...كان عشاؤنا ليلتها " بركوكسا " حارا أعدته المازية ليشيع فينا الدفء ليلة برد شتوي قارس .
و كان جدي ينشر ذاته حول المجمرة ، بينما السيجارة في يمناه و القهوة إلى يساره ، وقد خاطب المازية :
- اذهبي لتنامي ، سيلحق بك سعد بعد حين.
كان وجهه كالحا من تعب الطريق ، و صدره لا يكاد يتسع لما يجذب من دخان السيجارة ، و في عينيه تردد و حيرة ، وخاطبني كالمتهرب :
- كيف الحال عندكم في المدرسة ؟
و حدثته في اندفاع عما قاله لي المعلم ، عن المركز و الدولة و أمثالي من الأطفال . كنت ألهث في كلامي ، أحسني مطاردا ، فقد خيل إلي أن المعلم يحاصرني بمركزه ذاك ، و كذا كان شعوري و أنا أقف على حافة القبر المفتوح .
وصمت جدي ، فرك كفيه ، حك لحيته ، أسند جبهته إلى يده . حركات متعاقبة غامضة ، ثم تمتم بما لم أفهم ، فصرت أرى فيه لحظتها كتلة ضخمة من الغموض .
- ومن هم الأطفال الموجدون في المركز و الذين يقول عنهم إنهم أمثالي ؟
فأسرع يقول :
- لا تسمع لمعلمك في هذا ، لن ينقصك شيء ما دمت حيا .
و انتصب أمام ناظري القبر المفتوح و حارس المقبرة في أبشع ما يكون .
- وهل سيطيل الله في عمرك كثيرا ؟
و كأنما هو السؤال نفسه الذي كان يعصف برأسه في اللحظة ذاتها إذ وجه إلي عينين منكسرتين :
- ولم لا يابني ؟
وحركني نداؤه لي " يا بني " فتدفقت في مشاعر الحب و الشفقة ،فقلت صادقا مستعينا بما علمني إياه المعلم من قصص الأنبياء :
-إن الله قد أمد في عمر نوح تسعة قرون .
فربت على كتفي و لحيته تنام فوق رأسي ، إذ كنت قد اندسست في حضنه .
- لا مفر من النهاية .
و اغتنمت تحرك مشاعره فتساءلت :
- ولكن من هي يا جدي ؟
لم يجبني ، ظلت لحيته تضغط على رأسي في شيء من التوتر ، فأضفت :
- يقولون عنها ربما هي متزوجة برجل آخر ، أو هي متشردة في حهة ما ، أو هي نائمة تحت التراب ، و أنا لست كبشا يجهل أمه إن صادفها ، لقد أبصرتها في الحلم ذات ليلة ، احتضنتني قليلا ثم غابت ، لا أذكر تفاصيل وجهها ، لكنها لو عادت ثانية لعرفتها بين ألف امرأة ، قل لي من هي ؟
و أبعدني من حضنه ، وأخرج سيجارة أشعلها في عصبية :
- ما هذا الكلام الذي تقوله ؟ إنك تتحدث كبنت كسيحة في البيت . أنت رجل ، فحل ، كبش لا يهمه وجود أمه أو عدمه . وبم تنفع الأمهات الأبناء غير أن يغرسن فيهم الخوف و الدلال و الهشاشة ؟
وسعل سعالا خشنا تمزق له صدره و دمعت عيناه ، و أعطاني سيجارته
- خذ ، اجذب نفسا .
وسكب فنجانا آخر من القهوة ، و سعلت المازية في غرفة الضيوف فأدركت أنها تتنصت ، بينما المطر في الخارج أخذ ينسكب في غزارة .
وقال منفعلا :
- اسمع سأحكي لك ، وعليك أن تكون رجلا ، و إن لم تكن كذلك فلن تكون جديرا بالحياة .
وكان شارباه ينتصباه .
