استخدام الكلاب في الحروب

الكلاب أشهر الحيوانات الأليفة نباهة وأمانة ومن أنفعها للإنسان. قال العالم الشهير البارون كوفيه عندما اقترح توظيف الكلاب في خدمة الإنسان: "إن تدجين هذا الحيوان وتدريبه أعظم انتصار توفق إليه الإنسان في أول عمرانه".

والكلب من أقدم الحيوانات مصاحبة للإنسان وأوسعها انتشاراً على وجه البسيطة وأكثرها فروعاً (فصائل) وتباينات. فهو أليف الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ. ولم يستطع علماء الحيوان إدراك أصله قبل تدجينه، وإن كان بعضهم يظنه من سلالة الذئاب وآخرون يذهبون إله أنه من بنات آوى. وظن آخرون أنه متسلسل عن أصل انقرض قبل التاريخ.

وقد عني الإنسان بتربية الكلاب واستيلادها وانتخاب أنواعها حتى تكاثرت أصنافها وتفرعاتها واكتسبت من عِشرة الإنسان كثيراً من عاداته وأخلاقه كالحب والبغض والغضب والحسد والغيرة والحزن والحياء والإتعاظ. أو لعلها تولـّدت فيها بتوالي التربية وتأثير البيئة...

والكلاب أنواع كثيرة تناهز 189 نوعاً أو تنوّعاً بحسب المصطلح العلمي، ترجع إلى ستة مجاميع كبرى باعتبار أشكال آذانها،، مما لا يدخل في بحثنا الآن وإنما غرضنا النظر في الكلاب واستخدامها في الحروب.

لم يغفل الإنسان عن ويلات الحرب ومصائبها، فلما لم يرَ سبيلاً من إزالة الحرب اشتغل في تخفيف ويلاتها. ومن أفظع ويلات الحرب بقاء جريح في ساحة القتال حتى يموت بين جثث رفاقه الموتى لعجزه عن النهوض بسبب كسر في رجله أو لعلةٍ أخرى، ولم يتمكن الباحثون عن الجرحى من الإهتداء إلى مكانه لضعف صوته أو اختفائه وراء صخر أو وقوعه في حفرة أو غابة.

في القسم الطبي في الجيوش أفراد متخصصون في التفتيش عن الجرحى بعد الفراغ من القتال، ويغلب أن يكون ذلك في آخر النهار. فيحملون المصابيح ويطوفون بين القتلى، يتفرّسون ويتسمعون وقد أنهكهم احتراب النهار، فإن رأوا جثة تتحرك أو سمعوا نداءً أو أنيناً حملوا صاحبه على حمّالات معدة لذلك وأسرعوا في معالجته.

لكن كثيرين من الجرحى لا تـُسمع أصواتهم لعلةٍ أصابتهم في أثناء المعركة في أعضاء الصوت أو لضعفٍ استولى عليهم من نزيف شديد أو لاختفائهم في واد سقطوا فيه أو نحو ذلك. هؤلاء يذهبون ضياعاً وتدوّن أسماؤهم في قائمة المفقودين إلا إذا استـُخدمت الكلاب في البحث عنهم، فإنها تهتدي إليهم وتدلّ عليهم.

استخدام الكلاب في إنقاذ البشر من مثل هذه الأخطار كان معروفاً من قبل، واشتهر من عُني في استخدامها لهذه الغاية دير القديس برنارد في سويسرا St. Bernard Monastery. فإن كلابه مشهورة في إنقاذ الذين يجمّدهم البرد الزمهرير في جبال الألب.

أما استخدامها في الحروب فهو قديم جداً يتصل بأقدم أزمنة التاريخ. فاليونان استخدموها في حصار طروادة، والفرس اصطحبوها في فتح مصر. وذكر بلوطارخس أن جيسلاوس ملك إسبارطة استخدم الكلاب في حربه مع الثيبيين أثناء حصار منتينا وأن فليب المقدوني كان يحرس معسكره فرقة من الكلاب.

