يعود الجميع محملين بسلاّت ممتلئة بالخضار و الفاكهة و اللحم وما تتطلبه الحياة من حاجات المعيشة ، يعود هو بكتب فرحا مغمورا يفيض محياه سعادة فهو يمشي في الأسواق بحثا عن كتاب ، حين ينهمك الناس في التحديق و اشتهاء المعروضات و تقليبها و تصفحها ، على عارضات المحلات سلع من ألبسة و أحذية مستوردة ، جواهر و حلي ، مواعين المطبخ و أثاث البيوت معروضة تصر الناظرين ، يتنقل هو بين شوارع المدينة يا لهف نفسه يفتش عن مكتبة بها كتب ، لا توجد هنا مكتبات إنما ورّاقات تبيع التبغ و الجرائد و مساحيق التجميل ، أدوات مدرسية أقراص مرنة دينية و غنائية ، هواتف نقّالة بكل أنواعها ، يسعى هو في كل المدينة فلا يكاد يجد كتابا مثيرا إنما يلقى كتبا تجارية لمقرر مراحل الثانوية ، كتب للطبخ ، كتب كيف تحافظ على جمالك و أخرى للرقى الشرعية ، البلد يقاس بمستوى ثقافة مواطنيه ، يسخر من نفسه ــ كذبة ـ سمع كلمة أتته من الخلف كسهم " مخبول " سمع أيضا " بهلوان بليد يفني عمره في قراءة الكتب هل أخترع نظرية ؟ هل أصعد صاروخا للفضاء هل ارتقى للسماء هل غيّر في الحياة شيء ؟ " هو لم يكن ليقول لهم أنه بشر يأكل الطعام
و يبيع و يتاجر في الأسواق.
تعاتبه أمه في البيت " القراءة و الكتابة بدون مال مذهبة للوقت و مضيعة للجهد، ما فائدة أن يقرأك الناس وتحرم أنت حق الحياة ؟ " مسكينة قلبها على ولدها و قلبه هو على كتاب، الطريق السليم ليس من هنا بلا شك ! سمع أو لنقل استرق السمع أو السمع هو الذي استرقه في حديث إخوته " يا أسفاه على ضياع ما يكسبه من أجر في شراء الكتب و دفعه لفواتير النت " لكن هو يحب الكتاب ، إذا أحب إنسانا أهداه كتابا ، إذا سافر يقرا كتابا ، في السيارة ينظر في كتاب ، إذا مشى في الطريق يرتطم تارة بأعمدة الكهرباء و تارة بالأشخاص ، يعتذر و يمضي يوسعونه شتما و هو يقرأ كتاب ، إذا تناول طعاما راجع في ذهنه كتابا يتيه فينسى ما يأكل ، حتى لما أعجب بفتاة تودد إليها و شد انتباهها ، هي كانت تنتظر منه غزلا ووصفا للعيون
و طلبا للود بعبارات التحبب و الشاعرية ، لكنه راح يكلمها عن كذا كتاب، في منامه أحلامه كلها معلّقة بشخصيات ، أحداث شراء إهداء تقديم تبويب عرض فصول لكتاب ، الناس أنانيون يمنعون الآخرين من مشاركتهم ما يملكون إلا هو يحب أن يشاركوه ما يملك يسلّف كتبه يعطيها لمن هو بحاجة إليها ، لا يمنعها على أحد لأنه كتبها أحيانا كثيرة بخط يده هي جامعته ، يتعاطف معه أصدقائه فلا يهدونه كتابا ، في المسجد ، النزهة على شاطئ البحر أو الغابة أي مكان يحلّ به معه كتاب ، يأمل في أن يطبع له كتاب من بين ما ألـّف من كتب ، ذكرياته : ضربة على الرأس بكتاب ضخم من أستاذه موبخا له ، يذكر في صباه كيف كانت جدته تعلّق على صدره تميمة كتاب لتبعد المرض و الحسد و الحظ المشئوم ، كان يسمع نقاشات الكبار في حلقات جدالهم في المساجد "ما نقول موجود في الكتاب " يسمع اللعنات من أعواد المنابر على أهل الكتاب خاف ذاك اليوم لأن فهمه كان قاصرا ظن أنه ملعون هو أيضا ، لما كبر أدرك أن أهل الكتاب من جنسه ملعونون
و سمع على الفضائيات حوارا عن التطبيع .
