ما وراء الترجمة (1)

التقيت مراراً بأشخاص يعتقدون أن الترجمة عبارة عن معادلة خطية مباشرة وأن المترجم امرؤ محظوظ كل ما عليه القيام به هو قراءة الجملة الأصلية ثم كتابتها باللغة الأخرى. وقد يعشش هذا الاعتقاد الخاطئ في عقل بعض المترجمين أيضاً، وهنا تكون المصيبة أعظم.

كان أحد أساتذتي في الجامعة يردد دائماً عبارة: "المترجم شخص مبصر يقود اثنين من العميان". إن غاية المترجم النهائية هي أن يلتقي الأعميان بسلام عند نقطة الفهم والإبصار، وإلا فمصير الثلاثة الوقوع في الحُفر.

دعونا نحاول في هذه المسار -ومن خلال استعراض ترجمات معينة ومعرفة مقتضيات الترجمة السليمة فيها- الولوج إلى عالم ما وراء الترجمة بصفتها عملية فكرية وحضارية على مستوى المفهوم وكونها ممارسة ذهنية تتعلق بالنقل الأمين من لغة إلى أخرى على المستوى الفني البحت. الهدف هو إظهار الأساليب والفعاليات التي تتم في خلفية مسرح الترجمة كي تظهر الترجمة بوجهها اللائق والمشرق.
سنقوم في كل مرة بمناقشة ترجمة مصطلح أو مفهوم أو فكرة أو موقف أو مشكلة ترجمية ومناقشة الأبعاد التي تحيط بتلك الترجمة.

وأود أن أنوه إلى أن هذا اجتهاد شخصي من واقع الخبرة والممارسة وليس رؤية مكتملة الأركان لعملية الترجمة، وسأحاول من خلال طرح نماذج منفصلة من الترجمة تباعاً ومناقشتها بمساعدة الزملاء إلى الخروج بتصور أفضل وأوضح عما أعتقد أنه صحيح وعملي في هذا المضمار. وبناءً عليه أدعو كافة الزملاء من مختلف المستويات والخبرات والتخصصات إلى التداخل والجدال لإثراء الموضوع وتحقيق الفائدة للجميع في هذه الجمعية المتميزة.

ولكن لا بد من مقدمة سريعة نستعرض فيها بعضاً من أهم العناصر الجوهرية التي تستند إليها رؤية "ما وراء الترجمة"، وهي:

(1) دور وموقف المترجم – الإيجابية الفعالة
قد تكون بداية المترجم الناشئ عبارة عن نقل "مجمَّد" للمعاني من هناك إلى هنا. لكن مع المراس يرتقي المترجم بمستواه ومهاراته وبالتالي يقترب من ممارسة دوره الحقيقي كأحد آليات انتقال التقنية والعلوم والآداب.
يجب أن يعتَّد المترجم بدوره الثقافي والعلمي والأخلاقي في تكريس قيم المهنية العالية والأمانة والدقة وبلوغ أقصى درجات الجودة. إن الحرص على تقديم ترجمة بأعلى جودة – والذي ستعود فوائد بالدرجة الأولى على المترجم نفسه- هو من صميم دور المترجم الحضاري: قيادة العميان إلى بر الأمان. وهو بكل تأكيد الأساس المتين لرفع بنيان المهنة والمكانة المهنية.

(2) القراءة النقدية
بعد الانتهاء من الترجمة، يجب قراءة النص المترجم دون الرجوع إلى النص الأصلي.
- هل تفهم كل شيء تقرؤه؟
- هل الفكرة مرتبطة بما قبلها وما بعدها من أفكار؟ أم أن كل جملة تغني على ليلاها؟
- يجب ألا ننسى أن اللغة العربية تعتمد كثيراً على أدوات وحروف الربط وهو أمر تستعيض عنه اللغة الإنجليزية بتسلسل الجمل والأفكار.
- هل روح النص عربية أم أجنبية؟
- تذكر أن القارئ لن يعود إلى النص الأصلي بأي من الأحوال.
كي نختصر هنا حيث إغراء الإسهاب عالٍ جداً، إليك هذا النموذج من ترجمة تقنية لدليل خاص بأحد أنواع المصاعد الشهيرة عالمياً:
"في الحقيقة يجب توقع التراوحات الواضحة في تصور زحمة الصالات، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف أهداف الركاب، باختيارهم أو رغم عنهم، في دخولهم/ خروجهم من العربة/ العربات عند معدلات متغيرة – وفقاً لأعمارهم وقواهم. وهذا الشيء له تأثير جلي على الأداء الحاصل، وذلك بغض النظر عن حالة التوافق ما بين أعمال الصيانة."
سؤال للمناقشة: علماً بأن مترجم النص أعلاه يتمتع بخبرة جيدة، ما هي المشكلة في الترجمة أعلاه؟ وما هي أسبابها؟