- أنا رجل تزوج كثيرا من النساء ، لم أخضع لسلطان أية واحدة منهن ، أنتظرها عاما إن لم تنجب لي ولدا ذكرا فحلا طلقتها و جئت بالأخرى ، أتزوجهن أبكارا ، لا أقبل بغير البكر ، لا أمد يدي إلى إناء ولغ فيه كلب .
وقهقه ساخرا :
- ثم اتضح لي أني أنا العاقر ، و أنجب من طلقتهن جرادا من الذرية . لم أسف ، قدري أن أموت كالبغل من غير ذرية . لم أطلق بعدها امرأة ، النساء كلهن متشابهات ، أنت تسأل و تلح ، لماذا تتعب نفسك ؟ أمك واحدة من أولئك النساء ، لكن الأهم من هو أبوك ؟ هذا الذي كان يجب أن تسأل عنه لو كانت فيك شعرة الرجولة ، لكنك أرضعت الأنوثة مع حليب النعجة .
وسكت وجهه في هيئة استعلائية قاسية ، بينما كان عقلي يلهث في قفر لا متناه ، صحيح ! كيف لم يخطر ببالي السؤال عن أبي ؟ !
و أضاف جدي في لهجة تنضح مرارة :
- في ذلك اليوم خرجت مع قوات فرنسية لتمشيط الغابة مطاردة للمجاهدين ، جندتني فرنسا في صفوفها لأكون لها دليلا في غابة و جبال المنطقة ، و سمحت لي الجبهة بذلك لأكون عينا لهم على فرنسا، يومها كنت ضمن مجموعة نقوم بمهمة استطلاع في جبل الزيتونة ، لما اقتربنا من مغارة الجبل استوقفنا بكاء صبي ، أمرني الضابط أن أدخل ، دخلت ، كنت أنت ، كتلة ملفوفة في ثوب امرأة ، إلى جانبك شموع و صرة و طعام و نمل ، عندما رآك الضابط الفرنسي صرخ : " أما يكفي الجبال ما تسببه لنا من بلاء حتى تلد الأطفال" ورأيت في عينيه كأنه يريد قتلك ، اجتمع في قلبي كل الأطفال الذين كنت أراني في الحلم أنجبهم ، ، فباغتهم ، فتحت النار عليهم ، و هربت بك ، لاحقوني في مسالك الغابة التي أعرفها كجيبي فضللتهم وتركتهم يبحثون في الغابة وعدت بك إلى فطوم ، وتشردنا ثلاثتنا : أنا ، فطوم ، أنت ما بقي من أيام الحرب ، ثلاثة أشهر و أعلن وقف القتال .عشية الاستقلال سجلتك كما وجدتك ، عديم اللقب ، عديم الأهل ، لم أشأ أن أكذب عليك أو أن أكذب على نفسي ، لكني سميتك "سعد" و قلت لفطوم إن لم يظهر أهله سنتخذه أنيس وحشة الكبر ، لكن الأمر فلت مني ، و أحس أن الزمن يداهمني و أنت بعد فرخ ، من الذي أخرجك إلى هذه المزبلة في تلك المغارة ؟ لا أعرف .
وسكت وأنا تحت الصدمة ، ثم أمسكني من كتفي و هزني :
- اسمع ، في المغارة رأيتك الطفل الذي حرمته ، رأيتك الطفل الذي أرسلته لي السماء ، وستظل كذلك عندي إلى الأبد ، لأني رأيتك ابني أفرغت الرشاش في مؤخرات أولاد الوسخة .
ولم يعد أمام عيني إلا صورة المعلم يؤكد لي في مرارة : " عمر له إخوة كبار ، له أبناء عم و عمات و خالات ، أما أنت فلا أحد لك " .
كان في داخلي شيء ما ينهار و آخر ينتصب عنيفا ، فقد تجمع في حقد أسود عليه ، رأيته شيخا هرما شرسا ، لم يكذب علي و لكنه عراني ،أما كان له أن يسكت قليلا ؟
والتقت أبصارنا ، رأيته غرابا أسود ، حدثتني نفسي أن أرمي بالمجمرة على وجهه ، أن أحطم شيئا ما . وكان يرقبني ، يرصد رد فعلي .
