:: :: :f
بسم الله الرحمن الرحيم
وإن من شئ إلا يسبح بحمده
أصدقائى وأساتذتى الكرام لكم من ريحان الكلام
.................................................
أقدم لكم فى السطور التالية جهد ضعيف ، وقراءة رقيقة فى مجموعات سهراب سبهرى ، الفنان التشكيلى المأنوس بعبير الشرق ، وبغبار التراث المعطر .
.................................................. ..
وترسم هذه السطور ، فكرة اليوتوبيا عند سهراب سبهرى والتعريف بمفهومها .
................................................
وأقدم هذه السطور وفاءً لأستاذى وأخى الشاعر والكاتب اللبنانى (( محمد حسين بزى )) ، المتقدة كلماته بنور محمد ،وبحكمة على ، وبثورة حسين ، كلمات مشتاقة لإعلان فجر التنوير ، وهدم صنم الإظلام والإستغلاب
.................................................. ...
مفهوم اليوتوبيا
من التنظير إلى الحلم
مفهوم اليوتوبيا
اليوتوبيا تعود إلى كلمة يونانية معناها اللا مكان أو المكان الذي لا وجود له .
ثم دخلت الكلمة اللاتينية ( utopia) اليوتوبيا بمعنى مكان خيالي قصي جدا ( المدينة الفاضلة )
و هي دنيا مثالية و بخاصة من حيث قوانينها و حكوماتها و أحوالها الاجتماعية. و هي عالم يجوز تسميته بالخيال أو صورة ماوراء العين، مكان يتحقق فيه التعاون الاجتماعي بصورة كاملة التحقيق ، لسعادة الأفراد.
اليوتوبيا من التنظير إلى الحلم
حلم الإنسان منذ القدم بمدينة مثالية نموذجية يأخذ كل فرد فيها حقّه و يؤدّي ما عليه من واجبات تجاه نفسه و تجاه الآخرين. مدينة بلا جوع و لا ظلمولا فقر و مدينة القانون و العدالة، دولة مثالية تتحقّق فيها السعادة لجميع الناسو تمحو الشرور ، فالناس فيها سواء فيما يملكون و يحصلون على ما يحتاجون إليه ، متساوون أمام ميزان العدل، و هي مدينة المثل العليا، مدينة العلم والمعرفة وكأنها تنادي الإنسان بالعودة الي فطرته الطاهرة.
كانت اليوتوبيا حلم الإنسان منذ النشأة البشرية ؛ فإنها تبحث عن النموذج المجتمعي الخيالي و المثالي ، ذلك الذي يعوضها عن الفردوس المفقود الذي فيه يتحقق الكمال أو يقترب منه على الأقل و يتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية و هذا الحلم لا يوجد سوى في ذهن الكاتب نفسه و خياله قبل كل شيء.
و الفيلسوف اليوناني " افلاطون " كان أول من حلم بتلك المدينة الفاضلة من خلال كتابه " الجمهورية "
ويرى فيه أن الناس سواء في كل ما يكتسبون و يملكون و يحتاجون إليه .
وبنفس هذه الروح المثالية رسم المعلم الثاني " الفارابي " دنياه المثالية من خلال كتابه " المدينة الفاضلة " حيث يعيش فيها الناس متساوين أمام الميزان ميزان العدل.
و استمرّ فى رسم اليوتوبيا والتعبير عنها بخيال خصب من عباقرة الشعر و الأدب و الفلسفة على مدى التاريخ .
و مما يلفت النظر أن الكتابة عن اليوتوبيا تطوّرت تطوّرا ملحوظا و برز تقدّم كبير فى الكتابة عنها في العصر الكلاسيكي أي حوالي القرنين السادس والسابع عشر.
وظهر كتاب يصرحون بمؤلفات عن الجنة المنشودة ، والفردوس المفقود أمثال " توماس مور " في كتابه " يوتوبيا " سنة 1516م الذي يتحدث فيه عن مدينة الفاضلة .
و أعقبه بعد ذلك " توماس كامبانيلا " سنة 1623 م في كتابه " مدينة الشمس "
و بعده " فرنسيس بيكون " سنة 1627 م في كتابه " اطلنطس الجديدة "
و أيضا " ايتين كابي " سنة 1840 م الذي سمّى مدينته المثالية " إيكاريا " في كتابه " رحلةإلي إيكاريا ".
.................................................. ..........
وعلى تلك الأفكار كتب الشعراء والأدباء فى العصر الحديث عما يرنو إليه عقلهم وقلبهم من رؤية ومدينة فاضلة ، وخرجت لنا أعمال تلوح أو تشير صراحة إلى حلم اليوتوبيا .
والواقع أنّ التعبير عن اليوتوبيا تخطّى مرحلة المعنى الأدبي الخيالي فأطلق على كل اصطلاح سياسي أو احتمالات تتعلق بالعلوم والفنون في مجملها.
إلا أنه يظلّ تصوّرا فلسفيا ينشد انسجام الإنسان مع نفسه و مع الآخرين في عالمه الواسع. فكل فكرة سامقة رانية إلى عالم من التآلف والمحبة والجمال ، فهى تعد يوتوبيا.
وعبر عن ذلك الأدباء والشعرء بطرق مختلفة ، فهناك من صرح بكلمة يوتوبيا صراحة كما فى شعر الشاعرة العراقية نازك الملائكة . فهى تعبر عن واقعها السئيم باحثة عن أرض جديدة للأحلام وللسعادة :
قد سئمتُ الواقعَ المرّ المملّا ولقد عدتُ خيالاً مُضمحلّا
فاتركيني بخيالي أتسلّى آه كاد اليأسُ يعروني،لولا
أنّني لُذتُ بأحلامِ السّماء وتَخيّرتُ خيالَ الشّعراء
فتسارع الشاعرة لتهرب حيث لا علاقة لها بالزمان حيث اليوتوبيا تذوب قيود الزمان والمكان فتحسّ بشباب لايزول فننراها تقول :
ويوتوبيا حُلمٌ في دمي أموتُ و أحيا على ذكره
تخيّلتُه بلداً منْ عَبير على أفق جرتُ في سرّه
هنالك عبرَ فضاءٍ بعيد تذوب الكواكب في سحره
هنالك حيثُ تذوبُ القيود وينطلق الفكرُ من أسره
وحيثُ تنامُ عُيونُ الحَياة هنالك َتمتدّ يوتوبيا
ويوتوبيا حَيثُ يَبقى الضّياء ولاتغربُ الشّمْسُ أو تَغلَسُ
وحيثُ تَضيْعُ حُدودُ الزّمان وحيثُ الكَواكبُ لاتنْعَسُ
هناك الحَياة امتدادُ الشّباب تفورُ بِنشْوتهِ الأنفُسُ
هناك يَظِلّ الّربيعُ رَبيعا يُظلّلُ سُكّانَ يوتوبيا
ومما يلفت انتباهنا هنا أن الشاعرة استعملت" يوتوبيا " دلالة على مدينة شعرية خيالية لا وجود لها إلا في أحلامها و طبعا لا علاقة لهذه المدينة باليوتوبيا التي تخيّلها الكاتب الإنكليزي "توماس مور"
و رسم فيها صورة سياسية إدارية للجزيرة المثلى كما يريدها قياسا على "جمهورية افلاطون " أو غيره.