كان قد رأى كتابا ذهبيا ممسوكا بدبوس على روب ابنة أخته لما سأل قيل له الكتاب يبعد الأشباح المزعجة التي تأتي الأطفال في منامهم ، تساءل هو في نفسه عن ملايير الكتب المكدسة في الأنفاق طعام الفئران و الحشرات ، لم يرد أن يحيي الخوف في قلب أخته أن الأشباح الحقيقة تطارد من يحمل الكتاب ، يذكر يوم تشاجر مع بائع الخضار حين أبتاعه كيلوغرام من البرتقال و لف له البرتقالات في صفحات كتاب حين و قع بصره على اسم يقرأ له كثيرا سحب الصفحة تساقطت البرتقالات لم يأبه هو بما حدث راح يقرأ الصفحات حينها أحمّر وجه البقال امتلأ غيضا ، أنتفخ ، ازدرده ، لم ينفجر فقد أمسك برأسه و قبّله ، أشترى عليه صفحات الكتاب و أرجع له البرتقال لا يملك نقودا كافية ، البقال أعتبرها إهانة ، شتمه في ظهره ، لكنه شكره و مضى يقرا الصفحات يتذكر شيئا واحدا يؤلمه يخفيه بين رفوف ذاكرته ، أحب في صغره قصة ملونة لم يشتريها له والده لسبب الفقر لا غير ، كان يبكي وحيدا لأنه أحب قصة و يعاقب عليها أيضا ، القصة التي أدبته معلمته عليها لم يحضرها كباقي التلاميذ ، تمسكه من شدقيه تكاد تنزعهما له صباحا مساءا ، توسعه ضربا على وجنتيه الورديتين وعلى قفاه دموعه المخضبة لا تشفع له ، قلبها حجر صوان ، زنك غرانيت ، تعاقبه على قدر لم يصنعه هو ، تركت القصة الملونة آثارها على حياته لما كتب أول قصة كتبها عن طفل يصنع الألوان يحبها و عن معلمة تصنع ألوان الكبت و العقد لا يحبها ، لو قدر للقصة الملونة بمعجزة الكلام لأتت المعلمة معاتبة على فعلها المشين و كل شبيهاتها من معلمات ومعلمين، ترك سؤالا أين الرسول ؟ .
هو يحب من يحمل كتاب و خاصة أنه راشد و يمجد الذاكرة كما مجد ذكرياته ، لذا أحتـّج ذاك اليوم على الكتاب الرخامي الكبير الموضوع بوسط المدينة المنقوشة عليه أسماء الشهداء ، تركوه لعبة للأطفال يتزحلقون عليه يتواعد العشاق وتتبول الكلاب تحته ، لقد تدارسوا انتقاداته التي راح يحافظ بها على عذرية الذاكرة لكنهم اعتبروها زرعا للشك و البلبلة في أوساط المجتمع المدني ، بعدما افتتحوا جلستهم بقراءة آيات من الكتاب الحكيم صادقوا على تغيير الكتاب الرخامي الكبير إلى ساحة محروسة ، دوّنوا في كتاب المداولات و المراسلات القلقلة التي أختلقها و صنعها ليتاجر بالتاريخ، زايدوا عليه في الوطنية تباهوا بصفحات بطولاتهم و تاريخ كفاحهم هو لم يقرأ صفحاتهم في كتاب التاريخ بل قرأ عن بطولات رجال قضوا نحبهم و قرأ شواهد حمودة بن الساعي عن مدونات رجل عان الكثير دفنوها، تاريخ دفن في قبر قلوبنا .
مولوع هو بالكتاب و حكاياته مع الكتاب لا تنتهي ، ضحك ذاك اليوم فأفسد رهبانية المكان لقد حضر فاتحة خطوبة أحد جيرانه ، سمع من أهل العروسة استفسارا قدم لجاره وجاره لا يقرأ و لا يكتب " متى تكتب الكتاب؟" جاره متسرعا في كتب كتابه على الجسد .
لأن شغله الشاغل الكتاب صاروا ينصبون له الفخاخ ، فشل ذريع ، لا يعرفون ما يحب قراءته ميولا ته الفكرية متعددة و كثيرة ، فشلت جهود الأحزاب و المنظمات في تدجينه ، ببساطة يحب قراءة الكتاب الذي يريده هو لا الذي تفرضه السياسة ، يترحم هو دائما على الكُتاب الشهداء
و الأحرار الذين قتلتهم الكتب، أحبوها فأحبتهم ومن الحب ما قتل ذاك الزرع و ذاك الحصاد وهذا لا يخيفه فلكل اجل كتاب.