ضربان خامدان في بحر الكامل.. مَن مِن الشعراء يوقد جذوتهما؟!
يتميز الكامل ليس فقط بأنه "ليس في الشعر شيء له ثلاثون حركة غيره" كما قال التبريزي؛ وإنما لأنه أوفر البحور حظا في عدد ضروبه التي بلغت تسعا. ومع ذلك فقد مُني هذا الكامل بالتنكر لأحد أقدم ضروبه ، وهو الثالث في الترتيب عند الخليل، فتجاهله الشعراء ولم ينظموا عليه منذ نهاية العصر العباسي إلا ما كان يقع عرضا في بعض أبيات القصائد التي ترد على ضرب آخر من الكامل في ظاهرة باتت مألوفة عند العروضيين كثيرا وعدوها عيبا أطلقوا عليه اسم الإقعاد.
أما أقدم الأمثلة على هذا الضرب المهجور أو المُمات فربما كان ما نسب لامرئ القيس من قوله في قصيدة من ثمانية وعشرين بيتا ، وهي ليست في ديوانه:
صَرَمَتكَ بــعدَ تواصُــل دَعدُ=وبَدا لدَعدٍ بــَعــضُ ما يــَبدو
طالَ المَطالُ وليس حين تقاطُعٍ=لاهِ ابنُ عمّكَ والنوى تعدو
وهي كلها على هذا الضرب ، إلا الأول منها الذي جاء تلبية لحاجة التصريع.
وفي أول عصر الإٍسلام نجد قصيدتين، كل منهما من عشرة أبيات، واحدة للخنساء والأخرى لعامر بن الطفيل. ومما وجدته لعلي بن طالب ، رضي الله عنه مقطوعة من أربعة أبيات يقول فيها:
ذهــب الذين عـليـهـمُ وَجـــدي=وبقيت بعد فِراقهم وَحدي
من كان بينكَ في الترابِ وبينهُ=شِـــبرانِ فهوَ بغاية البُعدِ
لو كُشِّفَت للمرء أطباقُ الثرى=لم يَعرف المَولى من العَبدِ
مَن كان لا يطأُ الترابَ برجلِهِ=يطــأ التــرابَ بنـاعِم الخَدِّ
وفي العصر الأموي نجد لعمر بن أبي ربيعة قصيدة على هذا الضرب عدتها أحد عشر بيتا ولأبي دهبل الجمحي مقطوعة عدتها أربعة أبيات . وأما في العصر العباسي فنجد، قبل أن يتوقف النظم على هذا الضرب، قصيدتين لأبي نواس عدة كل منهما ثمانية أبيات، وللعباس بن الأحنف مقطوعتين واحدة من سبعة أبيات والأخرى من ثلاثة، ومثلهما للوأواء الدمشقي.
وقد ظل هذا الضرب مهجورا طوال تلك القرون لم ينفخ فيها أحد ركام السنين عنه حتى جاء الفيتوري برائعته التي حفظناها منذ الصغر ولم ننتبه للطرافة في وزنها إلى حين انتبه لها، ونبهنا، الدكتور محمد عبد المجيد الطويل في كتابه "في عروض الشعر العربي" ومنه أنقل بعض أبياتها :
ألأن وجهي أسودٌ، ولأن وجهكَ (م) أبيضٌ، سميتني عبدا
ووطئت إنسانيتي، وحقرتَ (م) روحانيتي، فصنعت لي قيدا
وشربت كرمي ظالما، وأكلت (م) بقلي ناقماً، وتركت لي الحقدا
ولبستَ ما نسجت خيوط مغازلي=وكسوتَني التنهيدَ والكدّا
وسكنت جنات الفراديس التي=بيدي نحتُّ صخورها الصُلدا
وأنا كم استلقيت في كوخ الدجى=أتلفع الظلمات والبردا
كالشاة اجتر الكآبة عاقداً=حولي دخان تفاهتي عِقدا
حتى إذا انطفأت مصابيح السما=وانساب نهر الفجر ممتدا
أيقظت ماشيتي الهزيلة، وانطلقت (م) أقودها لمراحها قَودا
فإذا سمِنَّ نعمت أنتَ بلحمها=وتركت لي الأمعاء والجلدا
.. إلى آخر هذه القصيدة الرائعة التي مضى على نظمها ما يقرب من نصف قرن، فمن يكون التالي بعد الفيتوري الذي يواصل النفخ لتظل جمرة هذا الضرب متقدة؟
والضرب الآخر الذي أرى أنه سائغ مقبول، لم يرد عليه في الشعر الجاهلي إلا أربعة أبيات لزهير بن أبي سلمى ، وهي في ديوانه ، يقول:
ولقد نهيتكم، وقلت لكم=لا تـقـربُنَّ فــوارسَ الصــيداءِ
أبناء حرب، ماهرينَ بها=تُغذى صِغارُهمُ بحُسنِ غذاءِ
قد كنت أعهدهم، وخيلُهمُ=يلقَون قِدماً عـــورة الأعداء
أيسارُ صدقٍ، ما علمتهمُ=عند الشتاء وقلة الأنـــــــواء
ولم يلتفت الخليل، رحمه الله، إلى هذا الضرب ؛ وإلا لكان عده عاشر ضروب الكامل، وربما أسمى العلة فيه الترفيل قياسا على الترفيل في (متفاعلن) حين تصير (متفاعلاتن)، والمرفل عند الخليل ما زيد على اعتداله سبب خفيف.
وقد التفت الدكتور محمد الطويل إلى أبيات زهير هذه، وعلق قائلا: " هذه الأبيات لم أجد إشارة إليها في أي مرجع عروضي رجعت إليه، ولم يشر أحد إلى مجيء الكامل على هذه الصورة".
وكذلك التفت إلى بيتين من العصر الأيوبي نظمهما ابن سناء الملك على هذا الضرب النادر، وربما لم يكن ثمة غيرهما في أي عصر من عصور الشعر، فلماذا لا تكون أنت التالي وتأتينا بقصيدة من عندك تفوق بها ما جاء عند زهير وابن سناء الملك معا؟
المفضلات