وبهذا يتضح لنا أن كل روح أدبية عبرت عن حلم مفقود ، عدت هذه الروح أنها باحثة عن يوتوبيا وفردوس مفقود . فتعدت حدود هذا الفردوس كتابات السياسيين والفلاسفة ووصلت إلى حدود مملكة أفكار وأمانى الشعراء .
وفكرة اليوتوبيا لم تقف على أبواب ممكلة أهل الشرق وحدهم أو أهل الغرب وحدهم ، بل دقت أبواب جميع المدن شرقا وغربا . وكل حركة أو فكرة تبحث عن سعادة الإنسان عدت من اليوتوبيا .
فالبلشفيون بثورتهم ، وبحثهم عن مجتمع شيوعى مثالى ، كانوا بذلك يبحثون عن يوتوبيا ، حتى الرأسماليين كانت لهم جنتهم أيضا .
بل الديانات هى الأخرى ترسخ البحث عن هذه الجنة المفقودة . وعموماً فإن اليوتوبيات الدينية ليست حكراً على اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام،
فهناك أكثر من 100 كتاب مقدّس في هذا العالم، منها على سبيل المثال: كتاب الفيدا الهندوسي، والأفيستا الزرادشتي، وغيرها من الكتب الأخرى التي مازال بعضها موجوداً في الكثير من الديانات، مثل الكونفوشيوسية، والبوذية، والشنتوية.
فإن كل كتاب مقدس من هذه الكتب يبشر أتباعه بـ ( جنة خاصة )، ويخيرهم بين حياة الشقاء، وحياة النعيم.
لن تتوقف ثقافة اليوتوبيا، طالما أن (الحلم) كامن في أعماق النفس البشرية، وأيضاً لم يعد التبشير باليوتوبيا حصراً من مهمة الديانات والمصلحين الإجتماعيين ، بل أصبح الأمر يرتبط بالكيانات الدولية العملاقة، وها هي الكيانات الرأسمالية الكبرى والعظمى تبشر الشعوب بـ (يوتوبيا) العولمة باعتبارها المخرج من الشقاء والمدخل لجنة النعيم والرفاهية والحياة السعيدة.
ومع إنتشار فكرة اليوتوبيا ، إلى أن صارت باعث صراع ونزاع ، ولأن الكل يريد أن يفرض الصورة التى رسمها لجنته المفقودة .
خرج لنا من يرسم صورة أحادية ذاتية ، يرسم لنا جنة تعبر عن ذاته وحلمه هو ، فعندما يرسمها أو ينادى بها ، فهو يرسمها لتنعكس فى مرآة ذهنه هو ، وينادى بها ليحيى بها أذنه . ولا يطلب من مشاهد لوحة رسمه أن يقتفى آثر قلمه .
فظهر لنا الكثير من الشعراء ، يبحثون وينسجون خيوط يوتوبيا من مخيلة ذاتهم ، فنرى الشاعرة العراقية فليحة حسن ترسم لنا يوتوبياها عن طريق مقارنة بين الحلم والواقع وهذا تجلى فى قصيدتها ( عمر ) حيث ربطت الواقع بالطفولة البائسة المقموعة بالطاغية والحرب .
نصف لبنات لم تعرف بعد العدّ على أصابعها
أو المشي حاسرة القلب
وبنت فى عالم الحلم مدينة تتمناها الطفولة حيث الدهشة ، والفراشات وقصص الجان والمرجان .
ونوارس هاربة
وفراشات تلثغ بالسحر
وعلامات للدهشة
وأقاصيص عن الجان
وعن المرجان
ونجد روائيا أسبانيا باسم ماريو فرجاس لوسا يكتب رواية بعنوان ( الجنة أبعد قليلا )
وهو بذلك يعبر ويرسم يوتوبيا فى عالم الخيال ، تعبر عن ما لم يلتمسه من سعادة وسلام فى عالم الحقيقة .
وينادى البعض لماذا مصطلح اليوتوبيا ، ولماذا لا نستخدم مصطلح المدينة الفاضلة فى أدبياتنا .
وفى رأيي أن مصطلح اليوتوبيا أفضل لقربه من واقعيات أدابياتنا ، فمصطلح المدينة الفاضلة له دلاله تنظيرية فلسفية أكثر من كونه ذو دلالة أدبية فنتزية ، وهذا يتعارض مع واقعنا الأدبى ، فالأدباء والشعراء فى عصرنا الحالى لا يكتبون كما كان يكتب الفيلسوف لينظر فكرة أ و يؤسس حقيقة .
بل يكتبون لشئ مفقود تبحث عنه ذاتهم هم ، ولا يشترط أن تشترك ذات الآخر فى البحث معهم عن هذا الشئ المفقود .
ففى الأدب الإيرانى نجد سهراب سبهرى يبحث عن فردوس مفقود تشتاق إليه ذاته ، جنة هو فقط الذى يعرف الطريق إليها ، وتمثلت هذه الجنة فى كاشان التى يبحث عنها فى أشعاره ويناديها عن طريق المقارنة بينها وبين ما يلتمسه من واقع بغيض ينفر هو منه ، ويفر إلى صورة يرسمها فى مخيلته الشعرية ، أو إلى مدينة
أو يوتوبيا يعرفها ، حيث أنه ذاق فيها السعادة ، فوجد أنها تمثل جنته المنشودة التى تعوضه عن واقعه البغيض
تجليات اليوتوبيا عند سهراب سبهرى
اليوتوبيا
المفقودة والبحث وعنها
لو بحثنا فى جميع مجموعات سهراب الثمانية ، لو جدناها جميعا تبوح لنا بسر سهراب ، ألا وهو يوتوبياه المفقودة ( كاشان ) التى يبحث عن ملامحها تارة فى دفء نداء صديق له أو فى طريق سفر ملئ بأشياء يبحث عنها ، وتارة أخرى ينادى يتوبياه صراحة باسمها حتى أنه يصفها ويتأملها .
