المقاومة والإرهاب والمخطط الاستعماري (5)

5/7 ـ أين الحقيقة




الحقيقة دائما نسبية، وليس هناك شخص راشد يسمح لنفسه بالادعاء أنه يملك وحده الحقيقة دون غيره. إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنها غير موجودة ولا يعني أننا ليس من حقنا الحديث أو البحث عنها. ولكن قبل ذلك سنعود ولو بإيجاز شديد لفصل القول في ما يستحق فصل القول فيه من تلك الأطروحات التي ذكرناها سابقا.

لا أظنّ أنّ هناك عاقلا واحدا يمكن أن يفكّر لحظة واحدة في أنّ اليهود أو الإنقليز أو الأمريكان معنيون من قريب أو من بعيد بإصلاح جهاز السلطة الفلسطينية وترشيد اقتصاد الشعب الفلسطيني المحتل المحاصر وزرع روح الديمقراطية بين أبنائه وتنوير سياسته. من أجل ماذا؟ من أجل أن ينام المسؤولون في الكيان الصهيوني وفي أمريكا وبريطانيا مرتاحي الضمير بعد أن يمكنوا شعب فلسطين من التحرر. ولا أحد يمكنه أن يصدق أن أمريكا وبريطانيا وحلفاءهما معنيون بأيّ شكل من الأشكال بحقوق الإنسان في العراق وفي غير العراق ومصالح الشعب العراقي وحسن استغلال ثرواته.

وإذا أصروا بأبواقهم التي ليس بإمكاننا إسكاتها في الخارج وحتى في الداخل، مع الأسف، على أنهم أصحاب حضارة وأنهم دعاة حرية ورسل الديمقراطية وشرطة حقوق الإنسان في العالم الثالث، سنسلّم لهم بذلك. ونقول لم نحن لا نشك في أنكم معنيون بحقوق الإنسان والديمقراطية وحسن تدبير الشعوب المحتلة وغير المحتلة لشؤونها المدنية والاقتصادية. نعم أنتم فعلا معنيون كل العناية بذلك، ولكن من الوجه الآخر.

نعم، إنهم معنيون بها، ولكن ليس كما يريدون إيهامنا، وإنّما من حيث أنّ كلاّ من تلك المطالب ليس بالنسبة لهم سوى حصان طروادة، به يصبح في إمكانهم أن ينصّبوا على الشعب الفلسطيني والشعب العراقي أشخاصا موالين لهم، مسلوبي الإرادة، يأتمرون بأوامرهم وينفذّونها طوعا أو كرها. وبه يندسّون دون " مقاومة " في قلب القرار الفلسطيني والعراقي والعربي على الإطلاق، ليحقّقوا مصالحهم لا غير. وعندها لن " تنغص" حياتهم مطالب "متعسفة " ينادي بها الفلسطينيون ولن تجد صوتا يطالب بتنفيذ قرارت الأمم المتحدة بما في ذلك القرارات المتعلقة بالقدس وحق العودة للاجئين، ولا اتفاقات أوسلو ولا مشاريع قومية في العراق ولا حتى وطنية، ولا تفكير في الأمن العربي ولا في أبسط مقوّمات المساهمة الفعلية للعرب في التطوّر الحضاري حاضرا ومستقبلا، حتى الجامعات العربية والعلماء العرب لا حق لهم بامتلاك مخبر ولا حتى القيام ببحث علمي أو درس في علوم الفيزياء والكيمياء...

إنّ مثل هذه الأساليب وغيرها، ألعاب ذهنية تروّج هنا وهناك، الغرض منها إلهاؤنا في نقاشات هامشية وإبعادنا ما أمكن عن التفكير في قضايانا الحقيقية. وهي ألعاب بليدة اخترعها ناس مصابون بداء التفوّق والعنصرية، يحسبون أنهم قادرون دائما على تزويق مخططاتهم وإخفائها، وإن نجحوا مع الأسف إلى الآن في كثير من الأحيان.

بقيت أطروحتان: الإسلام والنفط.

