بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...
أيها الإخوة الأعضاء كلمة بحق الأخوة التي تجمعنا و التي أوصى بها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم...
في مسألة الائتلاف...
لا يخفى على أحد صراع الإنسان مع نفسه حين لا يتطابق مراده مع واقعه...و لذلك يعيش الإنسان في محنة لا مثيل لها إلى حين وجود حد أدنى من التفاهم بين مراده و واقعه حتى تتحقق له نسبة معينة من الطمأنينة يستكين لها و يعيش في أحضانها وفق ظروفه الثقافية و مستواه المعرفي و طريقة إدارته لتناقضاته التي تقض مضجعه...فما من كائن بشري إلا و عاش مرحلة صراع مع ذاته و محيطه على أساس التناقضات التي يفرزها الواقع و التي حتما لا تلاءم تصورات الإنسان المثقف الواعي الذي يعتقد في مصداقيته و طموحاته في الوصول لما هو أحسن و لما أفضل...و من هذا المنطلق يعتقد الإنسان "السني" و "الشيعي" على السواء أن ما يعتقد هو الصواب و ما يحمله الآخر هو الخطأ...و هذا ما جعل تاريخيا كل طرف يتشبث بتصوراته و يصارع الآخر بغية تحقيق الحق و إزهاق الباطل...مع العلم أن "السني" و "الشيعي" يعتقدان كل منها في كتاب الله عز و جل و في رسوله صلى الله عليه و سلم كمبلغ عن ربه و مطبق لما أمره به رب العالمين...فكيف يمكن حل الخلاف القائم في القرن الحالي قرن التحديات و التكتلات و الاتحادات؟
كقارئ متواضع أعتقد أن ما من أحد يجادل في أن "العلم" بكل المعاني التي قد يأخذه هذا المصطلح من شمولية لا يمكن أن يعني أكثر من "المعرفة التي تفسر الواقع و تشرحه و تحلله ثم تركبه على شكل معادلات إما بلغة الرياضيات و إما و بلغة الكلمات من أجل أن تبين الغموض و الجهل و تجعله معلوما معروفا طبقا لمنطق لا يختلف حول مصداقيته و عقلانيته اثنين"...
فلو سلما افتراضا بأن هذا التعريف "للعلم" يلامس الحقيقة في جوهرها و شكلها يظل سؤال عصي على الإجابة لا يمكن الحسم فيه إلا إذا وضعنا الآية الكريمة معيارا للمنطق الذي سنحاول من خلاله أن نشرح الواقع و نفسره و نحلله ثم نركبه للوصول إلى تصور واضح و رؤية ناضجة لما نحن عليه و لما ينبغي أن نكون عليه في المستقبل الذي يقوم أساس على فهما لحاضرنا و من ثم تجاوزنا لتناقضات و اختلافات الماضي من أجل غد أفضل و التي يقول فيها الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13...فسبحان الله جل في علاه...خاطب الناس جميعا على أساس التعارف و التبادل على جميع المستويات في المجال العلمي و التقني في المجال الاقتصادي و التجاري في المجال الثقافي و المعرفي و وضع لهم معيار الاقتراب بعضهم من بعض مسألة الكرم و العطاء و البذل و الجهد من أجل الآخر معيار "التقوى"...تقوى الله عز و جل في القول و العمل...فاقترابي من الآخر و كرمي له هو مدى تقواي الله جل في علاه...فالتقوى هي قمة السلوك الإنساني التي يجب أن تكون الإطار العام الذي يتصرف من خلاله المؤمن بالله عز و جل و برسوله صلى الله عليه و سلم و باليوم الآخر...يوم الفصل بين الحق و الباطل...يوم الفصل بين الخلاف و الاختلاف فيما بين البشر جميعا...فلماذا لا يكون شعار كل من السني و الشيعي هو تقوى الله عز و جل؟
هنا قد يقول قائل أن السنة هي المنهج الصحيح...ما من شك في هذا...فلماذا لا يقول الشيعي نفس القول؟ و هذا من زاوية رؤية "السني"...و إلا ما وجد الاختلاف بين هذا و ذاك...و نفس القول سيردده الشيعي...إذا انطلقنا من زاوية رؤية "الشيعي"...فهو الآخر يؤمن بالله جل في علاه و بالرسول عليه الصلاة و السلام و باليوم الآخر...يوم الفصل بين الحق و الباطل...و هنا كما يقول أحد المفكرين المعاصرين...كل يرى الإشكالية من المعقد الذي يجلس فيه...فالمجلس السني لا يقبل بالشيعي و كذلك الشيعي لا يقبل السني...و السبب هو ما يعتقد هذا و ذاك...فأين الحق من الباطل؟أين الصواب من الخطأ؟ أين يكمن الخلل في وجود الاختلاف؟ هل في "المقعد" الذي يجلس فيه كل منهما كما قال أحد المفكرين؟ أم في الطريقة التي يرى من خلالها هذا و ذاك الواقع التاريخي و الحالي و المستقبلي؟ هل الإشكالية في المصادر التي استقى منها هذا و ذاك معارفه و تصوراته و قراءاته؟ و إلى أي حد كانت تلك المصادر أمينة و صادقة في نقل الوقائع التاريخية و الروايات التي تحكي عن هذا و ذاك؟ و كما هو معروف لدى السنة و لدى الشيعة على حد سواء أنه هناك من يكيد لهذا الدين من قديم من يوم البعثة المحمدية و في عهد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين و في عهد من خلفهم إلى يومنا هذا و سيظل هناك من يكيد لهذا الدين إلى يوم القيامة إلى اليوم الآخر كيوم أخير على هذه الأرض...و ليس الكيد من بني البشر وحدهم بل من العدو اللدود الذي خلقه الله جل و علا ليمحص القلوب و يختبر العقول و يبتليكم بما يشاء و كيف يشاء و متى شاء و أين ما شاء...فمشيئته نافذة لا مرد لها إلا هو جل في علاه...و التاريخ القصصي الذي ورد في كتاب الله جل و علا لخير شاهد و لخير دليل على هذه الحقائق...فالاقتتال الذي بدأت شرارته الأولى في الحياة الدنيا على مسرح الأرض انطلقت مع قابيل و هابيل و هم من أبناء آدم عليه السلام...و السنة أو الشيعة هم كذلك من أبناء آدم عليه السلام...و الاقتتال الذي حصل في بينهم في الماضي و الذي نتمنى من الله عز و جل أن لا يكون في الحاضر أو في المستقبل و أن يعي كل واحد منهم ما هم فيه و ما هم مقبلون عليه من تحديات و تكتلات و اتحادات إن كانوا حقا يريدون كما أراد الله عز و جل أن يكونوا {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }آل عمران110...