فظهرت بشكل جيد يوتوبيا سهراب سبهرى فى مجموعته المشهورة (وقع أقدام الماء)
ففى هذه المجموعة يتحدث سهراب عن صلاته فى مسجد الطبيعة الأخضر ، ففى هذا المسجد المثير للعجب تؤذن الرياح للصلاة على قمم مآذن شجر السرو. وعشب الصحراء ينادى بتكبيرة الإحرام، وموج الماء ينادى أنه قد قامت الصلاة . وسبهرى قبلة صلاته تجاه الورد الأحمر.
والصحراء هى مصلاه وعين نبع الماء سجادته ونور الشمس قبة مصلاه . وكعبة سبهرى على حافة الماء ، وحجره الأسود هو ضياء الروضة .
فنرى أن سبهرى فى هذا المسجد المقدس استحسن الطبيعة البدوية ،فهو يتعبد بطبيعة وعادات بدوية .
من أهل كاشان أنا
زمانى ليس بسئ
لي كسرة رغيف، وقطعة ذكاء،ومقدار رأس إبرة ذوق
لي أُم افضل من أوراق الشجر.
أصدقاء أنقى من ألماء الرقراق
…………………….
ولي إله في هذا الجوار:
طية أزهار الثور هذه، تحت شجرة الصنوبر تلك.
فوق معرفة الماء
فوق قانون العشب.
………………………….
مسلم انا
قبلتي وردة حمراء
مصلاتي النبع ،تربتي النور
سجادتي الصحراء
إني أتوضأ باضطراب النوافذ من الحرارة .
في صلاتي ينساب القمر،ينساب الطيف
خلف صلاتي يتجلى الحجر
لقد تبلورت كل ذرات صلاتي
اني أُقيم الصلاة حينما:
تنطق الرياح آذانها،فوق منارة السرو
اصلى (بعد) تكبيرة احرام عشب الصحراء
وبعد "قد قامت" (من) موج (الماء)
كعبتي على حافة الماء
كعبتي تحت اشجار الاقاقى(نوع من الاشجار العالية)
كعبتي مثل نسيم يتنقل من بستان الى بستان
يسرى من مدينة الى مدينة.
"حجري الأسود"" ضياء الروضة.
.................................................. ..............
اهل كاشانم
روزگارم بد نيست
تكه ناني دارم ، خرده هوشي ، سر سوزن ذوقي .
مادري دارم ، بهتر از برگ درخت .
دوستاني ، بهتر از آب روان .
*****
و خدايي كه در اين نزديكي است :
لاي اين شب بوها ، پاي آن كاج بلند.
روي آگاهي آب ، روي قانون گياه .
من مسلمانم .
قبله ام يك گل سرخ .
جانمازم چشمه ، مهرم نور .
دشت سجاده من .
من وضو با تپش پنجره ها مي گيرم
در نمازم جريان دارد ماه ، جريان دارد طيف .
سنگ از پشت نمازم پيداست :
همه ذرات نمازم متبلور شده است .
من نمازم را وقتي مي خوانم
كه اذانش را باد ، گفته باشد سر گلدسته سرو
من نمازم را ، پي (( تكبيرة الاحرام )) علف مي خوانم
پي (( قد قامت )) موج .
*****
كعبه ام بر لب آب
كعبه ام زير اقاقي هاست .
كعبه ام مثل نسيم ، مي رود باغ به باغ ، مي رود شهربه شهر
((حجر الاسود )) من روشني باغچه است .
فى السطور الشعرية السابقة نلاحظ أن سبهرى بدأها بعبارة من أهل كاشان أنا ، ففى الحقيقة كان سبهرى من أهل كاشان و لم تكن مدينة عامرة أو مشهورة أو ذات تعقيد فى مناحى الحياة بل كانت ذات طبيعة بدوية بسيطة .
فكلمة كاشان هنا دلالة عن الجنة المفقودة وعن أرض الأحلام التى يتمناها سبهرى ، فالشاعر كان متحدا مع الطبيعة البدوية فكاشان بالنسبة لسبهرى كالـ (نيستان) بالنسبة لمولانا مولوى .
فكاشان عند سبهرى مرج أخضر ملئ بالسعادة فليس هناك تعقيد فى مناحى الحياة فالإنسان هناك
لا يحتاج لتفلسف لكى يتناول طعامه ، فالطبيعة هناك خير معلم للإنسان فهو يقول :
حديقتنا كانت بجانب ظل المعرفة
حديقتنا كانت محل إنعقاد الشعور والنبتة
حديقتنا كانت نقطة إلتقاء النظرة وقفص المرآة
حديقتنا،ربما كانت قوسا من دائرة السعادة الخضراء.
في الحلم ،كنتُ أقضمُ فاكهة الله النيئة ،
بلا فلسفة ،كنتُ أشرب الماء
وبلا معرفة ،كنتُ أقطفُ التوت
باغ ما در طرف سايه دانايي بود .
باغ ما جاي گره خوردن احساس و گياه ،
باغ ما نقطه برخورد نگاه و قفس آينه بود .
باغ ما شايد ، قوسي از دايره سبز سعادت بود .
ميوه كال خدا را آن روز ، مي جويم در خواب .
آب بي فلسفه مي خوردم .
توت بي دانش مي چيدم .
ففى تلك الجنة البدوية وفى أرض الأحلام هذه شرب الإنسان الماء بلا فلسفة وقطف التوت بلا علم ومع ذلك كان قريبا جدا من الله .
عندما يقرأ البعض منا هذه السطور الشعرية قد يعتقد أن سهراب يعيش حالة من السريالية المفعمة بالخيال الجامح .
وهذا غير صحيح لأن ما يتطلع إليه سهراب من يوتوبيا هو حلم داخل كل واحد منا ، فمساعى الإنسان كلها كانت وما تزال نحو البحث عن السعادة ، ومهما أختلفت أدوات هذا البحث إلا أنه فى النهاية الغاية واحدة .