- أريدك أن تغضب ، لا أن تبكي بكاء النساء ، مزيدا من الغضب ، اضرب كل من تسول له نفسه أن يمسك ، يدي مع يدك إلى النهاية، أنا لست جدك ، لكني الشيخ مسعود الذي يريدك رجلا .
وسعل في خشونة ، ولعن الزمن ، بينما المطر في الخارج يكاد يدك السقف ، وكنت أخرس ، صمتا مثقلا .
- اسمع ، أذهب لتنام ، سنكون رجالا حتى النهاية .
وتحركت ، لم يعد بي غضب ، لقد حل الألم .
دخلت على المازية ، كانت الشمعة على وشك الانتهاء تلاعبها ريح ما تحت الباب ، ولم تكن المازية نامت . فتحت جهتي من الفراش ، نفخت على الشمعة . قالت المازية إنها سمعت كل شيء ، وإنه يجب أن أنام لأستيقظ صباحا للمدرسة .
و أغمضت عيني في الظلمة .


""""""""""""


الفصل الثالث .


مات " سحاب" ، مات أقرب كائن إلي ، مات ميتة عنيفة ، عنق ممدود ، أنياب بارزة . مات مكشرا من الألم .
حفرت له قبرا في طرف البستان ، و كتبت على حجر مصفح اتخذته شاهدا : " هنا يرقد سحاب كلب سعد "
لم يعترض جدي ، بل الشيخ مسعود ، على دفن كلب في بستانه ، اكتفى بأن علق متهكما :
- أتراك غدا تحرص على دفني كحرصك على دفن هذا الكلب ، أم أنك سترميني للكلاب ؟
و غطى رأسه تحت الفراش ، بينما وضعت المازية خدها على يدها مستغربة ذلك السلوك مني و منه ، فقد صار غريب الأطوار ، يسب و يلعن لأتفه الأسباب . قد تزعجه ذبابة فيقوم إلى البندقية معلقة في الجدار متوعدا ، وأحيانا يطلق النار في الهواء تنفيسا عن غضبه ، وإذا وضعت أصبعي في أذني أطلق طلقة أخرى ، وقال في هدوء :
- لا ، السلاح هو الذي يحقق للرجل وجوده ، لكي تصير رجلا يجب أن تتسلح .
ثم يقبل البندقية و يقهقه في غلاظة ، وتتداخل قهقهته بالسعال فيبدو كحصان يصهل . و يعطيني البندقية كي أجربها ، فأرفض ، فلا يلح ، يتمتم و يعود إلى عبوسه .
ولاحظت أنه صار يعاملني باحترام منذ صارحني ، و مع ذلك كان كرهي له قد استقر في قلبي مكينا . لم أكن لأطيقه بعد تلك الليلة اللعينة ، فقد كشف لي حقيقة فظيعة ، انفصالي المرعب في هذا الوجود : مضغة من اللحم ملفوفة في قماش امرأة لا يعرف لها أب و لا أم . بقدر ما كان كرهي لتلك الحقيقة كان كرهي له . أما كان له أن يخلي بين الضابط و بيني ؟؟؟
قالت المازية إنها صارت تخشى نزواته ، و إن إسراعه الأهوج إلى البندقية لا ينتهي على خير ، فهو يهب إليها لأتفه الأسباب ، وسامح الله السعيد القهواجي الذي غرر بها يوم قصدته في بيته ليستخدمها فأرشدها إلى هذا الشيخ المتعجرف .
ولم تخف عني نيتها في مغادرة هذا البيت . فرجوتها ألا تفعل ، فإني لا أطيق الحياة معه وجها لوجه ، فشخصه صار شبحا كابسا رغم عجزه و ارتعاشة أطرافه و سعاله .
و اقترحت علي المازية أن أذهب معها كحفيد نجوب القرى و المدن حتى يفرجها الله بقدرته ، فرفضت .