وذكر مؤرخو الدولة الرومانية أن قبائل التيوتون Totonic كانت تستخدم الكلاب في الحرب وتجعل على أبدانها دروعاً وفي أعناقها أطواقاً مصفحة بالحديد. وكان للغاليين كلاب حربية خاف الرومانيون فتكها. ذكروا أن بتوبيوس ملك الغاليين أرسل إلى معسكر الرومانيين سفيراً يحتج على تقدمهم في بلاد الغال، وكان السفير المشار إليه طويل القامة في عنقه طوق وفي معصميه أساور من الذهب ومعه كاهن من كهنة الدرويد Druids ينشد أناشيد القبيلة، تحفّ به فرقة من الكلاب الكبيرة تسير سيراً منتظماً كأنها من فرق الجند. فما لبث الرومانيون أن اقتبسوا تدريب الكلاب على الحراسة في القلاع أو على الأسوار، وظل ذلك جارياً في المملكة الرومانية حتى الأجيال الوسطى.

وكانوا يستخدمون الكلاب في الهجوم على فرق الفرسان فيجعلون حول رقابها أطواقاً مصفحة وشفرات حادة بارزة منها إلى الجانبيين تصيب قوائم الخيل في أثناء المعركة فتعرقلها أو تجفلها، فتشوش النظام على فرسانها.

وكثيراً ما كانوا يجعلون على دروع الكلاب مشاعل متقدمة ويرسلونها إلى معسكر الأعداء لإحراقه.
وكذلك في عهد التمدن الحديث فإن كولمبوس استخدم الكلاب في محاربة هنود أمريكا في بداية افتتاح القارة، وكان جنده مؤلفاً من 300 من المشاة و 20 فارساً و20 كلباً. وكان للكلاب نفع جزيل في تلك الحروب حتى أمر ملك الأسبان أن تصرف لها الرواتب مثل سائر الجند.

وفي الحرب بين فرنسا وأسبانيا سنة 1522 بعث هنري الثامن ملك إنكلترا يومئذ إلى ابن أخيه شارل الخامس ملك أسبانيا مَدداً عسكرياً من 40 ألف مقاتل وأربعة آلاف كلب حربي. وذكروا أن نابليون بونابرت قبل معركة أبي قير ببضعة أيام كتب إلى (مرمون) أن يجمع كلاب الإسكندرية ويربطها خارج الحصون عن بعد لكي تنبه الحامية بنباحها إذا داهمهم العدو ليلاً.

وفي واقعة أوسترليتس الشهيرة سنة 1805 بين فرنسا والقوات المتحدة من الروس والنمساويين أنقذ الكلب (موستاش) العلم الفرنسي من النمساويين فقلده المارشال يومئذٍ وسام الشرف.

واتخذ الفرنسيون عدداً من الكلاب في أثناء حروبهم في الجزائر لحراسة المعسكرات، تعلموا ذلك من قبائل البربر هناك. وكان الأتراك العثمانيون يستخدمون الكلاب للإستكشاف في القرن السابع عشر ثم استخدموها في حروبهم مع اليونان. والروس استخدموا الكلاب في حربهم العثمانية سنة 1877 وفي حربهم النمساوية سنة 1882، والهولنديون استعانوا بالكلاب على الحراسة في جاوة وغيرها من الجزر الإندونيسية.

على أن الكلاب لا تـُستخدم للقتال الآن إلا نادراً وإنما يدرّبونها على الحراسة أو التجسس دفعاً لمباغتة الأعداء أو لحراسة الأمتعة أو لحمل الرسائل.

أما استخدامها في القسم الطبي من الجيش فهو حديثٌ نسبياً ويرجع أصله إلى الإقتداء بكلاب دير القديس برنارد في جبال الأب. إذ تشكلت سنة 1893 في ألمانيا جمعية صحية هدفها تدريب الكلاب في البحث عن الجرحى وإعانتهم في حمل العلاجات الأولية إليهم في ساحة المعركة، فألحق الألمان بكل سرية من سرايا جندهم كلبين ونشروا التعليمات اللازمة لاستخدامها وفائدتها، لا سيما في مساعدة الخفراء في المراكز البعيدة لنقل الأخبار إلى قلب الجيش، ثم درّبوها على اكتشاف الجرحى.

