عن دار أسامة للنشر والتوزيع:
صدرت رواية الكرسي للروائي الجزائري الحاج بونيف..
تقع الرواية في مائتين وأربع صفحات..من الحجم المتوسط..
ومن العنوان يتضح الصراع القائم حول السلطة ، ومن يعتلي الكرسي من الأبناء..
ولأنها سياسية لم يشأ الكاتب أن يعطي أسماء لأبطالها..فالبطل الرئيس..هو الأم..والأبناء يعطيهم أرقاما وترتيبا..الأكبر ،الأصغر..الأوسط ..الأول الثاني ،الثالث ،الرابع..
وترتيبهم حسب أهميتهم ، وخدمتهم للأم ..التي هي رمز للوطن..تتمتع بالحكمة، والرزانة..وحب الجميع..والحفاظ على اللحمة..والدعوة المستمرة إلى الخدمة والتعاون..والاهتمام بخدمة الأرض..وعدم الاهتمام بالكرسي..
وأن المستقبل الحقيقي في خدمة الأرض..وليس الاعتماد على إيرادات البترول..الذي يرمز له بالجب..
وأن السياسة الداخلية تصنع داخل البيت ، وليس من وراء البحيرة..(البحر الأبيض المتوسط)..
أو الاعتماد على من طردته بالأمس..
(الأم وحدها التي لا يهمها ما يفكر فيه من طردتهم..
فهي تضع اللوم على أولادها إن هم لم يستطيعوا لمّ شملهم..
والعمل بصدق وإخلاص على أرضهم..) ص:182..
الذين طردتهم هم المحتلون..فرنسا الاستعمارية..وحتى تربط الأبناء بالأرض والأصل ..وتبين لهم حقيقتهم..تعود الى التاريخ تتصفح ما خط السابقون وما تركوا من أنوار يستعين بها الأبناء في مسيراتهم المتتالية..
واعتماد أحد الأولاد عليه..واستشارته في كل كبيرة وصغيرة..وهو ما يوحي إليه الكاتب في أكثر من موضع..ونقرأ في ص:58نصيحة الأم :(...واعلموا أن أعداءكم لا يريدون لكم أي اتحاد ...إنهم لا يريدون أن يروكم إلا ضعافا وفقراء لتبقوا دائما تتبعونهم ، وإن عيونهم لتقع على أرضكم الخصبة، وعلى ثرواتها الباطنية، فيتمنون اندثاركم..لتبقى لهم..)
انتفض أحدهم في وجهها:أرجوك أن تختصري..
وان تكفي عن كيل التهم إلى هذا العدو الوهمي الذي ترينه أنت فقط.فليس لنا عدو..
وان كنت تعرفينه فاذكريه بالاسم من دون لف ..)
هكذا يفكر أتباع وأذيال المستعمر..يدافعون عنه بكل قوة ، ولا يعتبرونه عدوا..بل هو الصديق والشقيق..ومن تجب مشورته..والاستعانة به..
والرواية ترسم تاريخيا الحركات التي سادت البلاد في مطلع التسعينيات ، وما نتج عنها من تعددية سياسية..وانتشار أفكار خطيرة هددت (الأم)في وجودها..لولا حكمتها..والحفاظ على تماسك أولادها، على الرغم من :
(الهرج والمرج ما زالت غذاء الشارع،فهي تأكل كل ما وقع في طريقها،
وامتدت أيدي حراس القصر لتعتقل بعض الرؤوس المشاغبة، واستطاع المتظاهرون النيل من بعض الحراس بالجرح، وصلت المشادة إلى أوجها،
وتحولت المدينة إلى نار و دخان ونهب وغصب وسلب...)ص:85/86
ولكن الأمر لا يستمر على هذا المنحى الذي أراده المخربون ، وبإيعاز خارجي..هدوء الأم ورباطة جأشها جعلاها تتصرف بحكمة، وتصل بأولادها إلى برّ الأمان قبل انتشار السعير في كل مكان تقول ناصحة احد المغرر بهم:
(إنك من يخسر الفرصة بانضمامك إلى هذا المعسكر الخاسر...)..وتضيف..
(إنك بهذا تخون من أعطيتهم العهد على تنفيذ الخطوات التي توصلنا الى بر الأمان..)..
وفي الصفحة 191 نجد تلميحا ذكيا الى من يراه الكاتب منقذا للامة في لحظة الضياع والانغماس في إشكالية الحكم..وسؤال الفتنة :من يقتل من؟..وغيرها من القنابلا الموقوتة التي زرعها المشككون في قدرة الجزائريين على تجاوز الفتانة..فقد أسمت الأم أحد أحفادها (عبد العزيز)..
(وازينت أفرشة الأبناء بثلاثة مواليد جدد، كان حظ العروس منهم صبيا بهي الطلعة أسمته أمه الكبرى (عبد العزيز)
عادت الحياة كما كانت إلى الأم ..وتسير الرواية على هذا المنحى التفاؤلي حتى نهايتها..
على طريقة الواقعية الاشتراكية ، التي تدعو دائما إلى التفاؤل والأمل المشرق في المستقبل..على الرغم من المحن والصعاب..(ولسان حال كل واحد يردد الدعاء:
- "اللهم ادم هذه النعمة.."ص:198
((كانت الأم تعود من حين الى آخر الى صندوقها..فتفتحه أحيانا وحدها ،
وأحيانا بحضور أولادها..إنها لا تني عن البحث في ثناياه..
وتتأمل كل مقتنياته التي ما زالت تحتفظ بها..وتعتز بها..)ص:183
ولان مضاعفات الأزمة السياسية التي حلت بالبلاد ، فقد رأى الروائي أن ينهي روايته في ما بقي من الصفحات إلى التبعية الغربية ..أو للضفة الأخرى كما يسميها الكاتب ..( تحت جنح الظلام ..قصد البحيرة وامتطى مركبه المعد لمثل هذه الأوقات الحرجة..)ويضيف.. (كان جائعا خائفا..أخذته سنة ،فاستسلم لسبات عميق..)وهذا الجوع..إنما الحاجة الى التشبع بالقيم الوطنية الأصيلة..والخوف إنما الحاجة الى الأمان والاطمئنان بين إخوته وعند أمه..ويضيف الكاتب(كان في لجة البحر..)ص:202 ولان هذه التبعية مآلها الندم والخيبة ..فقد رمز الى الهارب من أمه والمحتمي بالغرب..كمن تلاطمه الموج وسط بحر لجي..لولا أن تداركته يد القدر لتحبسه أفكاره الخاطئة الى رجل كرسي أشبه بحقير ينتظر الاستجواب والمحاكمة....
- (لتأخذ العدالة مجراها..فالرأي رأيها..ولتحكم بما تراه مناسبا..!
وجهت له التهم...
فاعترف بكل ما نسب إليه..ندم وبكى وتأسف وطلب الصفح من أمه ..ولكن....!ص:204
وتنتهي الرواية عند هذه العبارة..
لتجعلنا نشارك النهاية التي نراها من وجهة نظر فنية لا تاريخية..وما الذي سيحدث في نهاية المحاكمة..وان كنت أرى أن الوطن يغفر زلات الأبناء متى عادوا وندموا..وقلب الأم اكبر من الأخطاء التي يحملها الأبناء في لحظة غرور وابتعاد ..
رواية ممتعة في تراكيبها.. وسلاسة لغتها وعذوبة مفرداتها..وتوالى الأحداث..والإسقاط السياسي الذي تؤرخ له..تستحق القراءة فعلا..
المفضلات