لكن سهراب كان أذكى الجميع فهو جرد البحث من كل الأدوات حتى يكتشف يوتوبياه بلا أى تعقيد أو تكليف أو غموض ، فأتجه بنظره مباشرة نحو الطبيعة المجردة من أية زيف
أو مظاهر خداع . وبدأ يفسر ويوضح لماذا أن الطبيعة المجردة هى مربط السعادة رغم بساطتها ، وخلوها من مظاهر التمدن الذى قد يعتقد البعض أنها وسائل السعادة .
فبرغم كل ما أمتلكه الإنسان من أدوات المدنية الحديثة ، إلا أنه رغم كل هذه المعرفة التى لديه ، لم يستطع أن يشعر بالسعادة أو يصنع أية علاقة بينه وبين ما حاوله من كائنات ، هذه العلاقة التى قد تساعده على الأقتراب من نفسه والقدرة أكثر على فهم الآخرين .
ونجد سهراب يقول أنه قد يظن البعض أن الطبيعة فى مدينة ككاشان قد يراها البعض أنها جافة ومحل للجهل وأنها مكان طرد غير جذاب ، إلا أنه يشير أن المعرفة كانت ظل بيته ، وأن السعادة هى متنفس الكائنات فى مدينته كاشان . وأن كل كائن هناك يعيش فى وئام وارتباط ، ولا يحتاجون إلى أية قلسفة للعيش بسعادة .
الجحيم فى طهران
لكن هذه الجنة لم تدم كثيرا عند سبهرى ، فالطفولة والبداوة أختفت رويدا رويدا فى طرق وحوارى المدن.
فسبهرى يخرج من جنته كاشان المدينة المليئة بالخيال ويذهب إلى طهران المدينة المرتفعة ذات التمدن الصناعى الذى يكرهه سبهرى وينبذه فى أشعاره ففى الحقيقة كانت طهران على النقيض من جنته كاشان.
فسبهرى خرج من تلك الجنة البدوية وصار أسيرا فى مدينة ذات طبيعة شرسة وظالمة .
ففى هذه المدينة قتل ضياء القمر عندما وجدت مصابيح الليل النيون ، فهى مدينة تعج بأصوات الأتوبيس بدلا من أصوات الطيور، وأسقف البيوت لاتقف عليها الحمائم كمنازل مدينة كاشان ، فالمدينة حلت فيها الأسلاك والحديد والأحجار بدلا من العشب الأخضر كالموجود فى كاشان .
فعبر سبهرى عن ذلك بقوله :
الطفل رويدا رويداابتعد عن زقاق الجراد قليلا قليلا.
حزمتُ أمتعتي ،وخرجت من مدينة الأماني الضحلة
ممتلئا قلبي بغربة الجراد.
.................................................. .
كانت المدينة واضحة
النمو الهندسي للاسمنت والحجر والحديد
سقف مئات الباصات بلا حمامة واحدة.
بائع الورد عرض بضاعته في المزاد.
كان شاعر ينصب ارجوحة(القلق) بين شجرتي ياسمين
طفل يبصق نواة المشمش على سجادة ابيه البالية
وماعز يشرب الماء من خارطة بحيرة الخزر.
مقتل لعبة(أحد العاب الاطفال) ،
على أريكة القيلولة(مابعد الظهر)
مقتل حكاية في زقاق الحلم
مقتل آلم بامر النشيد
اغتيال صفصافة بيد الدولة
اغتيال شاعرشحيب على يد وردة حمراء.
كل شئ كان واضحا فوق الارض
القانون يتمشى في زقاق اليونان
البوم ينعق في الحدائق المعلقة
طفل پاورچين پاورچين ، دور شد كم كم در كوچه سنجاقكها
بار خود را بستم ، رفتم از شهر خيالات سبك بيرون
دلم از غربت سنجاقك پر
............................
شهر پيدا بود
رويش هندسي سيمان ، آهن ، سنگ
سقف بي كفتر صدها اتوبوس
گل فروشي گلهايش را مي كرد حراج
در ميان دو درخت گل ياس ، شاعري تابي بست
كودكي هسته زرد الويي روي سجاده بيرنگ پدر تف مي كرد
و بزي از (( خزر )) نقشه جغرافي آب مي خورد
............................................
قتل يك جغجغه روي تشك بعد از ظهر
قتل يك قصه سر كوچه خواب
قتل يك غصه به دستور سرود
قتل مهتاب به فرمان نئون
قتل يك بيد به دست (( دولت ))
قتل يك شاعر افسرده به دست گل سرخ
همه روي زمين پيدا بود
نظم در كوچه يونان مي رفت
جغد در (( باغ معلق )) مي خواند
نجد سهراب فى السطور الشعرية السابقة ينعى حاله ، وفى حسرة على يوتوبياه المفقودة ، فهو يقرر حقائق ، فبرغم ماحقق الإنسان من إنجازات علمية إلا أنه حقق رواية القاص الإيرانى الشهير صادق هدايت ( حى فى مقبرة ) فإنسان هذا العصر يعيش تحت هذا الوصف بالفعل ، فهو حى لكن فى مقبرة صنعها لنفسه ، فأهل المدنية بنوا القصور والحدائق لكن لم يستطيعوا أن يملؤها بطيور السعادة فسكنها البوم ، وبأمر القانون الذى هو منظم لحياته خرب طبيعته التى موطن السعادة فقتل الأشجار ، فحل به الخراب والآلم . فكل شئ فى مدينته لا يعبر عن أى سعادة بل لا يعبر ألا عن مجتمع مفكك جاف المشاعر ، مظاهر الحركة فيه تعبر عنها الجمادات الأسمنتية والخراسنية والباصات التى تشبه أشباح الليل ، فى حين عكس هذا كله يتحقق فى مدينة بسيطة ككشان حيث الحمائم بينها وبين أسطح المنازل ارتباط وائتلاف لاتستطيع أى قدرة بشرية أن تحققه ، حيث الحركة هناك مدلول على السعادة ، فالأشجار تهتز فرحة بالنسيم ، والياسمين يهتز فرحا بقدوم شاعر ، والورد لايباع لأنه لايوجد ثمن يمكن أن يقدم لشرائه ، فهو فوق كل الأثمان .
وسهراب سبهرى رغم كونه من أهل كاشان إلا أنه سجين فى المدينة التى هو فيها، فمدينته مفقودة ومازال يبحث عنها ، فرغم كل مالديه من مظاهر حياة ، لايعبر مطلقا عن يوتوبياه المفقودة كاشان
وهويعبرعن حسرته هذه بقوله :
من أهل كاشان أنا ، لكن
كاشان ليست مدينتي
مدينتي ضاعت
وأنا بالحمى شيدت مدينة في ضفة أخرى من الليل
اهل كاشانم اما
شهر من كاشان نيست .
