لم يكن غريبا تصرّف الجيش التركي وتطرّفه في معاملة الواقع الجديد في تركيا والذي أبتدأت أولى نذره في صيف عام 2003 مع الفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية المعروف بجذوره الإسلاميّة ، لكن ما كان مستغربا بل ومستهجنا إالى حد الدهشة ، ولم يتوقعه حتى اشد غلاة العلمانيّة هو قلع قائد الجيش (يشار بويوكانيت) لبرقع السياسة والدبلوماسيّة والحياء جملة واحدة عند أمتناعه عن السلام على الرئيس التركي الجديد عبد الله غول ، بل ومقاطعته لتأدية القسم الرئاسي بمنطق مضحك بدى أقرب لما يصنعنه الحيزبونات من عجائز النساء وشرارهن ، حينها ظن البعض ان قائد الجيش وجنرالاته يريدون إيصال رسالة للرئيس ورئيس وزراءه مفادها أن الجيش بالمرصاد وعينه لا تغفل ولا تنام ، وأن ناصية الأمور وكثير من اوراق اللعبة ما زالت بين يديه ، لكن ما لبث أن انقلب هذا الظن الى أمنية لن يرقى إليها جنرالات العقليات المتحجّرة والنفوس الستالينيّة عندما أمتنعوا عن توجيه دعوة الى زوجتي غول وأردوغان لحضور احتفالات الجيش بمناسبة انتصاره على الجيش اليوناني عام 1922 وذلك بسبب ارتدائهن للحجاب ..!!
إن العقليات العلمانية المتبلـّدة في أساسها والتي لا تعمل إلا بمنطق إقصاء الآخر وفرض وجهة نظرها بالقوة إن لزم الأمر لن ترقى في يوم من الأيام الى مستوى المسؤولية ، وستبقى تعاني من المراهقة السياسية حتى وإن بلغت من العمر عتيّا ، ولن تقوم لها قائمة أو يحترمها إنسان او صاحب فكر سليم طالما بقيت تشن حروبها الصغيرة هنا وهناك ، بل وتفتح جبهات قتال ٍ كاملة وتكون فيها على أتم إستعداد لإراقة الدماء بل وتجريها انهارا في سبيل منع أرتداء حجاب هنا أو تأدية صلاة في مكان مفتوح هناك ، أو رفع آذان خارج نطاق مسجد حتى لو كان في قلب مفازة لا أنس فيها ولا جان ..!!
إن هذا الواقع المخزي في تركيا بات يسبب حرج عظيم لكبار سدنة ومنظـّري العلمانية والذين يعرفون من أين تؤكل الكتف ، بعد ان أعتقد الجيش أن وجهة نظره لن تتحقق إلا بالقوة وتناسى في غمرة ذلك التفكير الأخرق أن عصر الإنقلابات وفرض المنطق بقوة الحديد والنار قد ولـّى ولو مؤقتا ، وأن دخول الإتحاد الأوروبي بمنطق جيش يقود البلاد من وجهة نظر قاصرة وأفق اخرق ٍ ضيّق أبعد من الخيال وأمنع من المستحيل ، وهاهي صحيفة (( فاتان )) الشعبية التركيّة تقول بعد أن بات قائد الجيش يتعامل بهذا المنطق المتهتـّك : " لم يقم الشخص الذي هو القائد الأعلى للقوات المسلـّحة بالإحترام اللازم واللائق لمنصبه " وقالت الصحيفة : " نتفهم أن يتم التعامل مع عبد الله غول بشيء من الحذر ( لكننا) نأمل أن تصحح القوات المسلحة موقفها لمساعدة الرئيس في إثبات تمسّكه بالجمهوريّة العلمانية " ووجهت صحيفة أقسام العلمانية رسالة مماثلة وكتبت :" لا نتوقع أن يتأقلم الجنرالات مع هذا الوضع بين ليلة وضحاها لكن عليهم إعادة النظر في بعض المواقف ومعاملة الواقع بنضج أكبر " ومضت تقول " أتخذ عبد الله غول خطوات كافية ليفتح الباب أمام مصالحة بين مؤسسات الدولة " إنتهى كلام الصحيفة .