كان شيء ما يشدني إلى البيت الذي نشأت فيه ، رغم علمي الآن أني كنت فيه حفيدا كاذبا إلا أن البستان و الجدول و الزريبة و الشمس الناهضة خلف الجبل و أشياء أخرى لا تحديد لها كانت تذوب في دمي و تشيع في الحنين حد البكاء حين يخطر في بالي أني سأغادر هذا البيت ، كنت مغروسا في كل شبر ، في كل ذرة من تراب وقطرة من ماء .
إذا كان اليوم عطلة مسحت المكان طولا و عرضا في هيام ووجد ، أدخل الزريبة أملأ رئتي برائحة الغنم ، أجول في البستان ، أقف على قبر سحاب ، أقرأ شاهده ، أقتلع ما نبت من عشب فوقه ، أجوس خلال الغابة ، أقصد عين الماء ، أنتظر قليلا المرأة قد تأتي ، لا تأتي ، أقوم هنا و هناك ، تقودني خطاي إلى سفح الجبل ، إلى البيت .
لا يسألني أين كنت . البندقية تنام إلى جواره فوق السرير ، يسعل ، يبصق في إناء أعدته له المازية ، يسألني إذا كنت تناولت غذائي ؟ يؤكد لي أن الجسم بحاجة إلى الغذاء الجيد لأن الرجل بحاجة إلى حسم جيد ، فالمرء يصافح صاحبه يشد على يده يهزه بينما هو في الحقيقة يسبر مدى قوته .
وتقودني رجلاي إلى المقبرة ثانية ، أدخلها من البوابة الخلفية و الشمس مالت إلى الغروب . الصمت و العشب و الحصى ، الإهمال و التبعثر و الظلال القاتمة .
أقصد القبر المفتوح فأجده انغلق و انتفخ ترابا ، أقرأ الشاهد :" لا إله إلا الله ، هنا يرقد حمودة بن سعيد " ثم تاريخ الميلاد و الوفاة ، تسعون سنة ، وبالقرب منه قبر جديد ينفتح في حفرتين مستطيلتين إحداهما تحوي الأخرى . لقد صدق تنبؤ الحارس فقد هلك الشيخ حمودة ، فعلى من تكون النوبة القادمة ؟
ووجدت نفسي منتصبا على قبرها ، جدتي فطوم ! محا المطر ما كنت كتبته على شاهدها ، إلا حروفا ما تكاد تبين من فطوم ، من غير إيضاح ، لم تكوني يوما جدتي ، هكذا ، ف ، طاء متآكلة ، هذا كل ما تبقى ، واحدة من آلاف النساء و العجائز ، واحدة من آلاف النعاج ...
وقفزت فوق السور ، فقد كان حارس المقبرة مقبلا من أقصاها يحث الخطى نحوي


""""""""""""""""""""""""

وكانت نهاية العام الدراسي ، أعلن الترتيب النهائي للتلاميذ فكنت الأول في قسمي .
كان فرحي عظيما أحسستني أنتصر على ثلاثين تلميذا ، فأنا فوق انحيازهم و تهامسهم .
و أوصانا المعلم أن نخبر أولياءنا بأن المدرسة تقيم بالغد حفلا توزع فيه الجوائز على الأوائل في مختلف المستويات .
و أخذني الفرح فجريت من المدرسة إلى البيت ، حين توقفت في الساحة رأيته عند العتبة كالتمثال ، القهوة و العصا و السيجارة و الشرود .
أخبرته بالنتيجة ، التمعت عيناه ، لمحت فيهما فرحا غريبا ، قهقه في عنف و سعل سعالا شديدا ، ثم اعتمد على كتفي و قام إلى البندقية ، أطلق طلقة ثم أعقبها بأخرى ، و طلب مني أن أركض وراء الديك الأحمر نذبحه الليلة احتفالا بالانتصار الأول .