شهر من گم شده است .
من با تاب ، من با تب
خانه اي در طرف ديگر شب ساخته ام .
العودة إلى كاشان
فكرة العودة إلى كاشان تتشابه مع كثير ممن لديهم يوتوبيات حلموا بها ،فمولوى يهفو أن يصل إلى نيستانه ، وحافظ طائره فى شوق إلى ملكوته ، ووجه الشبه هنا هو أن الإنسان بقى بعيدا عن جنته التى حلم بها، ويآن من هذا الفراق ، وإن هدفه العودة إلى تلك الجنات النورانية التى يحلم بها.
ومن هذا المنطلق تتشابه يوتوبيا سبهرى مع الآخرين ، رغم أن كلا منهم لديه جنته الخاصة الحالم بها .
فسبهرى بقى بعيدا عن كاشانه النورانية ، وصار اسيرا فى طهران ، لكن كاشانه كانت تناديه تجاهها وأحيانا يناديها ، فهو يجب ان يرحل من طهران ويعود إلى كاشان ، لأن فى هذا الوطن النبع الصافى والشجر الأخضر والعشق الحقيقى والانسان قريب من العشب والروض والأرض ، ويفهم نبض الورد
فسهراب يوضح أسرار لهذه الطبيعة البسيطة أن كل شئ فيها يعرف بعضه البعض ، وأن الكلمة تتحد مع الورقة وأن الأشياء التى نفتقدها فى المدينة أو نحتقرها إن رأيناها ، لديها أسرار لايفهما أى إنسان ، بل تحتاج إلى إنسان لديه درجة عالية من الشفافية والمشاعر .
فكل ما حولنا من كائنات ، لديه حياة وروح وسر لانفهمه ، فالعيب فينا لأننا لانملك هذه الشفافية العالية ، لكن سهراب أجتاز مرحلة الجمود هذه فلديه حس عال ، حس فنان تشكيلى ، فأستطاع أن يرسم حلمه بكلمات تقطر شعرا . أننا عندما نشاهد تعبيراته نجد فعلا يرسم عالم من الجمال والسحر ، نفسنا تتمناه رغم أن مظاهر هذا العالم موجودة حولنا بشكل دائم ومستمر ، إلا أننا لم نفهمها يوما وكان سبب هذا الغموض الصدأ الذى تراكم على عقولنا ومشاعرنا .
فكأن سهراب يريد أن يقول لنا الجنة تحت أقدامكم ولكن أنتم لاتشعرون لا بجنتكم المفقودة ولا حتى بأنفسكم ...................................... فسبهرى يقول :
أنا فى هذا البيت ، قريب لأسماء الأعشاب الرطبة المجهولة.
اني أسمع صوت أنفاس الحديقة.
وصوت الظلمة حين تنساب من ورقة .
وسعال نور(يمر) من وراء شجرة ،
وعطسة الماء (المنبثقة) من صدع كل حجر صلد.
وسقسقة النورس من سقف الربيع
والصوت الصافى (صرير) فتح وقفل نافذة العزلة،
والصوت الطاهر لانسلاخ جلد العشق المبهم
وتراكم لذة الطيران فوق جناح
وامتناع الروح الصابرة عن الطعام
اني أسمع صوت (قدوم) قدم التمنى
صوت خطى الدم المنتظم في الأوردة
ضربات السحر فى برج الحمام
وخفقان قلب ليلة جمعة،
وجريان مسمار مدبب فى الفكر
وصهيل الحقيقية الطاهر من بعيد
ودبيب حذاء (خفي) الايمان في زقاق الشوق
وصوت المطر على درجات الحب الندية
على نغمات البلوغ الحزينة
وعلى صوت (أناشيد) شجيرات الرمان.
وصوت تلاشى زجاج الفرحة فى الليل
وتمزق ورقة الجمال
ملأ وتفريغ كأس الغربة من الرياح.
…………………………………..
قريب أنا من قلب الأرض
أفهم نبض الورود
أنا عالم بمصيرالماء الرطب ،بطبائع الشجرة الخضراء
من در اين خانه به گم نامي نمناك علف نزديكم .
من صداي نفس باغچه را مي شنوم
و صداي ظلمت را ، وقتي از برگي مي ريزد .
و صداي ، سرفه روشني از پشت درخت ،
عطسه آب از هر رخنه سنگ ،
چكچك چلچله از سقف بهار.
و صداي صاف ، باز و بسته شدن پنجره تنهايي .
و صداي پاك ، پوست انداختن مبهم عشق،
متراكم شدن ذوق پريدن در بال
و ترك خوردن خودداري روح .
من صداي قدم خواهش را مي شنوم
و صداي ، پاي قانوني خون را در رگ .
ضربان سحر چاه كبوترها ،
تپش قلب شب آدينه ،
جريان گل ميخك در فكر
شيهه پاك حقيقت از دور .
من صداي كفش ايمان را در كوچه شوق
و صداي باران را ، روي پلك تر عشق
روي موسيقي غمناك بلوغ
روي آواز انار ستان ها
و صداي متلاشي شدن شيشه شادي در شب
پاره پاره شدن كاغذ زيبايي
پرو خالي شدن كاسه غربت از باد
*****
من به آغاز زمين نزديكم
نبض گل ها را مي گيرم
آشنا هستم با ، سرنوشت تر آب ، عادت سبز درخت
*****
نداء العودة
تراودنا فى القطعة الشعرية ( نداء الابتداء ) لسهراب أفكار العودة إلى يوتوبياه كاشان وأنه يجب أن يحزم أمتعته ويعود إليها ،إلى تلك الجنة المفقودة ففيهاالأرض تنتفض من جمال ماتحمله من أشجار نادرة وطبيعة ساحرة.
- فسبهرى عندما يتذكر كاشانه يصنع لنفسه وطنا آخر، وطنا خالد وطنا بعيدا عن طهران الظالمة وعن
ظلمة التمدن الصناعى.ودائما يتخيل وطنه وهو يناديه وان صوته مازال مألوفا وان هذا النداء يجعله فى حالة ثورة ، لذا قرر الرحيل إلى وطنه فيقول فى شعره :
من الذى نادى : سهراب؟
كان الصوت مألوفا
كالريح من جسم الورق
يجب الليلة أن أحمل حقيبة
وأضع ثوب وحدتى
وأذهب إلى جهة ما
حيث تظهر الأشجار الأسطورية
صوب ذلك الاتساع دون الكلام
الذى دوما ينادينى
چه كسي بود صدا زد : سهراب ؟
آشنا بود صدا مثل هوا با تن برگ
بايد امشب بروم
بايد امشب چمداني را
كه اندازه پيراهن تنهايي من جا دارد، بردارم
و به سمتي بروم
كه درختان حماسي پيداست،
روبه آن وسعت بي واژه كه همواره مرا مي خواند .
