أب ..وضمير ..وابنة
انسكبت كلماتها صقيعا دوى في أذني ...وتبعته حشرجة صوتها المكلوم الممتلئ أسى ...مرت بعد ذلك ثواني صمت كأنها دهر ....
انتفضت كعصفور ذبيح وصرخت ...مالذي حصل ؟ ....لم تجب ..
نظرت في سماعة الهاتف علَي أرى وجهها فألمس من تعابيره معان تريحني ..غير أن تلك السماعة العمياء ماكانت لتبصر أبدا ...أعدتها لأذني وصرخت من جديد أمي ....أجيبي ..
قررت التخلي عن صمتها وشهقت بدموع سمعتها تحفر خديها وتناهت كلماتها إلى سمعي تقول : أبوك متعب ويجب أن أسافر حالا ...
قلت لها: انتظري ...أعود معك .
لم تقبل ...أصرت على بقائي لأتم امتحاني ...ووجدتني أتلوى من ألم الحيرة وأتأرجح بين شوقي الخائف على أبي وبين أبواب المستقبل التي بت قريبة جدا من عبورها .....
وبسرعة حزمت أمري وطلبت منها أن تنتظر وصولي للمنزل...
نصف ساعة وأنا ألتهم طريق العودة وأعد السيارت المحيطة بي ودمعات صغيرة تولد للحياة وتختفي فورا ومن خلالها أنظر للسائق ويستحلفه قلبي أن يزيد السرعة .....
ووجدت نفسي أصعد درج العمارة وأدخل باب المنزل فأرى وجه أمي وقد غطاه وشاح دامع ...
أعلنت لها أني عائدة معها ...وهممت بلملمة أغراضي وأوراقي المبعثرة ومن أمام عيني يمر شريط عمر مضى وقد امتلأ ضحكات وحنان .....
أوقفتني أمي بيدها وأجلستني بهدوء ورددت : ابقي الان ..إن لم يتحسن تعودين ...رفعت إليها رأسا مثخنا بطعنات الأيام وتركت عيني تتحدثان ماطاب لهما الكلام .....
سمعتني أمي دون أن أحرك لساني فعادت تجيب :لن يكون سعيدا وأنت تتركين امتحانك .....إن لم يتحسن تعودين
استسلمت لكلماتها ووجدت في نفسي عزاء لشوقي الخائف ومبررا مقنعا لعبور بوابات المستقبل وبت أشيح بقلبي عن ضميري الذي يلكمني دون رحمة وأتشاغل بالامتحان والدروس لأسكت فمه الثائر أبدا .......
في اليوم الثاني هاتفتها وكلي أمل أن يسمع كلمة إنه يتحسن ...
ردت أمي وقالت :جلطة خفيفة ووعدنا الطبيب أنه سيتحسن
رمقني بنظراته الساخرة فأشحت بوجهي والدموع تتقاطر متألمة
وفي اليوم الثالث أملت نفسي بتحسنه وهاتفت أمي فقالت : إنه يتألم ..
لم أجرؤ على النظر في عيني هذاالقابع داخلي أينما ماكنت وأشحت بوجه كسته دموع نادمة ...
استيقظت في اليوم الثالث وتجرأت على القول له :صباح الخير ..صدقني اليوم سيتحسن ..ولم أنتظر منه الاجابة ..بل تشاغلت عنها بسماعة الهاتف وضغطي على الازرار لتجيب أمي من الطرف الآخر وتقول : إنه يبكي من الألم ..
وهنا لم يعد يكتفي بنظراته الغاضبة بل سورني بصعقات كهربائية أعادت إلى ذاكرتي صورة اللعبة الصغيرة التي أحضرها لي أبي حين بكيت من الألم أيضا ....
عانقت الوسادة وبللتها بدموع لوم غاضب ونمت نوما طويلا متألما ...
في اليوم الرابع رن الهاتف ..نظرت إليه فشبك يديه ووقف ينتظر ساخرا ..رفعت السماعة وعبرها قالت أمي : إنه يستند على أخيك ويستطيع المشي ..
أغلقت سماعة الهاتف ورأيته وقد استل عصاه وقبل أن أنبس ببنت شفه أرسل عبرها صعقاته الكهربائية لأرى من جديد وجه أبي القلق وأنا بين يديه يسرع بي الى الطبيب ..
في اليوم الخامس أمسكت سماعة الهاتف لتقول لي أمي :إنه يتحسن حقا هاقد بدأ يأكل دون ألم ..
في تللك اللحظة عادت للتشكل صورة عرفتها منذ زمن ليس ببعيد ..
إنها صورة أبي حين يدخل البيت متلاحقة أنفاسه وحاملا بيده الخبز والطعام مغلفين حبا وحنانا ....
أخذت نفسا عميقا كما لم أفعل يوما ....وأخرجته تنهيدة تائهة ..
أغمضت عيني وحملقت في ذلك القوي الرابض في كياني متوسلة له أن يوقف تلك الصعقات .....
رفعت يدي إلى السماء وأطلقت لدموعي العنان فتسابقت كجياد ملتهبة ..
وبانكسار القلب وذل النفس ناجيت ربي ورجوته أن ارحمهما كما ربياني صغيرا ....
المفضلات