بسم الله الرحمن الرحيم
في رحاب ليلة القدر
المفتي الشيخ أحمد رؤوف القادري
... وتوالت رحلات جبريل– عليه السلام– بين السماء والأرض، ليضع بين يدي محمدٍ، صلى الله عليه وسلّم، تلك الآيات البيِّنات المعجزات، كتاباً سماوياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يهدي به اللهُ من اتَّبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلماتِ إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم. إنَّهُ القرآن الكريم.
القرآن الذي بدَّل الجهل علماً، والضَّلال هدىً، والعمى بصيرةً، والفوضى استقراراً، والظلام نوراً. ونقل العرب من قبائل متفرِّقةٍ متطاحنة تقوم مبادؤها على الغزو والسلب والنهب والعصبية القبلية وسفك الدماء، والظلمِ الاجتماعي والشّرك، إلى أمةٍ موَحِّدةٍ موحَّدة...
القرآن الذي حارب الوثنية وحطَّم آخر معاقلها بعد ان كان العرب يقدِّمون قربان الشرك على مذبح آلهةٍ نحتوها بأيديهم.
القرآن الذي رفع شأن العقل وحكَّمه في كلِّ شيء، فانطلق العقلُ من عقاله، يحارب التقاليد الباليه، والعادات الفاسدة، والإيمان الأعمى، ويحطِّم الخرافات والوهامَ والجمود.
القرآن الذي شيَّد حضارةً روحيةً سامية، ومدنيةً إنسانيةً بنَّاءة، وهدى الإنسان إلى خير الدنيا والآخرة.
لقد كان القرآن الكريم في حقيقته انقلاباً كبيراً في حياة العرب الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأدبية.. وقد أجمع مفكرو الشرق والغرب- منذ القديم – على عظمةِ القرآن وسموِّ أهدافه ومبادئه وتعاليمه والغاية النبيلة التي نزل من أجلها. وقد قال كوته: " إنّ هذا الكتاب، سيحافظ على تأثيره إلى الأبد، لأنَّ تعاليمه عمليةٌ مطابقةٌ للحاجات الفكرية"..
هذا غيضٌ من فيض من عظمة القرآن الكريم الذي أنزل في ليلة القدر، في هذا الشهر المبارك.
فلا عجب بعد ذلك، ان تكون ليلة القدر التي كانت نقطة انطلاقٍ في تاريخ البشرية، ليلةً مباركةً فيها يفرقُ كلّ أمرٍ حكيم، وأن تكون خيراً من ألف شهر: "إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ".

فليلة القدر هي إشراقٌ إلهيٌّ في قلوب المؤمنين الذين طهَّروا بالصوم نفوسهم من آثامها، وغسلوا قلوبهم من أدرانها، وأعدّوا أرواحهم الطاهرة النقية للوقوف أمام وجه ربِّهم...
فعلينا أن نحتفل بهذه الليلة التي وصفها اللهُ بأنها ليلةً مباركة، ووصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّها ليلة سمحة طلقة...
علينا أن نحتقل بها احتفالاً يليق بعظمتها، وذلك بأن نحييها في عبادة اللهِ وطاعته... في الصلاة والقيام والدعاء والتسبيح... لأنَّ إحياءها في طاعة اللهِ وعبادته خيرٌ من ألف شهر.. أي من عبادة العمر كلّه...
عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنّه قال: إذا كانت ليلة القدر أمر اللهُ، سبحانه وتعالى، جبرائيل، عليه السلام، أن ينزل إلى الأرض ومعه سبعونَ ألف ملك، وهم سكّان سدرة المنتهى، ومعهم ألويةٌ من النور، فيركّزون ألويتهم في المسجد الحرام، وفي المسجد النبوي، وفي بيت المقدس وطور سيناء، ويركّز لجبرائيل لواءٌ أخضر على ظهر الكعبة، ثم تتفرّق الملائكة في أقطار الأرض، فيدخلونَ على كلّ مؤمنٍ يجدونه في صلاةٍ أو ذكرٍ ويسلمون عليه، ويؤمّنون على دعائه، ويستغفرون لجميع أمّةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ويدعون لهم حتى مطلع الفجر....
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر فماذا أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: قولي: «اللهم إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عني.»
اللهم إنّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنّا.. واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين...