام حسبما رأينا، بل ظل يكتب وينشر، وألف أخصب أعماله فى تلك الفترة التى يدعى الدكتور شلش أنه هجر الأدب فيها كما سلف القول، وبالذات فى فترة السجن التى لو قُدِّر لمحفوظ أن يجرّبها لما استطاع أن يكتب شيئا البتة. وفى مادة "Qutb, Sayyid" من "دائرة المعارف البريطانية الموجزة: Britannica Concise Encyclopedia" (ط2005م) نقرأ أن سنوات السجن هى أخصب الفترات فى حياة سيد قطب تأليفا: "His prison years were his most productive". كل ما فى الأمر أن محفوظ ظل يكتب القصة لأنه لم يكن إلا قصاصا، أما قطب فكان ناقدا وقصاصا وشاعرا وكاتبا سياسيا ومفكرا إسلاميا. وإذا كان قد توقف عن كتابة القصة مثلا أو عن نقد الأعمال الأدبية، فقد انصرف إلى القرآن الكريم بالدراسة والتحليل والتذوق واضعا كل إمكاناته ومواهبه العقلية والنقدية والذوقية والأسلوبية فى خدمة هذا العمل العظيم. فكيف يقال إن محفوظ كان أصلب من قطب؟ وكيف، ومحفوظ معروف بأنه كان يلبس لكل حال لبوسها ويحرص على ألا يصطدم بالسلطة أو بالرأى العام أو بأصحاب النفوذ فى ميدان النقد فى عصره، على حين أن قطب لم يكن يبالى بشىء من ذلك متى ما اقتنع أنه على الحق، بصرف النظر عن مدى موافقتنا له فى بعض أفكاره ومواقفه أو لا؟
وأنا، بالمناسبة، لا أوافقه على كل ما قاله فى تفسيره للقرآن مثلا، بيد أن هذا لا يعمينى عن الحقيقة الساطعة التى تصيح بملء فيها أن ذلك التفسير هو تفسير فريد لا يجود الزمان بمثله فى سهولة. ولقد قدم الرجل رقبته فداء ما كان يعتقد من مبادئ وأفكار، ولم يقبل أن يتنازل عن شىء من ذلك أو يلتمس الصفح من السلطات، والجود بالرقاب أسخى آيات الجود! ومرة أخرى فنحن عندما نقول هذا فإنما نقوله بغض النظر عما إذا كنا نوافقه على هذا أو ذاك من مواقفه وآرائه، فتلك قضية أخرى (انظر ما قاله الدكتور شلش فى كتابه السالف الذكر/ دار الشروق/ 1994م/ مقدمة الكتاب: "فى البدء").
***
وكنت كتبت فى مقال لى منشور فى بعض المواقع المشباكية منذ عدة سنين عن رواية "أشواك" أنها تدور حول تجربة عاطفية بينشاب وفتاة انتهت بخِطبةٍ لم يُكْتَب لها الاستمرار، وكانت هذه الرواية أول ما وقع في يدي لسيد قطب، وكنت أيامها في الإعدادية عام أربعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد،ولم أكن قد سمعت باسم مؤلِّفها من قبل، وكنت أظنه مجرد أديب شاب، كما لم يَدُر بخَلَدي ولا بخلَد أي إنسان أنه بعد نحو سنتين لا غير سيكون له ضجيجٌ رهيبٌ يملأ الدنياويشغل الناس كما لم يشغلهم أحد من قبل.ومما قلته فى ذلك المقال أن التجربة التي تعالجها الرواية هي، فى أغلب الظن، تجربة شخصية للمؤلف. كما أشرت إلى تعاطفى وقتها مع بَطَلَيِ القصة، وابتأست لهذه العلاقة الجميلة أن تُجْهَض دونتمامها. لقد كنت أيامها في بداية فترة المراهقة الرومانسية الجميلة، فضلاً عن حلاوة الأسلوب الذي صيغت به الرواية وبراعة الكاتب في التعبير عن حرارةِ التجربة وجوِّهاالأسيان الذي يبعث على الحسرة! وأضفت قائلا إننى، حين أعدت قراءتها بعد سنوات طويلة تزوَّجت خلالهاوسافرت إلى الخارج وأنجبت أولادًا، وجدت لها نفس التأثير الأول بل أَشَدّ، نظرًا لمعرفتي بالمصير المأساوي الذي آل إليه كاتبها. وكنت قد قرأت وأنا بسبيل إعداد رسالتي للدكتوريَّة نقدًا لها في مجلة "الرسالة" القديمة كتبه وديع فلسطين، إذا لم تكن الذاكرة قد عبثت بي، ورأيته يأخذ على الرواية أشياء بحيث يخرجالقارئ لهذا النقد بانطباع مؤدَّاه أنها ليست روايةً ذات شأن، وهو ما لم أستطع أنأتفق فيه مع الناقد قط، إذ الرواية عندي، ولا تزال، أكبر من هذاكثيرًا كثيرا.
ثم ختمت كلامى عن الرواية قائلا: "ولعلي أستطيع أن أعود إليها قريبًا فأقرأها للمرة الثالثةلأمتِّع نفسي بها من جديد". وهأنذا أعود إليها هذ الأيام فعلا كما رجوت فى المقال المذكور، فهل تغير رأيى فيها؟ أم هل بقى كما هو؟ الواقع أن تقديرى لها قد زاد كثيرا، واستمتاعى بها قد أضحى أقوى من ذى قبل، وتعاطفى مع بطلها، الذى أتصور أنه هو سيد قطب ذاته، صار أحرّ وآلم. نعم منذ قرأت الرواية فى صباى وأنا أتصور أنها تحكى ما وقع لكاتبها رغم أنى لا أذكر أننى قرأت فى أى من ترجمات سيد قطب أنه كان ينوى الزواج فخطب فتاة، وأوشك أن يعقد قرانه عليها، لكن الأمر لم ييلغ نهايته المرجوّة على غرار ما فى القصة. إلا أن بعض السمات الفارقة فى شخصية بطل الرواية هى نفسها تقريبا سمات شخصية سيد قطب: فكلاهما كاتب مشهور يكتب فى الصحف ويعرفه الناس، وله تأثير على نطاق واسع حتى إن البطل حين ذهب مع خطيبته إلى القسم للتبليغ عن أخيها الصغير الذى تأخرت به مربيته فى العودة إلى البيت واطلع الضابط على بطاقته أبدى ترحيبه به بوصفه كاتبا مرموقا يكتب فى الصحف الواسعة الانتشار. وكلاهما شاعر، وشاعر وجدانى. كما أن الاثنين كليهما ريفيان محافظان، وإن كان هذا لم يمنع البطل من خطف قبلة من فتاته مثلا بين الحين والآخر. كذلك فبطل الرواية يبدى، فى بعض المواقف، ما يوحى بأنه يرى فى الارتباط بالمرأة عقبة تعوقه عن بلوغ أهدافه فى الإصلاح، وهو ما يتفق مع ما نعرفه عن حياة سيد قطب من عدم زواجه مثلما انتهى الأمر بالبطل فى الرواية، إذ انتهت أحداثها بانفصاله عن خطيبته ليقابلها بعد بضع سنين وفى يدها ابنها، ويفاجأ بها تناديه بذات الاسم الذى كانا ينويان أن يسميا به أول ابن لهما حين كانا يستعدان للزواج، مما يدل على أنها كانت تحبه حقا وصدقا وأنه هو الذى أفسد حياته وحياتها بالشك بسبب بعض الأشياء التافهة التى ليس لها فى حد ذاتها خطر، إلا أن شِرّة الشباب وشدة غيرته كفيلة بتوليد البغل نفسه وتدمير كل شىء فى وسوسة لا معنى لها.
طبعا أنا أقول هذا الآن وقد تخطيت عتبة الستين وصرت أهدأ مما كنت فى عرامة الشباب، لكن قطب لم يكن أيامها شابا لأنه يذكر فى الرواية أن فارق السن بينه وبين خطيبته عشر سنين. والحق أن عطفى عليه هو الذى يدفعنى إلى هذا القول لتصورى أنه لو كان تزوج من تلك الفتاة التى من الواضح أنه كان يحبها حبا شديدا فلربما لم تكن نهايته قد اتخذت هذ المنحى المأساوى، فالزواج والأولاد كفيلان فى كثير من الحالات بأن يهدئا من شدة الثورة والسخط على الأوضاع ويبصرا المصلح بالهوة الفاغرة فمها تحت أقدامه فيعمل بقدر طاقته على اجتنابها، ولربما استطاع أن يجد طريقة أخرى فى الدعوة إلى ما يؤمن به دون الاصطدام بغباء السلطة وانغلاق عقلها وانعدام مشاعرها وجلافتها وقسوتها، التى تمثلت عند أدنى دركاتها فيما صنعته مع محمد نجيب نفسه، ذلك الرجل الكريم الذى استدعاه من يُسَمَّوْن بــ"الضباط الأحرار" لينتفعوا بجاهه ومنصبه وسمعته الشريفة، فلباهم وعرّض نفسه لما يمكن أن يصيبه من تنكيل وسجن أو إعدام، إلى أن حصلوا منه على ما يريدون فقلبوا له ظهر المجن وأَرَوْه النجوم فى عز