قد يكون ما يؤطر مثل هذه الأشرطة وغيرها من الممارسات المستجدة بسبب ظهور عدد من وسائل التواصل الجديدة، هو أننا، مع انطلاق الثورة الرقمية، نشهد ما يُشبه إسقاطا حرفيا لمجموعة من المؤسسات من بروجها العاجية أو/و إزاحة منهجية للسياجات - إن صحَّ التعبير - التي ظلت تحصن بعضها منذ قرون طويلة، وبعضها الآخر على امتداد حياته القصيرة بحكم نشأته الحديثة. سيكون لهذا الإسقاط أثر كبير، بدون شك، على مضمون التواصل بالنظر للتلازم القائم بين هذا المحتوى وقنواته وأسندته(عندما سيغدو بإمكان أي كان ولوج مكان بث الصورة و«الخبر»، هذا المكان الذي ظل من اختصاص مؤسسات الإعلام، سينشر مادة «إعلامية» غير التي ينشرها الإعلاميون والمقيدة بقواعد مُحدَّدة):
- ثمة إسقاط للكتابة من بُرجها العاجي؛ من الآن فصاعدا كفت الكتابة عن أن تكون إنتاجا فريدا مقصورا على فئة معينة من الأشخاص، وما كان يتبع ذلك من نُدرة للنصوص المنشورة. كفت الكتابة عن ذلك لفائدة ما يمكن تسميته بـ «الكتابة باعتبارها ممارسة عامة ومعممة»، أي في متناول كل من تأتى له تعلم القراءة والكاتبة والنقر على لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب. ولفهم ما يجري قد يكون من المفيد:
• تتبع المسار الذي أخذته فكرة سقراط الداعية إلى إخراج المعرفة إلى المدينة وجعلها في متناول عامة الناس، وهو ما أوخذ عليه وكان من أسباب قلته في ما يبدو، من جهة،
• من جهة أخرى، تتبع المسار التاريخي لعلم العدد منذ أن وُجد إلى أيامنا هذه، لفهم سر طفوه مُجددا إلى السطح واجتياحه كافة أوجه حياتنا. فالثورة الرقمية، كما هو متضمن في اسمها، هي ثورة للرياضيات في المقام الأول؛
• البحث، من جهة ثالثة، في الصراع بين الفكر والعمل، بين النشاط الذهني والنشاط اليدوي، هذا الصراع الذي جرى تارة علنا وتارة ضمنا إلى أن وضعَنا أمام اليوم أمام هذه الحقيقة المتمثلة في تراجع التفكير النظري إلى الوراء، أو تهميشه بالأخرى، لفائدة الأنشطة ذات المردودية العملية الملموسة. والنتجية معروفة: انتهى عصر النظريات الكبرى والصروح الفلسفية.
ويترتب عن إسقاط الكتابة من برجها العاجي أمران على الأقل:
- الأول نهاية الأعلام الأدبية المتأصلة في نظرة للإبداع باعتباره ثمرة ترشيح جهة ما (غيبية) لأفراد محدَّدين لإنتاج ما لا يقوى الآخرون على إنتاجه، أي باعتباره تجليا للعبقرية. إذا صح تعريف بول فاليري للشعر بوصفه «نشاطا تصوريا صرفا اخترعه الحاذقون حبا بالفن، تاركين الأغبياء في وهمهم بأنهم يتواصلون مع أحد ما»، فما يجري أمام أعيننا اليوم، يدعو لطرح السؤال التالي لفهم ما يحدث بالضبط واستخلاص معناه: هذا الاقتحام الجماعي من لدن «أغبياء الأمس» لغرف الشعراء المغلقة الذي يجري الآن في الشبكة، هذل يعكس ولوجا إلى مكان النشاط التصوري الصرف أم يعني قلبا للتسمية؟
في الحالة الأولى، سنكون إزاء ظاهرة إيجابية ربما تؤشر على حياة طويلة لهذا الجنس الأدبي الذي يُدعى الشعر، باعتباره ميراثا اتصف بالنبل وحظي بالتقدير منذ كان نشاطا مقترنا بالعبادة إلى أيامناه هذه، سيكون بوسعنا الزعم بأن القدرة على كتابة الشعر التي ظلت مقصورة طيلة آلاف السنين على حفنة من الناس صارت الآن في متناول عدد كبير جدا من الناس، بفعل انتشار التعلم ودمقرطة الكتابة، الخ.، كما سيكون بوسعنا انتظار حياة طويلة لهذا الفن الكتابي الجميل. وفي الحالة الثانية، سنكون إزاء الأمر المحزن التالي، وهو: إذا كان من الضروري تقسيم الناس إلى «أغبياء» و«غير أغبياء»، بحسب قدرتهم أو عجزهم على مزاولة النشاطات التصورية الصرفة، فقد يكون «الأغبياء» اليوم هم أولئك الذين زاولوا هذا النشاط لآلاف السنين واعتزلوا الناس ولازموا أبراجا عاجية، متوهمين أنهم أفضل من الآخرين وأن ما ينتجونه ويكتبونه شيئا ذا قيمة عظيمة، والحال أنه لا يساوي «بصلة» أمام التبدلات التي بدأت تشهدها القيم الفنية وغيرها في أيامناه هذه. بعبارة أخرى، في هذه الحالة، سنكون إزاء احتمال لانقراض الكتابة الشعرية.
ثاني أمر يترتب عن إسقاط الكتابة من برجها العاجي هو نهاية الحدود بين الأصل والمخطوط في النصوص الفكرية والإبداعية.
قبل الرقمية، كان من المستحيل الاطلاع على مخطوط المؤلف ما لم يجتز «امتحان المطبعة» بنجاح؛ إذا لم يتأت لهذا المخطوط الخروج إلى حقل التنداول، لسبب أو لآخر، فإنه يظل ملازما رفوف خزانة صاحبه. اليوم، صار إظهار «المخطوط» للناس لا يكلف جهدا أكبر من الذي يتطلبه إرسال خطاب إلكتروني إلى أي نقطة في العالم، وفي لمح البصر. كبسة على زر وتصل الرسالة فورا. كبسة على زر ويُنشر النص في منتدى أو موقع إلكتروني أو مدونة. والنتيجة هي فقدان كلمة «مخطوط» نفسها لمعناها لأنها تحيل على شيء لم يعد موجودا عمليا في النشر الإلكتروني.

للكلام بقية
(محبتي)