التفكير خارج الصندوق وداخله
(Paradigm Thinking)

كم مليون شخص شاهدوا تفاحة أو ثمرة تسقط عن الشجرة؟
وكم واحداً منهم تساءل عن سبب سقوطها للأسفل؟
واحد فقط... هو إسحاق نيوتن تساءل: لمَ لم "تسقط" التفاحة إلى الأعلى مثلاً؟
كيف خطر هذا السؤال العجيب لنيوتن ولم يخطر للملايين غيره؟
يرى العلماء أن الإجابة عن هذا السؤال تكمن في فهم دور ما يدعى البارادايم (Paradigm) في طرق تفكيرنا. كتبت في ترجمة واستخدام هذا المصطلح ما تيسر لي توضيحه على هذا الرابط بعنوان ما وراء الترجمة (2):

http://www.wata.cc/forums/showthread...171#post488171

وأميل شخصياً إلى ترجمة كلمة البارادايم بـ "النموذج المعياري" أو "النمط السائد".
كيف تنشأ النماذج المعيارية في أدمغتنا؟
إن تجربتنا في الحياة -أي مشاهداتنا ومعلوماتنا وخبراتنا المختزنة في عقلنا- تعمل على تشكيل قوانين ومعادلات و "صيغ" أو "أنماط" أو "هيئات"أو "قوالب" للأشياء التي تشكل معرفتنا العامة بالكون الذي نعيش فيه وتفسر أحداثه ووقائعه. ما يحدث هو أن هذه "الصيغ" تعمل عمل الفلتر (المصفاة) حول أدمغتنا حيث تقوم باستقبال المعلومات الخام الواردة من العالم الخارجي ومن ثم ترشيحها وإرسال صافي تعديلها أو تصحيحها إلى الدماغ. تتم عملية الفلترة هذه بهدف إدخال معلومات "مُصحَحة الصياغة" بحيث لا يستغربها الدماغ ويفهمها فوراً.

لنفترض أن رجلاً عاش حياته في مجتمع بدائي لم ير أو يسمع بشيء اسمه طيران مطلقاً، يشاهد فجأة طائرة –إف-15 مثلاً- تمر فوقه بسرعة هائلة وتختفي في الأفق فإن المعلومات الواردة إلى دماغه عبر حواسه عن شكل الطائرة ستمر أولاً عبر الفلاتر إياها، فترفض هذه أية عناصر لا تتوافق مع معاييرها فتقوم بتقريب الصورة أو تعديلها إلى أقرب شيء يعتقد بوجوده عقل الرجل مثل نسر ضخم أو أي طائر خرافي معتبرة أن الفوارق التي لاحظتها حواس الرجل عما هو مألوف ما هي إلا خداع بصري وتهيؤات. إذن فإن هذه المعلومات التي أُرسلت للدماغ كانت مغلوطة وأن هذه الفلاتر التي مهمتها ترجمة المعلومات للدماغ تقوم بتضليله أحياناً. من الناحية المقابلة، أثبت غاليليو أن نظرية كوبرنيكوس صحيحة بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما كان سائداً رغم أن العكس تؤكده كل حواسنا المادية فنحن نرى الشمس تتحرك ونشعر بحرارتها نهاراً.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم ينخدع غاليليو بحركة الشمس الظاهرية مثلما انخدع الرجل البدائي بشكل الطائرة؟
والجواب، في الحقيقة، يكمن في أن المعلومات الخام على ما يبدو تذهب مباشرة إلى أدمغة البعض مثل غاليليو ولا تمر عبر الفلاتر مثل غالبية البشر. ويكاد يكون هذا هو الفرق الأول بين العالم أو العبقري والإنسان العادي.

إلغاء تأثير هذه الفلاتر أو النماذج المعيارية -أو تنحية دورها ووظيفتها- إذن هو كسر للطوق المفروض على طرق التفكير وبالتالي حدوث تغيير مهم في الحقائق والقوانين والأنماط التي ألفناها والتي تشكل بمجملها "النموذج المعياري" لرؤيتنا للكون وما فيه من حولنا؛ فيبدأ النموذج السائد بالانسحاب أو الاندثار المؤقت أو النهائي ويظهر النموذج الجديد محدثاً ثورة في الرؤية أو تحول جذري فيه. هذا التحول في النموذج المعياري هو ما يسمى بالإنجليزية (Paradigm Shift) أو التحول البارادايمي – إن أحببتم.
نحن في طور تحول في النماذج المعيارية؟
نحن نعيش على ما يبدو مرحلة من التحولات في النموذج المعياري "البارادايمي" على مختلف الأصعدة:
انظروا إلى الأزمة المالية العالمية مثلاً. هل هناك تهيؤ لحدوث انقلاب أو تغيير حاسم في النموذج العالمي السائد؟
وما هي التغييرات التي قد يحملها معه هذا التحول؟ أسئلة كثيرة ومثيرة بلا شك.