الظهر، ولم يرحموا أحدا من أبنائه، بل دمروهم تدميرا. وظل الرجل طوال سنوات وسنوات يعامَل بقسوة وحشية لا مسوغ لها لا من شخصيته ولا من الظروف التى كانت تمر بها مصر ولا من طبيعة الشعب المصرى المستكينة التى لا تبالى بشىء حتى لو انطبقت السماء على الأرض، بل تظل على ولائها (الظاهرى طبعا، فهى لا تبالى فى الواقع بشىء مبالاة حقيقية) لمن فى السلطة مهما سامها الخسف والهوان والاستبداد وطيّن عيشتها واحتكر كل شىء فى يده وخنقها وحرمها الهواء الطائر وأوجب عليها أن تتنفس بمقدار، وفى أوقات معلومة لا تعدوها، ومن منخر واحد فقط بعد أن يضيق فتحته ولا يسمح بتوستعها مهما تكن الظروف. نعم، فنحن شعب لا يحسن إلا الطبل والزمر والرقص ومشاهدة مباريات الكرة المتخلفة ككل شىء فى حياته. وهذا كل ما يهمه، وطظ بعد ذلك فى الدنيا ومن نفضوها. ذلك أنى أرى، وكان قطب نفسه يرى شيئا كهذا على نحو ما قرأنا فى أول هذه الدراسة، أنه لا موجب لتضييع الوقت وإهلاك الأعصاب فى مطاحنة السلطات ما دامت الشعوب "مبسوطة على الآخر" مع تلك السلطات، وسعيدة بما تصنعه بها، وتكره كراهية العمى من يشذ عن خط سيرها المهين فيبدى شيئا من الشجاعة فى مواجهة السلطة ويطالبها بحق الشعوب فى الحياة والعزة والكرامة. إنها شعوب طبل وزمر، ولا شىء آخر. إنها شعوب لا تُعْنَى إلا ببطنها وفرجها، ثم لا شىء آخر. إنها شعوب ضُرِبَتْ عليها الذلة والمسكنة والهوان والبلادة وبُغْض العلم والعمل والإبداع والحضارة، ثم لا شىء آخر. وعلى رأى المثل: "أنا راضى، وأبوها راضى، وما لك أنت يا قاضى؟"!
إنى أكتب هذا الكلام وأنا أكاد أطقّ من أجنابى كمدا وقهرا، والناس فى كل مكان من حولى "آخر انسجام"، وكأن الدنيا كلها برها وبحرها وسماءها قد دانت لها، وأخذت بذلك على الله عهدا إلى آخر الدهر! والواقع أن الإنسان إذا ما صوَّب نظره هنا وهناك وقارن بين شعوبنا فى هذه المرحلة البائسة من تاريخها والشعوب الأخرى، ورأى أن الشعوب كلها شىء، وشعوب العالم العربى والإسلامى الحاليّة شىء آخر، شىء كله زفت وقطران، انبثق السؤال التالى فى التو واللحظة: أوقد خلق الله الشعوب الأخرى من طينة، وخلق العرب والمسلمين فى العصر الحديث من طينة أخرى؟ إن ما تفعله شعوبنا الآن ليس له إلا معنى واحد هو أنها شعوب انتهت فترة صلاحيتها. بل إن كل شىء يقول بعلو صوته إنها تدمر نفسها وتنتحر حضاريا.
وأخيرا إليك، أيها القارئ، هذه النكتة السوداوية التى تلخص الموقف كله وتعطيك ببساطة تامة ما أردت أن أقوله لك فى الفقرات الكثيرة الماضية وأحس رغم ذلك أننى لم أصل إلى مبتغاى، فقد قرأت أن الناس، أثناء تظاهرة من تظاهرات حركة "كفاية" ضرب الأمن المركزى كالعادة حولها نطاقا أوقف المرور، كانوا لا يكفّون عن التذمر من المتظاهرين. أتعرف لماذا أيها القارئ؟ لقد كانوا يقولون إن التظاهرة تعطلهم عن بلوغ بيوتهم. وتسأل أنت: وما الذى يستعجلهم هكذا للوصول إلى بيوتهم؟ فأجيبك: لا شىء، إلا أن يخلعوا جواربهم ويشرعوا فى تخليل أصابع أقدامهم. وهل هناك عمل آخر للناس فى بلاد العرب والمسلمين غير هذا وأمثاله؟ أوتظن أن هذه شعوب يُرْجَى من ورائها خير؟
***