مضمار الشعر.. وما أدراك ما مضمار الشعر. قال الخليل في معجمه "كتاب العين": الغناء مضمار الشعر أي مختبره، واستشهد بقول الشاعر ( ولعله حسان بن ثابت ) :
تغن بالشعر إما كنت ذا بصر** إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وأصل المضمار أنه الموضع الذي تضمر فيه الخيل ؛ قال : وتضميرها أن تُعلَف قوتاً بعد السِمَن .
وأما في فن الشعر فإن الغناء يقوم بهذه المهمة ويؤديها للشاعر خير أداء من حيث تراه يعمل على ضبط وزن القصيدة فيخلصها من الزيادات التي أدت إلى ترهلها ثم ما تلبث أن تخرج من بين يديه نافرة كالخيل الشوارد .
من هنا ، فأنا افترض في كل من سيأتي بقصيدته إلى هذا المضمار بغية اختبارها ، أن يستعين على ذلك بالإنشاد أو الغناء تنفيذا لوصية حسان .
وأتذكر أني حين فكرت في نظم الشعر، وكان ذلك في ميعة الصبا أو أول الفتوة ، لم أحسب يومها أن الأمر سيتجاوز نثر حفنة من الكلام في شطر وحفنة في الشطر الآخر ، فهكذا رأيت معمار البيت الذي كنت أحفظه في أناشيد تلك المرحلة من التعليم، وما كان أمر القافية بعسير علي وذلك لسهولة الوصول إلى كلمات تتفق في أواخرها. وهكذا إذن توكلت على الله وبعثت بقصيدتي الأولى إلى مجلة "صوت الشرق" التي كانت تصدرها الهند في القاهرة إذ ذاك ، حتى إذا جاءني الرد عرفت منه أنهم ينصحونني بالتريث إلى أن أبلغ المرحلة التي يدرس فيها علم العروض وهم يعنون بها مرحلة الثانوية. ولكني لم أكن أطيق صبرا لبلوغ تلك المرحلة فعملت على الحصول على كتاب في العروض حتى إذا وقع في يدي أدركت عندها أني لن أفقه منه شيئا وسرعان ما انصرفت عنه يائسا .
ثم بعد عدة أيام من انصرافي عن كتاب العروض وجدتني أدندن لحنا لمحمد عبد الوهاب كان قد غنى به قصيدة اشتهرت للشاعر علي محمود طه يقول في أولها:
أخي جاوز الظالمون المدى** فحق الجهاد وحق الفدا
ولما كانت تلك القصيدة من محفوظاتي المدرسية آنذاك، عكفت على إنشادها باللحن الذي عرفته لها ولم أتوقف عند تلك الأبيات التي حفظتها من قصيدة على محمود طه بل انطلقت في نظم مزيد من الأبيات معتمدا على الإيقاع الذي ظل منسربا في داخلي من جراء حفظي للحن تلك القصيدة .
كان الغناء إذن مختبري الأول للتأكد من سلامة الوزن ؛ وقد كان ذلك وحده كفيلا بأن يغنيني عن درس العروض، إلا أن شهوة البحث لدي لم تتوقف ، وبدلا من أن أكتفي بقراءة كتاب واحد في العروض قرأت كل ما كان يقع من كتبه بين يدي ؛ حتى المخطوطات لجأت إلى جمعها وتحقيق ما أمكن تحقيقه منها. ومع ذلك فإن أحسن كتاب في العروض لن يجدي فتيلا إذا لم يرافقه الطبع السليم عند الشاعر ، وليس يتولد هذا الطبع عنده وينمو إلا بالإنشاد والغناء .
المفضلات