السجن
ــــــــ
بعد لقاء أدبي في المركز الثقافي ومن خلال اهتمامي الشخصي وصلتي بمدير المركز شاركت في الحوار الذي جاء عقب اللقاء في مكان يلتف فيه ثلة من المثقفين في مقهى الربيع، وفي الثالثة صباحاً أوصلت أحد ضيوف اللقاء إلى الفندق.
أثناء عودتي كان رجال الشرطة قد أقاموا متاريسهم عند دوار زهرة البنفسج، تفحصني رجل الشرطة وآخر بملابس مدنية، وعندما هممت بالتجاوز سمعت نداء
يطالبني بالوقوف 00
فتح الرجل ذو الملابس المدنية الباب الخلفي وأخرج حقيبة يد من على المقعد الخلفي00
طلب فتحها. اعتذرت لأنها لا تخصني وإنما هي لرجل أوصلته الفندق غير أنه أصر على فتحها وقام بكسر القفل.
تم حجزي، وفي الصباح تمت إحالتي إلى السجن وبعد أشهر صدر حكم القاضي الشرعي بسجني عشر سنوات.
في السنة الأولى فصلت من وظيفتي كمعلم للغة الإنجليزية، وفى العام الثاني توفيت والدتي، وفيه طلبت زوجتي الطلاق بعد أن أنجبت ابننا الثاني.
وفي العام الثالث حرم أبي على إخواني ذكر اسمي في الدار، وتزوج أخي الأكبر زوجتي وبعد ذلك اختفت أخبار أسرتي.
لما تغير مدير السجن طلب المدير الجديد مني العمل في قسم الإرشاد ضمن
المدرسة التي فتحها لتدريس المسجونين، وحفظت أجزاء من القرآن الكريم.
في نهاية العام الثامن خرجت0لا أعرف أين أذهب مع شهادة إبراء ذمة وحسن سلوك من إدارة السجن ومبلغ من المال لقاء عملي وجائزة حفظ أجزاء من القرآن الكريم.
كانت الساعة الثانية بعد الظهر فضلت المشي فاخترقت شوارع الطائف، مررت بجوار المدرسة التي كنت أعمل بها، ودخلت السوق 00أكثر المحلات مغلقة ورائحة الآكل في المطاعم تشعرني بالجوع، ارتفع أذان العصر فدخلت لأداء الصلاة00
تناولت بعض الأكل وتجرعت كوباً من الشاي.
اتجهت إلى موقف السيارات، كنت أغادر الطائف في طريقي إلى جدة متذكرا البحر وأيام دراستي الجامعية.
بعد أسبوع زرت مدرسة تعليم قيادة السيارات، قدمت للمسئول عن المدرسة رخصتي الخاصة و المنتهية وشرحت أمري وحاجتي لرخصة قيادة عامة0 تعاطف معي، فكان أن اجتزت الاختبار وحصلت على الرخصة.
قمت بزيارة فرع البنك الذي يوجد لي حساب في أحد فروعه، ودخلت على المدير00 زودته برقم حسابي القديم فكان به ثلاثون ألف ريال وبعض الهللات وطلبت منه إضافة جزء مما حصلت عليه ونقل حسابي إلى الفرع حتى يكون قريباً مني.
استأجرت منزلا شعبيا في أحد الأحياء الفقيرة التي اختلطت جنسيات سكانها ثم اشتريت سيارة أجرة.
حصلت على أول أجر من ( مشوار ) إلى المطار، اعتدت ذلك، كنت أشغل وقتي بقراءة الصحف وبعض الكتب التي أجدها في طريقي.
تعرفت على إمام مسجد الحي الضرير وطلب مني مساعدة ابنه في درس الإنجليزي،
صاحب المنزل الذي أقيم فيه وهو رجل شرطة طلب مني إيصال بناته إلى المدرسة بأجر ساهم في إيجار المنزل.
إمام المسجد الضرير يقوم بتدريس مادة القراءات في كلية المعلمين وله زوجة أخرى معلمة0
من كشك الصحف و الكتب في المطار حصلت على كتاب تذكرت صاحبه عندما صافحتني صورته، كان صاحب الشنطة وسنوات السجن.
طلب الإمام الضرير إيصاله لمنزل زوجته الثانية لأن السائق ذهب بزوجته الأولى إلى السوق وتأخر.
في الطريق ذكر أن زوجته الثانية كانت طالبة عندما كان يدرس القرآن الكريم في ثانوية البنات.
تصفحت الكتاب وأخذت أتذكر أيام اهتمامي بالثقافة والعمل وزوجتي وأسرتي وتخيلت ابني أسامه و الأخر الذي لا أعرف اسمه الآن.
زارتني حوادث و صور في منامي، استعذت بالله من الشيطان وأنا في طريقي لتأدية صلاة الفجر، صلى بنا المؤذن0 عرفت أن الإمام متوعك في منزله.
في العاشرة صباحاً كنت أقرع الباب، وجاء صوته مرحباً.
أخذت الصحيفة التي اعتدت قراءتها من إحدى البقالات وأنا في طريقي للمنزل جاءت صورة الكاتب الذي لم أنسه تتوج مقالا طويلا عن المجتمع.
في ساعة متأخرة من الليل جاء صوت زوجة إمام المسجد ترجوني الحضور لنقل زوجها للمشفى0 انتظرت فحصه في قسم الإسعاف و تزويده بالعلاج.
