الجيش الذي لا يقاتل

أ.د. محمد اسحق الريفي

من المهم جداً الوقوف على حقيقة الوقائع الميدانية للحرب القذرة التي شنها جيش الاحتلال الصهيوني على غزة، وذلك لفهم سلوك هذا الجيش وتحليل نفسية الجندي الصهيوني أثناء المواجهة مع المقاومة الحقيقية، وليتبين لنا أن الجيش الصهيوني الذي يصفه البعض بأنه "لا يُقهر" هو في الحقيقة جيش لا يقاتل!

لن أتطرق هنا إلى أهداف جيش الاحتلال من حربه على غزة؛ ولا إلى التداعيات السياسية لهزيمته الكبرى أمام المقاومة الفلسطينية؛ وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، وإنما سأحاول إبراز حقيقة واحدة؛ وهي أن الجندي الصهيوني لا يستطيع المواجهة، وأنه إذا تصدى له مقاومون يتسلحون بالوعي والإيمان فإنه لا يملك إلا الفرار من أرض المعركة.

إن العنف الوحشي والدموي الذي ارتكبه جيش الاحتلال الصهيوني ضد المواطنين المدنيين في غزة لا يحتاج لتفسير أهدافه والدوافع الصهيونية من ورائه إلى محللين عسكريين وسياسيين إستراتيجيين، وإنما يحتاج فقط إلى أطباء نفسيين؛ ليحللوا نفسية الجندي الصهيوني التي تعكس الأيديولوجية اليهودية؛ المنطوية على العداء والكراهية الدينية للإسلام والمسلمين، كما تعكس نفسية هذا الجندي الجبان الأيديولوجية الصهيونية القائمة على إنكار وجود الشعب الفلسطيني.

وحول هذا الموضوع؛ استنتج "رؤوفين بدهتسور" في مقالة له بعنوان "في غزة لم تحث حرب" أنه لم تحدث حرب في غزة، ولا شك أن استنتاج هذا الكاتب الصهيوني صحيح إلى حد كبير، ولكنني أختلف معه تماماً في التفسير والتحليل. لم تكن هناك حرب حقيقية في غزة؛ فقد سيطر الرعب على الجنود الصهاينة وبلغت قلوبهم القاسية إلى حناجرهم، وتجمدوا أثناء الحرب في دباباتهم ومواقعهم الحدودية، ولم يستطيعوا الوصول إلا إلى الأماكن الحدودية الزراعية، التي لا تناسب التكتيك القتالي للمقاومين في تصديهم لجيش الاحتلال، الذي أمطر تلك المناطق بالصواريخ والقذائف المدفعية والقنابل الفسفورية، مما أدى إلى استشهاد وإصابة أعداد كبيرة من المواطنين المدنيين، وإلى إلحاق إضرار بالغة بممتلكاتهم ومزارعهم.

ولم يكن هدف المقاومة المحافظة على الأرض، بل كان هدفها استدراج الجنود الصهاينة إلى الكمائن والطرق المزروعة بشتى أنواع الألغام، لإيقاع أكبر قدر من الخسائر الفادحة في صفوفهم وآلياتهم، ولإجبارهم على الانسحاب صاغرين قبل أن يحققوا أهدافهم الشريرة. وهذا ما حدث بالفعل، إذ لم يجرؤ الجنود الصهاينة على التقدم إلا قليلاً، ولم يصمدوا في المناطق التي وصلوا إليها إلا لوقت قصير، وذلك بعد أن أوقعتهم المقاومة في العديد من كمائنها المحكمة، فأحالت حياتهم إلى جحيم وكبدتهم خسائر كبيرة.

ففي حي التفاح مثلاً؛ تقدم الجنود الصهاينة في بداية المعركة البرية من الحدود الشرقية لغزة باتجاه حي التفاح، وتحديداً جبل الريس ومنطقة الشعف، حيث كانت الألغام في انتظارهم، وكان المقاومون يقذفونهم بالصواريخ والقذائف من مكامنهم، مما اضطر الجنود الصهاينة إلى التقهقر فوراً والتمركز على الحدود باقي أيام الحرب. ومن المثير للدهشة أن عدد المقاومين الذين تصدوا لدبابات العدو على الخطوط المتقدمة لشرق حي التفاح لم يتجاوز العشرة، وعاد معظمهم سالمين بفضل الله بعد انتهاء الحرب.

وكان الجنود الصهاينة يبدون وكأنهم يقاتلون الملائكة، بل ساد شعور لدى المقاومين أن الملائكة تشتبك مع جنود العدو، فقد كان هؤلاء الجنود يقضون معظم ليالي الحرب في قصف الأرضي الزراعية والمنازل والمساجد والمباني والطرقات؛ بالصواريخ والقذائف والرشاشات، بينما كان المقاومون يتربصون بجنود العدو ويقعدون لهم كل مرصد للانقضاض عليهم.

وكانت القذائف والصواريخ تتساقط بشكل متواصل على حي التفاح في معظم ليالي الحرب، وكانت أصوات الدبابات الصهيونية تسمع بوضوح لحد أن المواطنين ظنوا أنها وصلت إلى وسط المدينة، ولكن هذا لم يحدث قط، رغم الشائعات التي بثتها وسائل إعلام الاحتلال. فكنا نتضرع إلى الله في تلك الليالي وندعوه أن يحفظ المقاومين وينصرهم، ولكنهم كانوا يخبروننا في الصباح أنهم لم يشتبكوا مع جيش الاحتلال، وأنهم كانوا آمنين مطمئنين في مكامنهم. وما حدث في حي التفاح حدث أيضاً في أحياء أخرى من مدن وقرى قطاع غزة.

فلم يكن أمام الجنود الصهاينة أهداف عسكرية، ولم يجرؤوا على التقدم والقتال، خوفاَ من كمائن المقاومين، وإنما كانوا يستهدفون المدنيين فقط، وكانوا يقصفون بشكل جنوني كل شيء أمامهم. وعلى سبيل المثال؛ دمر الجنود الصهاينة بالصواريخ التي تطلقها طائرات إف 16 عشرات المنازل والمباني والمنشآت على جانبي شارع القرم شرق بلدة جباليا، ولم يكن هناك أي تقدم للدبابات الصهيونية إلا لمسافة قصيرة قبل أن ينسحبوا إلى مواقعهم الحدودية.

هذا السلوك يدل بشكل واضح على نفسية خائرة للجندي الصهيوني؛ الذي أصابه الرعب من المقاومين في مقتل، فأخذ يبطش بكل شيء أمامه لطمئن نفسه، لكنه لم يقاتل حقيقة، ولم يجرؤ على المواجهة. وقد أخبرنا القرآن الكريم عن هذا السلوك حيث يقول الله عز وجل في اليهود: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر"، وأيضاً: "وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون". فهم أجبن من أن يخوضوا حرباً حقيقية، لأن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة وجعلها ملازمة لهم.

لم يخض جيش الاحتلال الصهيوني أية حروب حقيقة سوى حربي تموز 2006 في لبنان وهذه الحرب، حيث فر الجنود الصهاينة من القتال، وعادوا خاسرين خائبين مدحورين، وفي هذا عبرة لمن يريد أن يعتبر!

27/1/2009