إن المعايش للواقع التركي ومعاناة الناس هناك وهمومهم اليومية يعرف بل ويجزم أن من أوصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي شئنا أم أبينا الى سدة الحكم في عام 2003 هو المواطن التركي العادي وربما العلماني نفسه بعد أن لمس بيديه إفلاس الأحزاب اليساريّة ومن وراءها القوميّة والعلمانيّة وأكتفاءها إذا ما استلمت زمام السلطة بشن الحروب على الإسلام والقيم الإسلاميّة العاديّة البسيطة والتي بأي حال لن تؤثر على علمانيّة الدولة ؛ ففي الوقت الذي كانت فيه حكومة (( بولنت أجاويد )) تشن حربا ضروسا على النائب (( مروة قاوقجي )) بسبب حجابها في أواخر القرن الماضي وتهدد بسحب جنسيتها بل وإيدعها السجن كانت الليرة التركيّة تنحدر وتنهار أمام الدولار بسرعة لم يتوقعها حتى أشد رجال الإقتصاد تمرّسا وحنكة ، وبات عهد الحكومات اليساريّة والعلمانيّة يتميّز بإرتفاع عدد المؤسسسات والبنوك التي تتعرض للإفلاس والسرقة في غمرة انشغال هذه الحكومات بشن حروبها على الإسلام والإسلاميّين والحجاب والصلاة وكل القيم الإسلامية التي يمارسها المسلم العادي وربما بحكم العادة لا أكثر ، وأتذكر حينها أننا كنا نـُمسي والدولار الأمريكي يعادل 100الف ليرة تركيّة ونصبح وهو يعادل 125 ألف ليرة وما أن ياتي مساء ذلك الصباح إلا والدولار تجاوز عتبة الــ 200ألف ليرة تركية وهكذا حتى بات المواطن البسيط لا يجد المال الذي يشتري به قوت يومه ، وبات من العادي جدا تمييز السائح والطالب المغترب من التركي عند الشراء ؛ فالتركي قد يكتفي بالتسعير وفي بعض الاحيان يشتري بالحبة أو الدين أو الجزء من الكيلو غرام وذلك لإنهيار سعر الليرة التركيّة وغلاء الأسعار وشح النقد في يد الناس .
إن كل ما فعله حزب العدالة والتنمية وعند استلامه لسدة الحكم هو إعادة الأمور الى نصابها والعمل الجاد بعيدا عن الشعارات الرنـّانة والكلام الذي لا يسمن ولا يغني حتى قائله ؛ فكان العمل والعمل الدؤوب ، و الإقتصاد التركي وصناعاته الثقيلة والخفيفة على حد ٍ سواء وكما يعلم الجميع بيد الإسلاميين ، وكان دورهم ان قاموا بتوجيه هذه الآلة باتجاهها الصحيح وبعيدا عن المصالح الآنيّة أو العمالة للغرب أو الشرق أو حتى للجيش وهذا ما كان يـُعرف به أصحاب اليسار أو اليمين على حد ٍ سواء ، وبالطبع فإن هذا الواقع الجديد لن يناسب الجيش والذي يتمتع بالسلطة الكاملة ويسيطر على كافة أمور الدولة ، ويعد الإنتساب اليه مفتاح للثروة والجاه والمال ، ومن هنا يتبين لنا أن دفاع الجيش عن العلمانيّة الأتاتوركيّة مردّها الاول والأخير مصالحهم الآنيّة ، وإن أنقطاع هذه السيطرة يهدد بإغلاق أنبوب المال المتدفـّق على سدنة العلمانيّة ومنظريها وهنا أقصد ما يسمى بالمجلس القومي التركي وهو من ثمانية أفراد ستة منهم من كبار قادة الجيش ويـُقال أنهم من أصول يهوديّة وهم من بيدهم ناصية البلاد والعباد بالكامل و طبعا بحماية الجيش ..!!
لقد إنكشف الوجه الحقيقي للعلمانيّة بعد أن حادت وأنحرفت عن مرتكزها الذي تأسست عليه أبان استعباد البابوات وتأليههم لأنفسهم وما ترسّب في الذهنيات من أيام الحروب الصليبيّة، وبان للجميع عورها وعـُوّارها ، وأيقن من كان لديه أدنى شك في عكس ذلك أنها لا تعدو كونها وجه آخر من وجوه محاربة الدين والأخلاق والدعوة للإنحلال لا أكثر ؛ فلا علاقة لنظرية فصل الدين عن الدولة التي يطبل ويزمر لها سدنة هذا المنطق الأعوج ، بل المنطق المعمول به والمطبّق صراحة في تركيا وبعض دول المغرب العربي وكثير من الدول الأوروبية هو حرب مفتوحة على كل القيم والعادات والأخلاق الحميدة عامة والإسلاميّة خاصّة من متوارث و مستمد من الشرائع والأعراف السماويّة ..!!
طــه خضــر ..
31/8/2007
المفضلات