"هشام الانطكلي" سجين عكا
د. فايز أبو شمالة
من أراد أن يدخل مدينة "عكا" ويكتشف سر الصراع الدائر بين اليهود والعرب، ليأت معي إلى أحد السجون الإسرائيلية، ويدق برفق على باب زنزانة السجين "هشام الانطكلي" ابن "عكا" والمحكوم أكثر من مؤبد، والسبب: أن "هشام الانطكلي" بعد أن ألقى القنبلة على مجموعة من الجنود الإسرائيليين، عاجلهم بالرشاش، فقتل من قتل، وجرح من جرح، ليقبض عليه، ويودع السجن مع آلاف السجناء الفلسطينيين، لكل منهم قصته مع المقاومة والغاصبين.
لم يحدثني "هشام الانطكلي" عن قصته المثيرة عندما التقيت معه في سجن نفحة الصحراوي سنة 1991، ولم يحدثني عن قصته طوال الفترة التي كنت معزولاً معه في زنزانة واحدة في سجن "عسقلان" سنة 1992 أثناء الإضراب عن الطعام الذي نفذه السجناء الفلسطينيون لمدة تسعة عشر يوماً متواصلة، إلى أن جاءني خبر وفاة والدي في اليوم التالي لفك الإضراب، فأراد أن يخفف عني حزن الفقد من خلال ما مر معه في حياته، فقال:.
أبي مسلم، وخطيب مسجد من مدينة "عكا"، تزوج بامرأة يهودية بعد أن أسلمت، وكنت نتاج هذا الزواج، وعندما كبرت، التحقت بالجيش الإسرائيلي جندياً، إلى أن جاء يوم ضاق صدري من كراهية اليهود للعرب، وتكشفت أمام عيني أحقادهم، وعنصريتهم، وتحقيرهم لكل ما يمت للعرب بصله، وأنا العربي؛ جندي إسرائيلي عليه أن يمتص كل غضب اليهود، وعنجهيتهم، وأوساخهم المتراكمة لآلاف السنين، فخططت، ورتبت، ونفذت عملية الانتقام منهم، والنتيجة كما ترى، أشعر بالرضا، والارتياح النفسي في السجن.
لم تفارق هذه القصة حياتي، بل أجبرتني للاجتهاد في التحليل بيني وبين نفسي، لماذا صار جندياً إسرائيلياً، يأتمر بأمر اليهود، ولماذا تحول إلى مقاتل فلسطيني، يتفجر موتاً في موقع اليهود العسكري؟
اجتهدت، وتوصلت إلى التالي: في بداية حياته تعرض " هشام " إلى استفزاز الصبية العرب في "عكا" عندما كانوا يلعبون، يتخاصمون معه، فيقولون له ببراءة، واستفزاز : يا ابن اليهودية، كبر الفتى، وكبر في قلبه الإحساس بالظلم من أطفال العرب الذين يسبونه بأمه، فصار جندياً إسرائيلياً، لينتقم لأيام الطفولة، ولكن ظل من داخله غير مقتنع، وغير منتمٍ حقيقي للجيش الإسرائيلي، فهو العربي، المسلم، والمصر في حديثة معي أن أمه صارت مسلمه، وهذا ما أوقعه فريسة للجنود اليهود الذين لم يرطبوا جوفه، ولم يهدهدوا سره، ولم يتفهموا وجدانه، فصاروا يشتمونه، ويحتقرونه لنسبه إلى أبيه العربي، فيكفي أن يقول اليهودي باشمئزاز: هذا عربي، لتشتعل في الصدر نار الحقد على اليهود ، وهذا ما حصل مع "هشام" الذي نسي، وتغلب على ندف الكراهية المخزن في طفولته ضد أبناء العرب، ليقع في جب الاغتراب، يرتجف تحت هدير الأحقاد المتصارع في التعامل مع اليهود.
آمل ألا يكون استنتاجي هذا مزعجاً للسجين " هشام الانطكلي" والذي قصدت من ورائه التأكيد على سعة المسافة الفاصلة بين حياة اليهود وحياة العرب، وعلى عميق الكراهية، والشرخ القائم بين ثقافتين، وعقليتين، ونفسيتين، ومنهجين للحياة، اليهودي من شعب الله المختار، والعربي من الأغيار، اليهودي غاصب للأرض متغطرس، والعربي مغتصب، مهان، اليهودي قائد، وسيد، وظالم، وقاس، وقاتل، ومتسلط، ومتحكم بكل شيء، والعربي على النقيض، إن هذه الهوة العميقة لا تنطبق على مدينة "عكا" التي تفجر فيها التصادم بين اليهود والعرب، وإنما تنطبق على صلب الصراع العربي الإسرائيلي الذي ترسم معالمه الكراهية المتنامية، وتحدد اتجاهاته الأحقاد المكدسة، والمشاعر الوطنية، والدينية، والوجدانية الفائضة، وقد مثلت "عكا" طرف جبل جليد للوجع الرابض، وأحسب أن هذه رسالة "عكا" للساسة الفلسطينيين؛ بأن كل المفاوضات، واللقاءات لن تفرز في النهاية غير ردة فعل عربية غاضبة على ما يمارسه اليهود من نهب للأرض، وحواجز في الضفة الغربية، وحصار على غزة، وتحقير للمفاوض الفلسطيني، وللمفاوضات السياسية، واستخفاف بكل عربي، وبالتالي سينفجر الوضع الراهن في وجه اليهود على طريقة السجين" هشام الانطكلي" ابن "عكا".
ما يثير الاهتمام، أن الذي يقوم بالتحريض، والحرق لبيوت العرب، هم اليهود، كما أفاد قائد الشرطة الإسرائيلية نفسه، ومع ذلك ستظل "عكا" تحرس البحر، إن ذُكِرَ سورها نكس خليفة نابليون رأسه، وزال الكسوف عن مستجدات الخريطة السياسية الدولية، ولجّت الدنيا أمام ناظري الصامتين، وكلما ذكرت "عكا" تاهت اتجاهات البقاء في كتب اليهود، وسقط القناع عن أكذوبة تعايش الشاة، والذئب، والقاتل والقتيل، إنها "عكا" التي عافت الصمت العربي، والانقسام الفلسطيني، فأحرقت سفن المذلة، وكسرت مجاديف المهانة، على أمل أن يتحرك الفلسطينيون لإعادة وحدتهم، وصياغة بحور الشعر العربي بشكل جديد، لتعزف بقوافي الأمل، وتدندن أغنية العودة إلى فلسطين، وتفجر الحنين الشعبي المكبوت للكرامة المفقودة.
المفضلات