................................................
اليوتوبيا بين
سهراب و القدماء
إن المتأمل فى شعر سهراب يجد أنه لايستطيع أن ينكر أنه إمتداد لزمان قد ولى ورحل .
فقد تشابه سهراب مع سابقيه فى أفكار كثيرة، لكن مع فارق معالجة الفكرة ، فالقدماء من الشعراء الفرس عالجوا قضاياهم بنوع من السمو ، فأستخدموا أفكارا وعبارات ذات دلالات سامية وراقية ،رغم أن المجتمع حولهم كان بسيطا ،إلا أن حس أهله كان عاليا ومرهفا غير منشغل بالمادية ، قادراعلى استيعاب أى فكرة سامية وراقية. فكانت القضايا راقية رقى السماء .
وسهراب فى عصره حاول أن يشابه القدماء فى ذلك ،فحمل فى أشعاره يوتوبيا السابقين ولكن عالجها بمفاهيم أرضية مادية حتى يستطيع أن يعيها أهل زمانه.
وبالبحث فى كتابه الشعرى وقع أقدام الماء و فى قطعته الشعرية نداء الابتداء وجدنا أنه خير دليل على ذلك ، فوجدناه يبحث عن يوتوبيا مفقودة بحث عنها أيضا القدماء أمثال مولانا وحافظ .
كاشان سبهرى ونيستان مولوى
نحب أن نشير أن لسهراب سبهرى أصلين فى كثير من أفكاره وهما:
1. الطبيعة البدوية التى هى مظهر النور .
2. التمدن الصناعى الذى هو مظهر الظلمة .
ففى البداية قد عاش الإنسان فى أطراف الطبيعة البدوية و رغم كونه وحيدا فى هذا المكان إلا أنه كان يعيش فى دنيا من السعادة .
وتشخصت هذه اليوتوبيا عند سهراب فى مدينته كاشان ، التى كانت تمثل حلمه المفقود أمام وطأة التمدن الصناعى فى طهران .
واليوتوبيا تجلت فى شعر مولوى أيضا ، وأتضحت بشكل لايحتاج إلى تأويل فى قصيدة الناى وسمى هذا المكان بـ ((النيستان)) أى منبت الغاب.
حيث بين مولوى أن الانسان أنفصل عن هذا المنبت النورانى وصار أسيرا فى قفص التمدن الصناعى أى (( الحضارة المادية)) .
لذا بين كل من سبهرى ومولوى أنه يجب على بنى الإنسان التحررمن سجن التمدن والعودة مجددا تجاه الوطن الأصلى. تجاه الطبيعة البسيطة ، التى رغم بساطتها صارت يوتوبيا يحلم بها أى انسان ليفر من وطأة التمدن الصناعى ، الذى أخرجه من كيانه كإنسان ليصير أحد آليات هذا التمدن المادى .
فكان الوطن الأصلى عند مولوى الــ (((نيستان)) حيث المكان النورانى الذى آتى منه الإنسان وعليه أيضا العودة إليه مرة ثانية .
لكن وطن مولوى يختلف عن وطن سهراب فى أنه سماوى نورانى ،ففلسفة الوصول إليه تعتمد على نظرية البقاء فى الفناء التى نادى بها مولوى .
فى حين أن الوطن الأصلى عند سبهرى يعتمد على العودة مجددا تجاه الطبيعة البدوية والإتحاد معها والتى تمثلت عنده فى مدينته (( كاشان )).
اليوتوبيا فى الأرض أم فى السماء
الإختلاف الأول بين سبهرى ومولوى فى هذا الموضوع أن سبهرى يرى أن الطبيعة البدوية من روافد النور، لذلك هو يمدحها ويناديها . وكانت اليوتوبيا عنده تنهض على عتبات الطبيعة البدوية .
فى حين أن مولوى يرى الدنيا وما تشتمله من طبيعة بدوية رافدا من روافد الظلمة لذلك هو فر وهرب ونفرمنها فيقول أن الله قد خلق هذا العالم ، حتى يتضح نوره عزوجل عن الظلمة .
( حق تعالى ضد نداشت ،يس اين عالم را آفريد از ظلمت تا نور او ييدا شود .)(مولوى كتاب فيه ).
وهذه النقطة أحد مفاتيح الإختلاف بين بناء اليوتوبيا عند سبهرى وبنائها عند مولوى .
وهذا الإختلاف يعود لإختلاف زمان سبهرى عن زمان مولانا ، فمولانا كان عرفانيا بمعنى ماتحمله الكلمة من دلالة ، وكان مرشدا روحيا ، بنى يوتوبياه على مالديه من فكر عرفانى وأخلاقى .
أما سهراب نتيجة لرحلته إلى الصين تأثربأستاذه الصينى (جوانج زى) حيث كان مرشدا له.( ومعلمه فن النحت )
فكان (جوانج زى) يمدح الطبيعة البدوية ، وكان يهدف إلى العودة إليها ، فى حين أن مولوى كان يرى الدنيا والطبيعة بلا قدر أو قيمة أمام الــ (نيستان). وهو الوطن الأصلى لبنى الإنسان .وكان يهدف إلى الفرار من هذه الدنيا فيقول أن هذه الدنيا عبارة عن زبد ((رغوة)) وهذا الزبد ملئ بالتبن وهى أيضا كالقلب الذى طلى بماء الذهب ، فالزبد يعنى أن الدنيا تعفنت والقلب المطلى يعنى أن الدنيا مخادعة فهى مذهبة فقط من الخارج وهذا يعنى أنها بلا قدر أو قيمة .
((عالم كفى است ، اين عالم كفى يرخاشاك است.....قلب زراندود است . يعنى اين دنيا كفكـ است، قلب است وبى قدروقيمتى.))
وقد تكون يوتوبيا سهراب أقرب إلى الواقع فى التحقيق ، لكن هذا يكون صحيحا فقط بالمفاهيم المادية ، حيث أن اليوتوبيا عند سهراب تجلت فى مدينته كاشان التى تمثل الطبيعة البدوية الهادئة البسيطة فى تكوينها .
