"أهود أولمرت" قد قلت حقاً!
د. فايز أبو شمالة
يحكى أن "ابن زريق البغدادي" وبعد أن لامته زوجته على ما هو عليه، تركها في بغداد، وذهب إلى بلاد الأندلس بحثاً عن الرزق، ولكنه لم يوفق، ومات هنالك وحيداً، غريباً، وقد ترك خلفه قصيدة عتاب لزوجته، مطلعها:
لا تعذليـه فإن العذل يُوْلِعُـهُ قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعهُ
جاوزت في لومه حداً أضرّ به من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
ودون مقاربة التشبيه فقد قال "أهود أولمرت" حقاً، فهل ستسمعه السلطة الفلسطينية؟
فهو لم يكن غُراً سياسياً، كان ناشطاً حزبياً، ومحامياً ناجحاً عندما وقف صارخاً في وجه "مناحم بيجن" ضد اتفاقية "كامب ديفيد" سنة 1979، رافضاً الانسحاب الإسرائيلي من سيناء المصرية، وكان محقاً بعد ثلاثين سنة باعترافه بخطئه، بل وتأكيده على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية، والقدس، والجولان السورية، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين إذا أراد الإسرائيليون تحقيق السلام، ثلاثون عاماً من المتغيرات السياسية كانت كفيله بأن تجعل "أهود أولمرت" ينتقل من أقصى التطرف إلى معسكر المهادنة.
بالعودة إلى التاريخ القريب، قبل ثلاثين عاماً، عندما جنح الرئيس المصري محمد أنور السادات إلى السلام، وأعلن: أن حرب أكتوبر ستكون أخر الحروب بين العرب وإسرائيل، وأن 99% من أوراق الحل في يد أمريكا، هلل اليهود اطمئناناً، واستقراراً، وأخذتهم العزة بالإثم، وانتابهم الشعور القوي بنجاح مشروعهم في السيطرة المباشرة على فلسطين، وغير المباشرة على كل الشرق، وزادت الثقة بالنفس اليهودية المتميزة، وبالاقتصاد الإسرائيلي، وبمنطق القوة العسكرية القادر على فرض الشروط السياسية، ولاسيما أن إسرائيل هي صاحبة شعار الأرض مقابل السلام، وقد تحقق لها السلام على الحدود المصرية، فليس غريباً في هذا الجو اليهودي المفعم بالثقة، أن يقف "أهود أولمرت" ضد الانسحاب من سيناء، ويصرخ في وجه "مناحم بيجن" لا للانسحاب من أرض إسرائيل التوراتية، لقد تصرف الرجل وفق المرحلة السياسية المطمئنة لإسرائيل، وكان واقعياً.
فما الذي تغيّر، وغيّر المواقف؟
بعد ثلاثين عاماً يعود التاريخ إلى بداياته الأولى لتكوين الدولة العبرية، فمن الشمال تتعاظم قوة مجموعة من المقاتلين تحت اسم تنظيم "حزب الله" في جنوب أصغر دولة عربية، تتحدى الجيش الذي لا يقهر، وتقصم ظهره، وفي جنوب فلسطين تتعاظم قوة مجموعة من المقاتلين تحت اسم "حماس، والجهاد الإسلامي" تقف ثابتة في وجه الجيش الإسرائيلي، ولا تفكر في إخلاء الميدان أمام القوة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، ومن الشرق ينطلق صوت الرئيس الإيراني يهدد الدولة العبرية بالزوال، ويصر على ذلك، ولحديثة صداه المباشرة الذي انعكس نصراً ملموساً سنة 2006، وأثبت جدواه.
إن هذه المتغيرات الميدانية الجديدة التي لا يتجاهلها المجتمع العبري، كانت وراء تغيير مواقف "أهود أولمرت" السياسية، ليقف، ويعاود التفكير بحسه الأمني، وحرصه المسئول على مصير الدولة العبرية، وعلى مستقبل بقائها في المنطقة، وخير شاهد على ذلك؛ الاحتفالات التي نظمتها الدولة العبرية في أيار 2008، في ذكرى ستين عاماً على قيامها، والحشد الكبير لرؤساء الدول، والمسئولين الأوروبيين المشاركين في العرس العبري ـ المأتم العربي ـ والتي تعتبر رسالة طمأنة للتجمع اليهودي؛ بأن إسرائيل باقية، وضمن هذا المنطق يمكن تفهم الأسباب الكامنة خلف تزود إسرائيل مؤخراً بمنظومة الصواريخ الأمريكية المتطورة، والتي تندرج ضمن مفهوم الطمأنة، وإعادة الثقة للدولة العبرية بنفسها، لأن الواقع العسكري في إسرائيل يقول: أن في هذه الدولة فائض تسلح، لم ينكره قادتها العسكريون.
الاستنتاج مما سبق من متغيرات ميدانية لن تقف عند قناعات "أهود أولمرت" السياسية، بل ستتعداه بعد فترة قصيرة إلى مزاج المجتمع الإسرائيلي الذي سينعكس بالسلب على الأحزاب اليمينية المتطرفة في انتخابات "الكنيست" القادمة. فكلما مال العرب إلى المسالمة مال اليهود إلى الاطمئنان، والتطرف، وكلما مال العرب إلى التشدد في حقهم، عاكسهم اليهود، ومالوا إلى المهادنة، والبحث عن السلامة، وهذه حقيقة يتوصل إليه كل مراقب للانتخابات الإسرائيلية، وتأثرها بالجنوح العربي للسلام أو الحرب.
فهل ستحرك كل هذه المتغيرات السلطة الفلسطينية لتدرك قيمتها أولاً، وتتعرف على أهميتها في حفظ الهدوء للمجتمع الدولي، وللدولة العبرية ثانياً، وتتصرف على أنها قوية رغم ضعفها، وأنها حاضرة رغم غيابها، وأنها مخيفة رغم ارتجافها، وأنها غنية رغم عوزها، وأنها أكثر قدرة على فرض مشيئة الشعب الفلسطيني السياسية على الدولة العبرية، والرباعية، ولاسيما إذا تحققت المصالحة مع تنظيم "حماس"، وتم الاتفاق على برنامج علم سياسي يعيد للقضية الفلسطينية حضورها المعنوي في النفس العربية، والإسلامية، ليغدو تحصيل حاصل ما قاله "عكيفا إليدار" في صحيفة "هآرتس" : بأن إسرائيل ستعطي المناطق، كل المناطق، لتحصل على دولة يهودية، أما إذا لم تعط المناطق بما فيها شرق القدس، فستحصل على البلقان. وفي هذا المقام سأسجل حرفياً ما نطقه "بنيامين بن أليعزر" وزير الحرب السابق، في لقاء مع "ريشت بيت" حين قال: إن انهيار السلطة الفلسطينية بمثابة كارثة على إسرائيل.
هل تسمع السلطة الفلسطينية، أم ما زال العرب كما وصفهم " موشى ديان"؟