ولما أخبرته بما أوصانا المعلم رفض ، قال لي :
- يجب أن تكون وحدك ، لا حاجة بك إلى شيخ ارتخت خصيتاه .
قالها أمام المازية من غير حياء . أدارت هي و جهها و ذهبت أنا أتبول .
أقيم الحفل و حضره أولياء جلسوا في الصف الثاني خلفنا - نحن الأوائل - و تسلمت جائزتي وسط تصفيقهم ، و بعدها كان تخافتهم و نظراتهم . و تسلم الثاني جائزته و عاد فجلس جنبي ، اقترب بوجهه من أذني و همس :
- عندما ذهبت لتستلم جائزتك تخابر الذين يجلسون خلفنا أنك ابن حرام فكيف تحصل على الرتبة الأولى ؟!
و التفتت إلى حيث أشار ، كانت عيونهم تحدق بي ، من بينهم " دحمان الشانبيط" ، وقفت ، انصبت علي أبصارهم محملة بالاستغراب و الاستهجان ، رميت ملفوف الجائزة ينسحب على الأرض و أطلقت ساقي للريح .
لم أكن أعرف أين أضع قدمي ، أو إلى أين أتجه ؟ فقد أفقدني صوابي ما سمعت ، أحقا ما قيل ؟ أهي من اللواتي يرقصن في الأعراس و ينمن مع كل رجل و يشربن الدواء حتى لا يلدن ، فإذا ولدن رمينه ؟ إذا كان كذلك فإني أبغضها ، لا أريدها . وقد لا تكون ، فهم يكذبون ، يرجمون بالغيب ، من أين لهم أن يعرفوا إن كان هو نفسه لا يعرف ؟ أم تراه مازال يخفي عني ؟
كنت أبتعد ، أبتعد ، تجاوزت جبل سيدي المخفي ، اقتربت من جبل الزيتونة . كان الرعاة يشوون أرانب برية ، و كانت كلابهم تتوزع و تتشمم و تتبول . سألتهم عن الكهف الذي الذي يحكون عنه في جبل الزيتونة ، فقالوا إنه مسكون و إن الشموع توقد به ليلا فترى من بعيد ، ونصحوني بعدم الذهاب عارضين علي البقاء معهم للأكل من لحم الأرانب .
وصعد بي الدرب الملتوي كالثعبان بين الأشجار و الأحجار . إلى الجهة الأخرى أخدود سحيق في قاعه جثة حيوان متعفنة تنخرها الغربان و النسور .
كان الكهف يفغر فاه يغشاه السكون و الأزل . و تبادرت إلى ذهني صورة القبر المفتوح فاقشعر جسمي .
رأيت الحجارة الكالحة و العتمة في الأقصى تشتد حلكة ، الكهف يتحلزن في قلب الصخرة الهائلة كجرح غائر ، الجرح الفاغر ، و أطرافي تتحسس أرضيته في رهبة و انجذاب إلى العمق مدفوعا باستطلاع محموم إلى ما عسى تكون عليه البقعة التي احتضنتني ذات فجر ، نعم ، ذات فجر ، إن ذلك يوشك يكون عندي يقينا ، في الفجر تحدث الأشياء ، و في الفجر حدثت أنا ، ،، هنا إذن ،،، هنا كان الشيء ،،، خرجت أول مرة واقعا على رأسي ، من رحم من ؟ من مومس متوحشة ؟ أم من أم لها عينان سودوان دافئتان و ابتسامة و ضفائر طويلة ؟
و تلمس أصابعي جدران الكهف : طحالب ميتة ، وحجارة صلدة ، وظلمة تتكثف ، ولكنها قد لا تكون ، فهم بالغيب يرجمون . و يجثم الثقل على صدري ، أريد أن أتمدد قليلا ، أغلقت ما بيني و بينهم . إن العالم خلفي ، القرية و دحمان الشانبيط و شواربهم الكثة . هكذا في بطنها كنت أمور ، أتكور و أتعلق بالجدار .
