المعري عروضياً.. هل كان ينتمي إلى مدرسة الجوهري؟

في إحدى لزومياته التي حمّلها أفكاره الفلسفية، شاء المعري أن يجمع إلى تلك الأفكار فكرا عروضيا يمكن أن يشكل للباحث المدقق مادة للتأمل في المصادر التي استقى منها هذا الفكر، وتأثرفيه بأصحابه الذين بدا لي أن الجوهري، صاحب الصحاح، لا بد أن يكون أحدهم. قال المعري في هذه اللزومية التي لا تتجاوز عدتها الثلاثة أبيات :
غَـدا النـاسُ كلّـُهمُ فـي أذىً=فزُجَّ حَيـاتكَ فيـمن يُزَجّ
ولا تطلبنَّ اللبابَ الصريحَ=فقد سيطَ عالُمنا وامتزَجْ
ألـم تَرَ أنّ طـويلَ القريضِ=مـن مـُتقارِبـه والـهَـزَجْ
ولم أجد في أي من كتب المعري ذكرا للجوهري، ولكن ورد في "الفصول والغايات" قوله: " والثَدّ مثل الثَطّ ذكره أبو نصر في خلق الإنسان". ومع ذلك وجدت الدكتور محمد طاهر الحمصي يشير في كتابه "مذاهب أبي العلاء في اللغة وعلومها" إلى أن أبا نصر هذا هو الجوهري، وهو ما لم أستطع تقبله لا سيما وقد انشغلت ردحا من الزمن في تحقيقي لكتاب القوافي للجوهري ولم أكف في أثناء ذلك عن مداومة البحث والتنقيرمقلّبا المصادر بحثاً عن أسماء لكتب أخرى ألفها الجوهري غير الصحاح وعروض الورقة ومقدمة في النحو. فكيف ساغ للحمصي أن يعتبر أن المقصود بهذه الكنية هو الجوهري، وهي كنية يشترك فيها معظم الناس. ومن أي المصادر جاءنا بتأكيده على أن له كتاب"خلق الإنسان" في الوقت الذي لا يكاد يخلو فيه ثبت لمؤلفات أحد العلماء من أن يكون بينها كتاب بهذا الاسم. وكتاب الحمصي هذا هو في الأصل رسالة ماجستير أشرف عليها الدكتور شاكر الفحام ونوّه في مقدمتها برعاية الأستاذ العلامة أحمد راتب النفاخ، رحمه الله، أثناء تأديته لهذا البحث، فكيف استطاع أن يمرّر لهما هذه المعلومة من غير توثيق من أي من المصادر التي رجع إليها يذكر. لن يشفي نفسي في إزالة هذا اللبس وكشف ذلك الغموض إلا ما أتوقعه من أريحية أستاذي الدكتور مروان الظفيري واستعداده الذي خبرته في مثل هذه الأمور التي ُينتَخى فيها فلا يقصّر ولا يتواني عن التقصي، وقد يسهل الأمر أن يكون له صلة ما بالدكتور محمد الحمصي فيستفهم الأمر منه .
ولنعد إلى حديثنا عن أثر الجوهري في الفكر العروضي لأبي العلاء، وهنا لن يهمني أن يكون المعري قد قرأ كتاب خلق الإنسان المنسوب للجوهري أو لم يقرأه ، فقد بتّ على يقين من أنه قرأ كتاب عروض الورقة للجوهري وتعرف إلى مذهبه الذي قال عنه ابن رشيق: "وإلى مذهبه يذهب حذاق أهل الوقت وأرباب الصناعة". وأنّى لنا أن نجد أحذق من المعري في ذلك الوقت الذي عاش فيه ابن رشيق وكان معاصراً لهذين العلمين معا.
وأما ما وجدناه جاء في كتاب "عروض الورقة" ورجحنا أن يكون المعري قد اطلع عليه وتأثر به، وإن لم يصرح بذلك، فهو قول الجوهري:
" وأما الأبواب فاثنا عشر، سبعة منها مفردات، وخمسة مركّبات. فأولها المُتقارِب، ثم الهَزَج، والطويل بينهما مركّب منهما. ثم بعد الهزج الرَمَل، والمُضارِع بينهما. ثم بعد الرمل الرَجَز، فالخفيف بينهما. ثم بعد الرجز المُتدارَك، والبسيط بينهما. ثم بعد المتدارك المديد، مركّب منه ومن الرمل. ثم الوافِر، والكامِل. ولم يتركّب بينهما بحر، لما فيهما من الفاصلة".
فالجوهري هنا يضع أساسا جديدا لتصنيف البحور غير الأساس الذي وضعه الخليل، وهو نظام الدوائر. وفي هذا النظام الذي وضعه الخليل بدا لكثير من الناس، والمعري أحدهم، أن المقصود به اكتشاف قرب كثير من البحور التي تشترك في دائرة واحدة من بعضها البعض وتساويها جميعا في الأهمية . لذلك وجدنا المعري في إحدى لزومياته يقول:
إذا ابنـا أبٍ واحــــــدٍ أُلفـــَيا===جواداَ وعَيراً فلا تعجبِ
فإنّ الطويلَ نجيبَ القريضِ===أخوه المـديـدُ ولم ينـجبِ
وظلت هذه الفكرة ملحة عليه، فكرر عرضه لها في إحدى غاياته من كتاب "الفصول والغايات" قائلا : "ليس بعجيبٍ، فَسلٌ من ظهر نجيبٍ، إن المديد أخواه سيّدان، وكأنّه بعض العيدان، ما شئت من ضعفٍ وإنخناثٍ. غاية".
وفسر ذلك بقوله: ". والمديد والطويل والبسيط: تجمعهن دائرة واحدة. والبسيط والطويل ليس في الشعر أشرف منهما وزناً، وعليهما جمهور شعر العرب. وإذا اعترضت الديوان من دواوين الفحول كان أكثر ما فيه طويلاً وبسيطاً. والمديد وزن ضعيف لا يوجد في أكثر دواوين الفحول. والطبقة الأولى ليس في ديوان أحدٍ منهم مديد؛ أعنى امرأ القيس وزهيراً والنابغة والأعشى في بعض الروايات".
لذلك لم يكن عجيبا أن يتبنى المعري رأي الجوهري في تصنيفه للبحور ، وبذلك يكون في رأيي أول تلميذ للجوهري عرفناه ملتزما بمدرسته التي مازال أتباعها يزدادون منذ عشرة قرون وحتى اليوم.