فما حدث لقابيل و هابيل لو نظرنا للحدث انطلاقا من القاعدة العامة للعلاقات بين بني البشر جميعا...التعارف و الكرم و التقوى... {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }المائدة27...فالتقوى هي معيار الأعمال الصالحة و المقبولة عند الله جل و علا... واقصص -أيها الرسول- على بني إسرائيل خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل, وهو خبرٌ حقٌ: حين قَدَّم كلٌّ منهما قربانًا -وهو ما يُتَقرَّب به إلى الله تعالى - فتقبَّل الله قُربان هابيل; لأنه كان تقيًّا, ولم يتقبَّل قُربان قابيل; لأنه لم يكن تقيًّا, فحسد قابيلُ أخاه, وقال: لأقتلنَّك, فَردَّ هابيل: إنما يتقبل الله ممن يخشونه.
فأين هو المنطق الذي يحدد لنا سلوك التقوى...أليس هو خشية الله جل في علاه في القول و العمل؟ فلا أعتقد أنه من يحب النبي صلى الله عليه و سلم و هو أتقى خلق الله على الإطلاق لا يحب أهله وعشيرته و أصحابه و زوجاته أمهات المؤمنين...فلا مكان للحسد في قلب الرسول عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم...لذلك أحبهم جميعا و دعا لهم بالهداية و الأخوة بفضل من الله عز و جل...ألم يؤلف بين قلوبهم بعدما كان الحقد و الحسد كاد أن يعمي بصيرتهم؟ {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103...فإذا كان حبل الله جل و علا هو الكتاب الكريم و القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه و لا من خلفه و سنة رسوله عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم الذي بين ما خفي و ما غمض من آيات الله عز وجل قولا و سلوكا و تطبيقا...فأين سبيل و طريق الهداية أفي الاقتتال و التناحر و التطاحن أم الائتلاف و الوفاق و التعاون و العطاء المتبادل" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }...
الحقيقة أن السنة و الشيعة معا ليسوا أنبياء حتى يكونوا معصومين من الخطأ...و لم تتم لهم حادثة شق الصدر حتى يطهرهم الله جل و علا من حظ الشيطان في التركيب العضوي للبنيتهم الفكرية و المعرفية و الإيمانية...فتدبروا معي جزاكم الله خيرا هذه الآية الكريمة... {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }الحج52...فإذا كانت الرسل و الأنبياء و هي المعصومة بفضل من الله عز وجل من مكائد الشيطان "عدو الإنسان " فكيف بنا نحن الذي ضعف إيماننا وقلت عزيمتنا و أصابنا الوهن أن لا نكون فريسة للشيطان...فكيف يستطيع عالم و فقيه و مفكر و مثقف أن ينجو مما يلقيه الشيطان في باله و خاطره و فكره؟ و هو أي الشيطان الذي يزين لهم الأعمال و يخلق لها ألف تبرير و تبرير لتبدو و كأنها الحقيقة و الحق؟ فإذا كان المعيار هو التقوى بكل ما تحمل هذه الكلمة المفتاح من إطار للسلوك في القول و العمل...فعلى عباد الله جل و علا أن يتقوا الله... {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1...و بعد الرقابة هناك الحساب... {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }النساء86...فإذا كان الله عز وجل يذكرنا بأنه يحاسب على كل شيء و حتى التحية فما بالك بالأعمال التي يقوم بها هؤلاء و أولائك...
أتمنى من الله عز وجل أن يؤلف قلوبهم على كلمة التقوى كلمة الحق...
و للحديث بقية إن كان في العمر بقية...أقول قولي و أستغفر الله لي و لكم و لجميع المسلمين...
المفضلات