وأشرق الكهف فرأيت الصورة ذاتها ، امرأة طويلة ممتلئة ، وعيون عميقة يشيع فيها الدفء و الحنان تمد يديها و تقول :
- هنا ولدتك ذات شتاء ، وأنا أشرف امرأة في الوجود ، فلا تبالي بما يقولون ، إني أبحث عنك منذ سنين في القرى و المداشر و المدن ، تعال ، اقترب .
و تمتد يداي ...
- كنت أظنك ميتة ، بحثت عنك في المقبرة ، وانتظرتك في الحلم طويلا ، وجدي مسعود لم يعد جدي ، ولا جدتي فطوم كانت جدتي ، مات سحاب ، وهم تكلموا عني بالعيب و العار ، ،،
ويشرق وجهها بالدموع ، و تومئ إلي فتبرق الأساور في معصميها فيأخذني البريق ...
- تعال يا كبدي ، ادن نخرج من هنا ...
وأنا أحبو جذلان ألثم الحجر الذي جمعني بأمي ، وتضحك لفعلي فيبدو الضرس المذهب في أقصى زاوية الفم .
وتخرج فأتبعها ، و أراها تهوي في فضاء الأخدود فينتفخ ثوبها المزركش حتى إذ بلغت القاع لم يعد هناك غير الجثة المتعفنة تنخرها الغربان في نهم ، ولا شيء غير المنحدر و المهابط ...
+++++++++
في الليل الثقيل كان الشيخ يتمرغ في سريره و قد أنهكه الربو ، شخير و عرق و سعال و ضراط ، و إذ دخلت عليه كانت عورته مكشوفة فأسرعت المازية تسحب المبولة من تحته و ترد عليه طرف برنوسه .
و هربت مني عيناه في اتجاه المازية يمسكها من يدها يحاول الكلام فيحول دونه الشخير و اللهاث . و تتشبث يده المتشنجة بالمازية في توسل ، وفي عينيه ماء ترقرق تحت ضوء الشمعدان ، لم أميز أهو البكاء أم السعال ؟
و قلبت المازية وجهها في السقف .
- ماذا في وسعنا أن نفعل له ؟ سيموت بيننا .
و التقطت أذنه لفظة الموت فانتفضت جثته المتهدمة في حركة متشنجة ، وحاول أن يقوم فانهال عليه وابل من السعال تمزق له صدره انتهى بدم يتفقع على أطراف فمه .
وأسندته المازية إلى صدرها .
- لا إله إلا الله ، اذكر الله يا الشيباني .
فتقلصت معالم وجهه ، وسحب رأسه من صدرها إلى المخدة مديرا عينيه الذاويتين في وجهي فأدرت وجهي إلى المازية فكانت واجمة تضع يمناها على يسراها .
و أشار لي فجثوت عند رأسه ، قبض على يدي لا يريد إطلاقها ، و أراد أن يتكلم فلم يسعفه الصوت ، كان فحيحا و تمزقا ، فتحسرت عيناه و تقبض وجهه حتى صار كله تجاعيد مكفهرة .
و اشتدت قبضته على معصمي ، وخفت النور فاظلم وجهه ، فانتبهت إلى أن الشمعة توشك أن تنتهي ، فوقع في نفسي أن ما بقي له من حياة لا يتجاوز ما بقي لهذه الشمعة .
و كانت المازية في هيئتها واجمة .
كنا ثلاثة لا رابط بيننا غير اللحظة العابرة : عجوز قضت العمر تحلم بعودة زوجها ، شيخ يتشبث ، و طفل يتشتت .

و خفت شخيره فصار حشرجة وانية في شهيق و زفير بطيئين على نسق رتيب . و دخلت المازية الإيقاع فارتفع منها النحيب ، ربما تخيلته زوجها الآن يموت بين يديها .
و كانت شهقتان فجائيتان ناشزتان . و كف كل شيء ، فأسرعت المازية تسدل الجفنين و تغلق الفم بقبضتين حازمتين .