(3) عبور الحد الفاصل
هناك حد فاصل منطقي – ومشروع - يمكن لأغلب المترجمين أن يقفوا عنده وخاصة في مواضيع التخصصات العلمية حيث يجب أن يتدخل الخبراء وأهل الاختصاص. مع ذلك أقول: إن من أبهى جوانب الترجمة تلك الإطلالة الساحرة على الضفة الأخرى من مهمة النقل بين اللغات والثقافات. ولكن الأجمل من التجول فيها بنظرك من على الشاطئ الآخر هو أن تعبر بعقلك ذلك الحد الفاصل بين العالميّن مفتشاً عن كنوز المعرفة ومكنون الثقافة الأخرى؛ متعة تزدادا كلما أوغل البحث في إسرار اللغة والفكر الذي يتحدث تلك اللغة، هذا إلى جانب أنها عملية تؤتي أُكلها في مواقع وأحيان أخرى. إن كثيراً من المصطلحات أو المواقف الترجمية التي سنتعرض إليها بإذن الله ستبرز هذه الناحية المهمة كي نتبين أهمية البحث والتقصي في الترجمة.

(4) الإحاطة المعرفية/ الثقافية
العلاقة بين الثقافة والترجمة علاقة عضوية وتبادلية؛ كلما ترجمت أكثر بمستوى أفضل ازددت ثقافة وعلماً، وكلما ازددت علماً وثقافة ارتقيت ترجمتك وصقلت لغتك. وتنطوي الإحاطة على بعدين: (1) العام: الإحاطة بثقافة اللغة و(2) الإحاطة الموضوعية، أي على مستوى موضوع النص؛ فعند التعرض لترجمة مفهوم جديد، عليك أن تحيط بكل جوانب المفهوم قدر المستطاع: المعنى القاموسي والاستخدامات المختلفة في السياقات والمجالات المعرفية المختلفة وأصل المفهوم وتعريفه وما إلى ذلك. وعندما تقف عند صعوبات في ترجمة نص لا بد من البحث والسؤال عن معلومات تفيد في فهم أعمق للنص وتفكيك أفكاره وتحليل أجزائه.
قبل بضعة أيام كان هناك طلب للمساعدة من إحدى الأخوات يتعلق بترجمة عبارة (Mission Actually Accomplished) في سياق يتعلق بالرئيس الأمريكي الحالي أوباما والعراق. رغم بساطة العبارة والمعنى المباشر لكلماتها سيشعر المترجم بقلق أو تشكك في صحة ترجمته لها ما لم يتوفر بين يديه ما يلي:
(1) فهم السياق وجو النص –وقد تبين لنا أن الموقف تخيلي من بنات أفكار الصحفي الذي وظّفه في سبيل النفاذ إلى فكرته الأصلية من المقالة (تحليلي ناقد للسياسة الخارجية الأمريكية ومحاولة توجيه مسارها نحو العراق).
(2) أصل العبارة – حكاية يافطة جورج بوش (Mission Accomplished) بخصوص غزو العراق.
(3) المعلومات المساعدة – سبب النقد والسخرية اللذين أثارتهما يافطة بوش: الحرب مستمرة دون أي حسم أمريكي.
عندئذٍ سيدرك المترجم سبب إضافة كلمة (Actually) على العبارة الخاصة بأوباما وسيعرف أن هناك عدة ترجمات صحيحة ودقيقة لغوياً لنفس العبارة، ولكن هناك فقط صياغة واحدة تطابق المغزى والمقصد كما يتطابق المفتاح الصحيح مع القفل.

(5) التحسين المستمر
هناك تحسُّن تلقائي ناتج عن الممارسة ولكنه غير كافٍ وقد يكون بطيئاً للغاية، وهناك تحسين ينبثق عن البحث والتدقيق والدراسة. ومن أهم الجوانب التي يجب أن نعمل على تحسينها:
- تعزيز قدرات الكتابة باللغة الأم (يلاحظ الجميع إن غالبية المشاكل ونقاط الضعف في الترجمة ترتبط بضعف اللغة العربية عند المترجمين العرب).
- اكتساب مهارات القراءة النقدية للترجمة (وعدم ترك الأمور كلها للمدققين).
- مراعاة الفروقات الثقافية والانتباه إلى الأنماط اللغوية السائدة في التعبير.
من أهم المفاهيم التي تخدم عمليات التحسين المستمر التفكير القائم على مفهوم "الباردايم" (Paradigm) – أو التفكير "خارج الصندوق" كما يُطلق عليه أحياناً- وهو أول مفهوم/ مصطلح سنتناوله في الحلقة (2) من هذا المسار.

فإلى اللقاء القريب،
أحمد الفهد