لكن ألم تكن المدنية أيضا ، يوما حلم ويوتوبيا بناها إنسان أمس ؟.
وهى التى يفر منها إنسان اليوم . يقول الباحث أنه مازال يصر على استخدام اليوتوبيا كدلالة على عالم من الأحلام الشخصية ، فالحلم لايمكن أن يعمم ، فكل إنسان لديه حلمه الخاص .
لأنه مادامت اليوتوبيات تبنى فى عالم المادة ، فهى دائما ستكون مناط صراع وتبدل وزوال ، لأن هذه هى طبيعة المادة .
فى حين أن يوتوبيا مولوى قد يراها البعض وهما أو نوعا من الخيال الجامح ، إلا أنها أقرب إلى الحقيقة ، لأنها بنيت فى عالم بالنسبة إلى الجميع مفقود وغير مشهود ، إذن هى حلم الجميع ، فيوتوبيا مولوى مكان مفقود ، لا وجود له إلا فى مخيلتنا ، ولا يمكن تخيله أو تصوره و مشابهته بأية مفاهيم أرضية . لذلك هو مفقود فقط على أرض المادة ، إلا أنه موجود فى مخيلة الجميع ، ومادام الأمر كذلك فهو تقرير بحقيقة وجوده من الجميع .
البحث عن اليوتوبيا قضية قديمة
ملامح اليوتوبيا والبحث عنها لم يتجل فقط فى أشعار الشعراء المحدثين فى ايران ، بل وجد أيضا وبشكل ملحوظ فى أشعار القدماء ، أمثال مولانا جلال الدين الرومى وحافظ الشيرازى .
وسهراب سبهرى نراه يبحث عن جنته المفقودة ( كاشان ) ، و بكاشانه المفقودة هذه يذكرنا
بــ ((نيستان ))مولوى المفقود أيضا عند مولانا الرومى .
فالنيستان كان بمثابة الوطن الأصلى للناى الذى عبر به مولانا عن الروح البشرية ، فذاك الناى الذى قطعوه من منبت الغاب دائما يئن ويبكى الرجال والنساء من نفيره وبكائه ، فيقول مولوى:
استمع للناى عندما يقص حكايته ، ويشكو آلام الفراق قائلا:
اننى منذ ان قطعونى من منبت الغاب ، والناس رجالا ونساء يبكون لبكائى
بشنو از نى حون حكايت مي كند از جدايي ها شكايت مى كند
كز نيستان تا مرا ببريده اند از نفيرم مد و زن ناليده اند
( مولوى – مثنوى )
فقصة بقاء سبهرى منفصلا عن كاشانه شيئا شبيها بقصة بقاء الناى منفصلا عن ذاك المنبت الآلهى .
مع اختلاف أن كاشان سبهرى كناية عن جنة أرضية ولكن نيستان مولوى كناية عن ملكوت سماوى وأن الناى سيظل يبحث ويفتش عن الوصال به الملكوت السماوى فيقول مولوى :
فكل شخص بقى بعيدا عن أصله ......... يظل يبحث عن زمان وصله
و كاشان سبهرى تذكرنا أيضا بجنة حافظ الشيرازى المفقودة تلك الجنة الملكوتية المفقودة ، التى هى وطنه الأصلى الذى دائما يناديه ويتمناه فى أشعاره .
مع الأختلاف أن جنة سبهرى جنة أرضية ، فى حين أن جنة حافظ جنة ملكوتية سماوية ، فأكثر غزليات حافظ شرح لفراق هذا الطائر الملكوتى عن تلك الجنة السماوية ،و البحث عن كيفية عودة هذا الطائر ملك السدرة إلى شرفة عرشه ؛ فيقول فى شعره :
قد صنعوا لطائرجنتى الملكوتيه قفصا من جسدى الذى نصفه من عالم التراب
فهم ينادونك ( ياطائرى) من شرفة العرش ،إن ليس مقعدك جسد الخراب هذا.
مرغ باغ ملكوتم نيم از عالم خاكـ ..........يكـ دو روزى قفسى ساخته اند از بدنم
ترا ز كنكره ى عرش ،مى زنند صدا........ نشيمن تو ، نه كنج اين خراب آباد است (حافظ )
وبذلك يتبين لنا أن القدماء كانوا يبحثون عن يوتوبيا موجودة فى عالم غير العالم الأرضي ، عالم لا تلمسه ولا تتحسسه الكفوف - ولاتبصره الأعين فغير مشهود ، إلا أنهم وصفوه بدقة عالية رغم أنهم لم يشهدوه .
زمن المؤكد أن هذه هى فعلا الجنة التى يطمح فى الوصول لها بنى الإنسان ، لأنه لو كانت تلك الجنة فيها شبه من شئ أرضى لما كانت تسمى جنة ، لأن لأرض بكل مالديها من آليات سعادة وجمال إلا أنها تنوط بشئ من الآلم والتعب . فالسعادة على هذه الأرض الترابية غير حقيقة بل تحمل ملامح النسبية .
ويتضح لنا أن سهراب يعانى من كونه منفصلا عن جنة الطبيعة البدوية ، و يبحث عن كيفية العودة والوصال مع تلك الجنة البدوية الأرضية .
فهو يبحث عن مفر لنفسه الحساسة ذات الإحساس المرهف التى لاتجد نفسها فى وئام أو إئتلاف مع ماديات طهران ، حيث إنعدام المناظر الساحرة التى تنجذب إليها النفس ، وهذه الأشياء بالنسبة لشخص فنان تشكيلى وعلى درجة عالية من الحس المرهف كسهراب هى فى غاية الأهمية .
فلديه يوتوبيا مليئة بمعانى بسيطة إلا أنها تعبر عن دلالات عميقة المعنى فكونه لديه يوتوبيا تبحث عن شرب الماء بلا فلسفة وقطف التوت بلا علم ، والاقتراب من قانون الأرض ، وعدم تلويث الطبيعة وفهم لغة الورود.
يعد هذا كله نوعا من التجرد من علائق المادة ، وهذه القضية نادى بها كبار أهل العرفان فى إيران أمثال سعدى الشيرازى وحافظ وبابا طاهر وغيرهم من أعلام العرفان .
فهؤلاء العظماء أوضحوا أن السعادة لكى تتحقق لأهل هذه الأرض ، يجب أولا أن يتخلصوا من علائق المادة .