ولكن: كيف يحدث التغيير؟
دعني أسرد لكم هذه القصة التي سمعتها في ندوة عن التحسين المستمر حضرتها عام 1992 في المملكة السعودية، الظهران.
إذا سألتك عن اسم البلد الذي يخطر ببالك عندما تُذكر ساعات المعصم، فماذا ستقول؟
سويسرا على أغلب الظن.
ولكن إذا سألتك أين صنعت الساعة التي في معصمك، فإن الجواب سيكون بما يقارب اليقين ... اليابان.
الآن دعني أسألك التالي: أين صُنعت الساعة الرقمية أول مرة؟
أين؟ في اليابان؟
كلا يا سيدي! بل في سويسرا.
في أوائل السبعينات من القرن الماضي اخترع رجل سويسري الساعة الرقمية وعرض الفكرة على كبار صانعي الساعات في سويسرا بهدف بيع الفكرة. لكنهم جميعاً رفضوا الفكرة لسببين على الأقل:
(1) لأنها تخلو من كافة المعايير الكلاسيكية العريقة التي تتباهى بها الصناعة السويسرية كالعقارب وتفاصيل التصميم والشكل؛
(2) لأن الساعة بشكلها الشائع ونمطها المألوف آنذاك كانت ناجحة كل النجاح، فلم التغيير الصارخ؟
ومع ذلك عرض الرجل فكرته المبتكرة (الساعة الرقمية) في أحد المعارض الدولية للساعات حيث لم يلتفت إليه أحد إلا فضوليان جاءا إلى أقدارهما من اليابان ... فاشتريا براءة الاختراع. واكتسحت بعدها الساعات الرقمية اليابانية السوق العالمية اكتساحاً لا يُصدق وتلقت صناعة الساعات السويسرية العريقة ضربة مدمرة كان من أهم نتائجها تخفيض القوة العاملة فيها إلى نصف ما كانت عليه أواخر الستينات.

ما الذي يحدث بالضبط؟
ربما يكون النموذج السائد ناجحاً وقوياً، لكن نجاح اليوم ليس هو الضمانة الأكيدة لنجاح الغد، فحكايات الانهيار والسقوط المدوي والمؤثر عند كبريات الشركات والبنوك والدول في التاريخ القديم والمعاصر عديدة. وربما تكون كلها انطوت على شكل ما من أشكال التحول في النموذج المعياري المهيمن.
يقع حدث ما ملفت أو مدوي يظن الناس معه أن لحظة التغيير قد حانت وأن ساعة الجديد قد دقت. ولكن قبل ذلك بوقت قد يقصر أو يطول، تكون المليمترات الأولى للانحراف عن سكة النموذج الثابت قد وقعت دون أن يلحظها إلا قلائل ممن هم على رأس هرم النجاح والهيمنة وقد لا يلتفتون إليها فيجدون أنفسهم بعد وقت على مفترق طرق: إما التكيف أو الزوال التدريجي... وهما أمران أحلاهما مرّ عندما تكون قابعاً في القمة.
على المستوى العلمي، يقول توماس كونز، وهو مبتكر هذا المصطلح في دراسته لتاريخ الثورات العلمية، إن التحول في النموذج المعياري –أي الثورة العلمية- يحدث عندما يبدأ العلماء بمواجهة أمور يتعذر على النموذج المتعارف عليه تفسيرها وبالتالي يبدأ التطور العلمي بالتحرك من تلك النقطة فتتوالى الثورات العلمية في مجال ما حتى يصبح متقدماً للغاية أو مستقراً نوعاً ما. ويُشبَّه التفكير ضمن نطاق أو إطار النظريات العلمية المتعارف عليه "بالتفكير داخل الصندوق" أما الثورات العلمية فتحدث من خلال عملية التعليل التي "تفكر خارج الصندوق" كما فعل نيوتن ومن بعده آينشتاين "أبو النسبية".
هذه بعض الجوانب المتعلقة بمفهوم النموذج المعياري (أو البارادايم) على سبيل إلقاء بعض الضوء على المسألة التي أثارتها في الواقع في ذهني مسألة كيفية ترجمة المصطلح على مسار ما وراء الترجمة. هناك مقالات تشرح بنوع من التفصيل على الواكيبيديا، وهناك طبعاً كتاب توماس كونز (The Structure of Scientific Revolutions) لمن يريد التوسع في فهم النموذج المعياري العلمي وفلسفة الثورات العلمية.

مع أصدق التمنيات،
أحمد الفهد