وفي سنة 1899 أجرت جمعية تدريب الكلاب لخدمة الجيش الألمان تجارب رسمية في كوبلنز وإليكم ما ذكره شاهد عيان، قال:

"أتوا بأربعة من هذه الكلاب في الليل بعد أن أعدّوا 200 جندي، فرّقوهم في الشعاب والأودية قرب كوبلنز على أساس أنهم جرحى الحرب، واستقدموا 500 جندي من حَمَلة الألواح التي ينقل عليها المرضى (النقالات). أخرجوهم ومعهم المشاعل والمصابيح كما لو كانوا خارجين من ساحة القتال يفتشون عن الجرحى. ثم أطلقوا الكلاب للتفتيش، فذهب اثنان إلى اليمين واثنان إلى اليسار، وخلال فترة قصيرة اكتشفوا كل الذين كانوا مختبئين في تلك المسالك الوعرة بين التلال والأشجار المتشابكة بدون مشاعل أو مصابيح."

كان لخبر هذه التجربة رنة ودويّ في أنحاء أوربا، واشتهرت جمعية تدريب الكلاب المشار إليها. ولما نشبت الحرب بين روسيا واليابان أخيراً بعث إليها المتحاربون يشترون من كلابها لهذا الغرض فنفد ما كان عندها.

أما في إيطاليا فتربية الكلاب لهذا الغرض يهتم بها الجيش نفسه فيدربون الكلاب على الطريقة الألمانية المتقدم ذكرها. وقد أجروا عدة تجارب تحققوا فيها من نجاحهم. ومن جملة ذلك تجربة جعلوا فيها على أعناق الكلاب أطواقاً علـّقوا فيها مصابيح تجمع النور وتعكسه نحو الأمام مثل مصابيح الدراجات الهوائية ونحوها، فضلاً عن صناديق صغيرة فيها بعض المنبهات أو العقاقير المنعشة يستخدمها الجريح مؤقتاً ريثما يدركه الطبيب.

وجعلوا هذه التجربة في أرض وعرة مساحتها 600 متر مربع فرّقوا فيها عشرة عساكر كجرحى، خبأوهم بين الأدغال والصخور ووراء الجدران وجذوع الأشجار وفي الخنادق ونحوها. ثم أطلقوا أربعة كلاب فأخذت في البحث والتنقيب فلم تغادر ثقباً ولا حفرة إلا فتشت فيه وكانوا قد دربوا إثنين منها على العودة إلى المعسكر حالما يجدان الجريح واثنان دربوهما على البقاء عند الجريح ينبحان حتى يأتي أصحاب الحمّالات لحمله. وكانوا يظنون الطريقة الأولى أنفع في النهار والثانية في الليل. فارتأى الكابتن شوتولا أحد ضباط الجيش أن يجمع بين الطريقتين فيعلـّم الكلاب إذا عثرت على جريح أن تسرع إلى أقرب مكان مطروق وتأخذ في النباح حتى يأتي الجند لإسعافه.

ومن النتائج التي ظهرت بهذه التجارب أن كلباً عثر على جريحين متجاورين فأخذ يعدو من الواحد إلى الآخر وينبح نباحاً شديداً، وقد تحقق الإيطاليون أن طريقة شوتولا أحسن ما وصلوا إليه من طرق تدريب الكلاب لإنقاذ الجرحى.

أما روسيا فقد كانت في حاجة إلى هذه الخدمة في أثناء حربها مع اليابان فاستحضرت ثلاثة كلاب من ألمانيا بإيعاز من الإمبراطورة ألكسندرة وأرسلتها إلى كوروباتكن في ساحة الحرب لاستخدامها في القسم الطبي. تم تجريبها فكانت النتائج حسنة رغم ما عرقل سعيها من الثلوج والأمطار والضباب فضلا عن الظلام. فقد اكتشفت تلك الكلاب الجرحى وعادت إلى المستشفى فرافقها حمَلة الألواح وأتوا بالجرحى.

ومن أغرب ما وقفوا عليه من نتيجة تلك التجارب أن الكلاب كانت تميّز بين الجريح الروسي والياباني فلا تنبّه إلا على جرحى الروس. إما إن عثرت على جريح ياباني فلم تكن تكترث به!

أما الفرنسيون – كالإنكليز - لم يهتم جيشهم باستخدام الكلاب لهذا الغرض ولكن بعض أفراد الجيش يشتغلون بذلك وقد يصطحب بعض الضباط كلاباً مدرّبة لكنهم يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم دون علم الحكومة، وهكذا الحال في النمسا.