أمّا الإسلام فإن هناك طرحين بخصوصه، الأول يتوقف عند الإسلام كمجرد دين منافس للدين اليهودي أو المسيحي، والثاني يريد أن يخرج بالمسألة إلى أفق أوسع لعله يكون أكثر إقناعا، انطلاقا من كون الدين ظاهرة حضارية. بالنسبة للطرح الأول فإنّ الدين الإسلامي لم يستهدف اليوم فقط وإنما استهدف مثل جميع الأديان السماوية منذ كان في المهد، ومنذ كان في المهد لم تتمكن أعظم الإمبراطوريات قوة واتساعا من الوقوف في طريقه، بل إنّ ما حدث هو العكس تماما، فقد أطاح بتلك الحواجز الهائلة، الواحد بعد الآخر وجعل من ألدّ أعدائه جنودا فاتحين من جنوده، يتسارعون إلى الشهادة في ساحات القتال من أجل إعلاء كلمته.

وإذا أصرّ أصحاب هذا الرأي على رأيهم، فإنّ علينا أن نوضح بعض النقاط التي تبدو لنا مصدرا للاتباس وسوء الفهم؛ فالمستهدف في رأينا ليس الإسلام في حدّ ذاته وإنّما المسلمون هم المستهدفون، وليس جميع المسلمين مستهدفين في الواقع، وإنّما المسلمون الذين يشكلون مصدر خطر على الغرب ومصالحه، أولئك الذين لديهم استعداد لامحدود للدفاع عن الذات والمصلحة الوطنية بالدرجة الأولى وليس دفاعا عن الإسلام لأنهم، من المفروض، هم أدرى الناس بأنّ الإسلام لا يحتاج إلى الدفاع عنه.

وحتى نرفع اللبس تماما، نقول ليس المسلم العربي فقط ولا المسلم غير العربي هو المستهدف، وإنّما كل من يفكر في اكتساب مناعة ولو نسبية تجاه الغرب أو يرفع إصبع احتجاج، مسلما كان أو غير مسلم، ناهيك العرب الذين يرصد الصهاينة جميع حركاتهم وسكناتهم مسلمين ونصارى وعلمانيين وملحدين.

الطرح الثاني يقول إنّ هذه الحملة الغربية على العراق والفلسطينيين وعلى العرب عموما إنما هي صراع حضارات. وهنا ينبري الكثير من أهل الخير بكل نية صافية وبروح المسلم الحقيقي المتخلّقة السمحة، ليحاولوا جاهدين أن يقنعوا غير المسلمين من الغرب بأنّ الإسلام ليس دين إرهاب ولا دين ضغائن وتناحر بين الشعوب، وإنما هو على العكس، دين رحمة وتسامح وتعاون. وبعد أن يستنفدوا كل ما لديهم من أساليب الحجاج وألوان الحجج، يبسطون أيديهم في النهاية إلى هؤلاء القوم، داعين دعوة الإسلام إلى العمل من أجل سيادة التفاهم والسلام والمحبة في الأرض بين جميع الشعوب.

ولكن، أحقا نحن أمام صراع حضارات؟ الهند التي تصنع أسلحتها وتتسلح الآن بالقنبلة الذرية لا تدّعي ذلك، لا تدّعي أكثر من أنها تحمي نفسها من غوائل الزمن والأعداء. اليابان التي تصنع اليوم أكثر الأجهزة الإلكترونية استعمالا وأحسنها مواصفات في العالم لا تدعي أنها تصارع حضارة الغرب. الصين التي تستعد لإرسال رحلات مأهولة إلى الفضاء، والتي لا ينكر عليها أحد عراقتها الحضارية وتعلقها بعاداتها وتقاليدها وإيديولوجيتها، لم نسمع أنها تصارع حضارة الغرب وإنما تتعامل معها، وكل ما عرفناه عنها أنها تؤسس وتبني وتحاول أن تنخرط في المسيرة الحضارية الكبرى في شتى مجالات الحياة والإنتاج الثقافي والتقني.