فسهراب ببحثه عن يوتوبيا خالية من مادية المدنية ، فهو بذلك يتشابه مع القدماء ، لكن القدماء كانوا يضعون قواعد تصلح لجميع أجناس البشر فى حين أن سهراب كان يبحث عن مكان جاهز تحققت فيه هذه القواعد التى أشار إليها القدماء من بساطة المكان ومحطا للتفكر والتأمل حيث يستطيع الإنسان فى هذا المكان أن يجد نفسه فى عالم من الصفاء ، عالم خال من علائق الدنيا التى تهوى بالنفس إلى التدنى وتثقلها عن التحليق إلى عالم الروح والدهشة والتأمل والجمال .
مفاد ما التنقيب فى أعمال سهراب :
اليوتوبيا تجلت بمفهومها الجديد فى مجموعات سهراب الشعرية ، فنجده فى أى قطعة شعرية إن لم يناد يوتوبياه كاشان يرسم طريقا لها ، أو يبحث عن صوت يناديه لها أو يصف لنا شيئا من يوتوبياه حتى نساعده فى البحث عنها ، وكأنه يساعدنا نحن فى الإنتباه إلى أننا نفتقد شيئا فى حياتنا .
كان سهراب من دعاة السريالية ، والخروج عن الواقع المشوه ، فرفع سُهراب سبهري راية هذه الجماعة مع فرق بسيط أنه كان يمزج شعره بنوع خفيفٍ من العرفان والدروشة .
وكان سهراب سبهري ذلك المتمرد الهادئ الذي أدخل اللون والدهشة والبراعة البصرية الى قلب القول الشعري .
وسهراب ببحثه عن كاشانه لم يكن خارجا عن عصره كما أعتقد البعض ، فعلى العكس من ذلك فروح عصرنا، والانحدار التدريجي للقيم, وظهور فكرة البحث عن الجذور نجد صداها في كثير من أعمال السابقين .
و قلق سهراب فى بحثه ليس قلق روح يأسة تائهة متباكية على أطلال الزمان .
فحقق سهراب مكانته في المشهد الشعري دون ان ينضم لاي تيار سياسي في مرحلة شهدت استقطاب التيارات والاحزاب السياسية للشعراء،كانضمام أحمد شاملو لحزب تودة ، فحزب كحزب تودة كان له نصيب الاسد فى ذلك ، خصوصا وأنه كان معارضا للدولة ، فكان هدفا للمفكريين والأحرار، وبزغ نجمه بعد قيام مصدق بثورته التأميمية الشهيرة .
......................
عالج سبهرى فى شعره قضايا أخلاقية واجتماعية ولكن دون أن يثير حوله أى نقد ، فتحدث عن قضايا الجميع يتفق عليها واستخدم رموزا مقدسة عند الكل لا تنكر فانكارها انكار للذات .
فاستخدم رموزا كالماء كرمزللدلالة على الروح الطاهرة واللون الاخضر كرمز للنبوة المحمدية وهو أيضا فيض الغلة الخصبة للطبيعة ، حيث تنبت الشجرة وينمو العشب ويتفجر البذر النائم من الأرض, وهو الاستقبال الرطب لواحة يتزاوج فيهاالماء والخضرة ليصبحا رمزا لكل حياة ولكل بعث. وأساطير بلاده للتعبير عن أحلامه وأحلام بلاده .
فبذلك حاول سبهرى خلق أجواء خارجة عن رتابة الواقعية الصلبة, بسيط في التصوير، يخلق حوله فضاءات روحانية وشرقية ، متأصل في أرضه كأي شاعر أصيل, يرتوي من نبع وطنه, هذا النبع سواء شئنا أم لم نشأ, في بلد ذي تراث شعري ضخم كإيران له نكهة روحانية .
فهو لا يرغب في أن يحد شجرة نسله الإيراني. فيذهب للبحث عن أسلافه الأسطوريين في الهند. حبه للهند فتح آفاقه على اللغة الأساسية للأساطير.
كان من اتباع المدرسة الإشراقية،العرفانية التى تتميز بالتفاؤل والنظرة للحياة بنظرة المتفائل السعيد ،المبتهج فنجد سهراب سعى إلى استخلاص شفافية عرفانية محضة وبثّها في ثنايا القول الشعري ، الأمر الذي جعل هذه الشفافية ملازمة لشعره كما في قصيدته (المسافر) أو قصيدته (صوت قدم الماء) كمثال.
فكما يقول الشاعر الكبير أحمد شاملو أن لا أحد ينكر أن سهراب لديه نزعة عرفانية ولكن ليس العرفان الذى تعارفنا عليه ، وعلى ذلك شابه الصوفية فى أشياء ، لكن لايمكن الادعاء أنه كان صوفيا محضا .
لاحظنا أيضا ان سهراب كان فنانا بمعنى الكلمة ، فلم يستطع أن يفصل بين الشعر والرسم بل مزج هذا بذاك .فهو فنان تشكيلى جاب الدنيا بأعماله الفنية ، والفنان التشكيلى معروف بقدرته على دمج الصور والأشياء فى حيز واحد ، كذلك استطاع سهراب أن يمزج الشعر بالفن ،كانت أشعاره ماهى إلا عبارة عن لوحات فنية مليئة بالألوان والحياة والحركة والسكون، وجميع ما يحيطنا من طبيعة وكائنات ، فنجد أشعاره مليئة بالطيور والحيوانات والأشجار
فأنت عندما تقرأ قصيدة المسافر لسهراب تشعر وكأنك أنت هذا المسافر وتسلك طريقا يمر من بين أحد الغابات العامرة بمظاهر الطبيعة من طيور وحيوانات وأشجار ، فالصورة كاملة المعطيات عند سبهرى ، إن وجدت الطيور أعلم أنك ستجد الأشجار والماء والعشب والزهور.
كان لديه قدرة عالية على دمج هذا كله فى قالب واحد ، وفى رأيى الفضل الأول لذلك حس الفنان لدى سهراب .
نجد أيضاحياة سهراب مثيرة للجدل والدهشة ، كانت بسيطة ويبحث عن البساطة رغم اقبال الحياة عليه ، فجاءت له فرصة عن طريق أعماله الفنية ، ولكنه يترك المجتمع ومع ذلك لا ينسى بنى الانسان ويوجه لهم النصح والارشاد. ولم يكن منعزلا عن المجتمع بكل مفهوم الكلمة ، فهو محبوب ومساغ عند الجميع .
.................................................. ..................
المفضلات