كانت سافرة الوجه تجلس في مقعد السيارة الخلفي، أنفاسها تلفحني.
دعاني الشرطي لحفل عشاء أقامه بمناسبة ترقيته، وجدت في الحضور الكاتب0 لم يعرفني عرفت أن الكاتب متزوج أخت الشرطي، وأنه مسئول كبير في إدارة هامة. أشعرته باني أقرأ كتابه الجديد.
عاد الإمام للمسجد وحركته، في تجوالي المعتاد وكتاب جديد على المقعد بجواري داخل السيارة0 حملت امرأتين وطفلا في الثامنة من إحدى الشوارع وتحركت، وقع الكتاب بين أقدام الطفل انحني وحمله، هم بوضعه على مقدمة السيارة وهو يلتفت نحو المرأتين لسماع إرشاد هما لي حتى أعرف الطريق0 أخذت إحداهن الكتاب من بين يدي الطفل وأخذت تقلب الصفحات، وصلت إلى العنوان وترجلتا، نقدني الطفل أجرتي 0افتقدت الكتاب. وأخذت
اضحك ..
اتجهت إلى مقهى في خارج المدينة مع بعض الصحف طالعت نتائج اختبارات نقل
الطلاب في بعض المدارس شيء شدني إلى قراءة أسماء إحدى مدارس الطائف كان أبني أسامة، انحدرت دمعة وتلافيت رغبة في البكاء.
اشتريت أرضا وقدمت أوراقها للبنك العقاري وتمكنت بعد أشهر من التعاقد مع مؤسسة بناء بعد حصولي على قرض من البنك الذي فيه حسابي برهن الأرض وقيمة القرض العقاري.
أنجزت العمارة بهدوء من دورين كل دور سكن خاص.
أقام أحد الجيران حفل عشاء حضره الشرطي والكاتب، بعد العشاء اتجهت إلى مقهى خارج المدينة.
التحقت بشركة معدات كموظف، لم أترك سيارة الأجرة، باح لي الإمام الضرير بأنه طلق زوجته المدرسة لأنها لا تنجب، قلت ضاحكاً أني ابحث عن زوجة لا تنجب.
بعد أيام ابلغني بموافقة أسرة زوجته المطلقة على خطوبتي0
طلبت مقابلتها0 تحمل مسحة من الجمال و الحزن أخبرتها عبر الهاتف بتاريخي وجدتها ترحب بي، وفى حفل مبسط تزوجت.
بعد أشهر طلبت مني البحث عن أسرتي وأمام ترددي أغرتني برحلة نهاية الأسبوع إلى الطائف0
أصرت على أن أدخل الشارع الذي به منزلنا القديم وجدنا في الشارع خيمة منصوبة وكراسي مصفوفة فتحت زجاج النافذة0 سألت أحد الأطفال عن الخيمة0 فإذا بها مجلس عزاء لوفاة والدي، طلبت مني إيقاف العربة والنزول0 أمسكت بيدي00 سالت الأطفال عن مكان عزاء النساء دخلنا المنزل القديم أخذت تصفق، خرجت امرأة ما أن لمحتها حتى عرفت أنها أختي0 رفعت زوجتي الغطاء عن وجهها تقدمت منها ضمتها إلى صدرها معزية.
انكبت أختي على كفي تقبلها وهي تبكي وخرج أخي الأكبر من غرفة الجلوس على الضجة، أسرع ألي اخذ يبكي وهو يحتضنني أخذت أختي زوجتي إلى غرفة النساء وجاء أخي الآخر.
وأنا أدخل غرفة الجلوس حيث يجلس مجموعة من الأطفال و الشباب تلفت أتفحص الوجوه، اقتربت من فتى في السادسة عشرة وأخذت أحدق فيه، همست: أنت أسامة؟، هز رأسه،
قال أخي الأكبر: هذا أبوك لثم أسامة كفي، وجاء من طرف الغرفة فتى يصغره كان عبد الرحمن ابني الذي لا أعرفه ..
أخذنا نتحدث عن الأسرة وعن أخباري0 كنا نتوقف عند تاريخ دخولي السجن مستعيدين ذكريات الطفولة، عرفت أن أسامة و عبد الرحمن من خلال عدم ذكر اسمي بين الأسرة ظنا أني ميت0
بعد يومين من الذكريات، أخذت زوجتي إلى افخر فندق في المدينة0 بعيداً عن الناس أخذت تحدثني عن أسرتي و المصادفة التي حدثت.
عدت لعملي وعادت زوجتي لعملها.
الشرطي دعاني وزوجتي لعشاء خاص تحدثت عن قصتي مع السجن وحياة أسرتي0
الكاتب حدق في وهو يرتعش، خرج دون أن ينبس بكلمة، الإمام الضرير أخذ يعلق على تجربتي، بعض الجيران اللذين كنت التقي بهم في المسجد حمدوا صبري 0
بعد انتهاء العشاء أخذت زوجتي إلى البحر جلسنا على أحد الكراسي نتابع زبد الموج عبر ما يصل من ضوء الأعمدة الممتدة على طول ( الكورنيش )00 من خلال الصمت تخللت أناملها أصابعي شعرت بالحياة تسري في داخلي وينبثق عبر البحر نور يرتفع إلى السماء،
من خلاله أخذت أتأمل وجه زوجتي 00 شيء فيها يشرق، وقطعت تأملي بالتفاتها نحوي وهي تضحك.
المفضلات