وعلى افتراض أننا، نحن العرب المسلمين، في صراع حضاري مع الغرب، فبأيّ معطى حضاري سنصارع، بفلسفاتنا التي ملأت الآفاق، أم باختراعاتنا التي لم نفتأ نفاجئ بها العالم المتحضر والمتخلف، أم بمصانعنا التي لا تكاد تصنع إبرة أو شفرة حلاقة دون الاستعانة بتكنولوجية الغرب وآلات الغرب وخبراء الغرب، ناهيك عن صناعة محرك سيّارة واحد، لكي لا أقول طائرة شراعية أو منطادا أو درّاجة هوائية. فلنتواضع إذن، ولنفكر في ما يقربنا أكثر من حل لمعضلتنا التي طال بها العهد. ولو قرأنا فقط ما كتبه المفكرون والمصلحون والأدباء العرب وسلخوا في تأليفه أعزّ سنيّ شبابهم وحياتهم من أجل إنارة الطريق أمام هذه الأمة في هذه القرون الطويلة العجاف، لو اكتفينا بما كتبه مثقفونا المخلصون فحسب، لكنّا اليوم في غنى عن الكثير الكثير من الذل والهوان، أمام أكثر شعوب الأرض ذلا وتشردا في التاريخ.

بقيت آخر أطروحة ذكرناها بين ما لفت انتباهنا مما تتداوله وسائل الإعلام اليوم، وهي القائلة بأنّ النفط العراقي هو السبب الأساسي في هذه الحملة العدوانية الأمريكية البريطانية الصهيونية على العراق. ونحن لا نشك أبدا في ما للمصالح الاقتصادية من ارتباط وثيق بتاريخ العلاقات بين الشعوب في حالات السلم وحالات الحرب. ولا نشك إطلاقا في طمع الغرب الدائم في أراضي شعوب الأرض المختلفة وثرواتها، خاصة إذا كانت ثروات طبيعية بحجم ثروات أمتنا العربية، بدءا من العراق الشقيق إلى آخر قطرة نفط في البلاد العربية. كما لا يجب أن نتجاهل ما تتحدّث عنه الكثير من الدراسات والمصادر الموثوق بها وغير الموثوق بها من أنّ أمريكا خسرت وتخسر سنويا مليارات الدولارت من جرّاء ارتفاع سعر الذهب الأسود قياسا بالطبع على أيّام كانت فيه أسعار النفط في مستوياتها الدنيا. كلّ هذه أمور لا ينكرها إلاّ جاهل.

غير أنني، مع ذلك، لست مع هذا الطرح. وأحسب أنّه على المرء الخروج من جميع الظروف السياسية المحلية والعالمية الراهنة، حتى لا أقول: عليه أن يخرج من جلده ومن التاريخ برمته، لكي يصدّق بأنّ هدف أمريكا وأتباعها الأساسي من هذه الحملة العدوانية الشرسة على العراق هو وضع اليد على مصادر النفط في العراق وفي الخليج العربي بعامة.

ولكنّ هذا لا يعني أنّنا لا نقرّ بأنّ وضع اليد على مصادر النفط العراقي والخليجي عموما سوف يكون دون شكّ من أهمّ المكاسب التي ستخرج بها أمريكا وبريطانيا من هذا العدوان الآثم الذي دمّر العراق ويدمّره تدميرا. فهؤلاء القوم حريصون على ألاّ يخطئوا الحساب أبدا. وهؤلاء القوم حريصون دائما على ألاّ يضربوا بحجارتهم عصفورا واحدا ولا حتى عصفورين، وإنما ألفا. إلاّ أنّ النفط في رأينا، يظلّ مع ذلك، في رتبة عصفور ثان أو ثالث إن لم أقل أكثر.

فما هو إذن العصفور الأول الذي تتلهّف على إسقاطه أمريكا ومن ورائها بريطانيا والكيان الصهيوني؟

ليس بالطبع ذلك الهدف المعلن الذي كانت واشنطن تسعى لإقناع العالم به، وهو امتلاك العراق لأسلحة مدمّرة تهدّد وجود أمريكا وأمنها وأمن العالم بأسره؟ لقد اتضح للعالم أجمع أن الرجل الأول في أمريكا وجميع ومن يحيط به من نواب ووزراء وسفراء دجالون كذابون، وأنّ هذا الهدف المعلن أبعد ما يكون عن الحقيقة، بل إنّ جميع تلك المقولات لم تكن سوى أقنعة ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها المقرّبون لمجرّد التضليل وإخفاء الأسباب الحقيقية لهذه الهجمة على العراق وعلى الأمة العربية قاطبة.

فما الأسباب الحقيقية لهذا العدوان السفر المدمر؟؟

سؤال نعتقد أنه يستحق منا وقفة ونظرا، بدونهما لن نصل إلى الحقيقة التي نبحث عنه.


يُـتـبَـع