فاستخدام الكلاب في اكتشاف الجرحى أو الخفارة على هذا النمط لا يزال حديثاً ولم تعتمده رسمياً إلا بعض الدول لكنه سيشيع في سائرها لما ظهر من نتائجه الحسنة.

دفن الميّت قبل أن يموت

كثيراً ما نسمع عن أناس دُفنوا وفيهم رمقٌ، وأهلهم يحسبونهم ماتوا، ثم يعلمون عَرَضاً أنهم أفاقوا وهم في اللحد وحاولوا الخروج فامتنع عليهم، وصاحوا وليس من يسمعهم، فماتوا قهراً.

تكاثرت هذه الحوادث حتى تألفت في انكلترا جمعية غرضها الرئيسي تجنب مثل هذه المصائب بفحص الأموات قبل دفنهم، فوفقوا إلى كشف كثير من هذه الحوادث.

وكتب الدكتور هوكر سكرتير هذه الجمعية مقالة في هذا الموضوع بيّن فيها أهمية فحص الموتى قبل حملهم إلى المدافن، ولا سيما الذين يموتون من الجروح في ساحة القتال، إذ يجتمع ألوف من جثث القتلى قد يكون بينها مئات من الجرحى الذين لم يموتوا وإنما غاب وعيهم من نزيف شديد أو صدمة قوية فيحملونهم في جملة القتلى.

على إن إحصاء الموتي الذين يدفنون وهم أحياء لا يمكن معرفته إلا بنبش القبور وملاحظة ما أصاب أهلها بعد دفنهم، مما لا يتيسر لأحد. وذكر الدكتور هوكر حوادث كثيرة من هذا القبيل يشيب لذكرها الولدان.

من ذلك أن جماعة كانوا ذاهبين بجنازة في رادستوك بإنكلترا Radstock على بعد 12 ميلا من باث Bath فسمع حاملو التابوت أنيناً في داخله لكنهم لم يجسروا على فتحه بغير إذن شرعي، ولم يتمكنوا من ذلك إلا في اليوم التالي ففتحوا التابوت وإذا بالأكفان قد تغيّر وضعها وتمزّق بعضها مما يدلّ على أن ذلك المسكين جاهد في التخلص من سجنه فلم يستطع فمات خنقاً.

وذكر حادثة أخرى جرت في دوسار في 13 مايو من (هذا) العام 1905 نقلها عن جريدة الستار، قال أن امرأة ظنها أهلها ميتة فدفنوها فاتفق أن صاحب المقبرة (الحانوتي) كان يشتغل تلك الليلة بقرب ذلك القبر فسمع قرعاً داخل التابوت فارتعدت فرائصه ودعا رجلاً كان مارّاً بجانبه فسمع القرع مثله فذهب الإثنان لينبئوا الحكومة.

في أثناء ذلك سمع خوري المحلة بما جرى فأسرع إلى المقبرة وسمع القرع لكنه لم يقدر على فتح التابوت بغير إذن الحكومة، وخاف من الجهة الأخرى على فوات الفرصة لإنقاذ ذلك الميّت الحيّ فأسرع إلى آلة وثقب بها التابوت ثقوباً يدخل منها الهواء.

وفي صباح اليوم التالي أتموا كل الإجراءات القانونية وفتحوا التابوت فوجدوا المرأة ميتة. وبالكشف الطبي تحققوا أنها ماتت منذ خمس ساعات أو ست فقط، كأنها أفاقت ولما أبطأوا في إنقاذها ماتت خنقاً، وأنهم لو أسرعوا في فتح التابوت حالما سمعوا قرعها لنجت من الموت.

وذكروا فتاة من أهالي اكرنتون في انكلترا ظنها أهلها ماتت فأخذوا يندبونها وأعدّوا لها كل ما يلزم لتشييع جنازتها، وبينما هم يحملونها إلى التابوت أفاقت من غيبوبتها، وأمثال هذه الحوادث كثيرة تستدعي انتباه الناس إلى هذا الموضوع الخطير.

وقانا الله وإياكم من هذه الأحداث والسلام عليكم


المصدر: مجلة الهلال 1 نوفمبر (تشرين ثاني) 1905

الإعداد بتصرف: محمود عباس مسعود