مصطفي جمعه كيف دخل غزة وكيف رجع منها





قال لي مصطفي جمعة

" كنت شابا مصريا مرحا ومحبا للحياة , وكان تفاؤلي هذا يرسم لي صورة وردية للحياة ,فأنا أحب كل الناس , لا أرى كدرا في الحياة مما يشكوه الناس دائما

مصر جميلة وأهلها طيبون وحكامها عقلاء وطنيون ورجال عنوان الشهامة والرجولة ..الخ

أنهيت تعليمي الجماعي ودخلت الجيش , وعلى العكس لم أكن أسعى لأصبح جندي عادي وأقضى سنة واحدة في الجيش و لكني سعيت أن أصبح ضابط احتياط لمدة ثلاث سنوات كاملة ,فان مغرم بالجيش المصري وكلما رأيت شيئا من أثاره ينبض قلبي بالحب والإعجاب له ..

وقد كان , وكنت عنوان الالتزام والجدية في الجيش , وكنت أرى كل ما يشكوا منه زملائي مجرد أخطاء صغيرة وربما كانت مقصودة لسبر أرواح الجنود ونفوسهم في هذا المصنع الكبير للرجال ...

بعد عام ونصف من خدمتي بالجيش وقعت محنة العرب الكبرى حين أحتل صدام حسين دولة الكويت

وفجأة وجدت شيخ مسجد الكتيبة يحضر لنا – هو في العادة لا يحضر ويوكل للصلاة احد الجنود- وخطب فينا عن الحكم الشرعي في هذه الحالة وهو محاولة الصلح ومقاتلة الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله

وسمعت كلمة الرئيس مبارك وكانت في رأئي كلمة حكيمة وقوية , وظل المشايخ يتناوبون علينا ليشرحوا لنا الحكم الشرعي في هذه الحالة , كنت معجبا ومبهورا بهذا الاهتمام بنا وبتفهيمنا الحكم الشرعي والموقف الصحيح في هذه الواقعة , مع كوننا بعيدين عن الحدث

ثم ابلغنا القائد أننا لابد أن نتدخل لنصرة المظلوم وردع الظالم , وبالفعل بعد أيام قليلة صدر قرارا بالنفير لوحدات من الجيش المصري لردع الجيش العراقي المعتدي على الكويت

وكنت واحدا ممن اختير لهذه المهمة

وعلى مدار 20 يوم بعد الاختيار , ظل العلماء والدعاة يحاضروننا يوميا عن الحكم الشرعي في هذه الواقعة حتى أني حفظت الآية القرآنية (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات : 9 )

عن ظهر قلب من كثرة ترديدها بيننا ..

احد العلماء قال لنا ان هذا حكم شرعي واجب على المسلمين القيام به ومن ترك هذا الواجب فقد كفر لانه حكم بغير ما انزل الله في هذه الواقعة !!

أصبحنا متحمسين جدا لهذا الدور " الشرعي" ويوم سفرنا على حفر الباطن بالسعودية جاء الرئيس ليودعنا ويذكرنا بحق الإخوة علينا ودورنا السيادي في الوطن العربي واتفاقية الدفاع المشتركة الموقعة بين كل الدول العربية

وتحدث المفتي وقتها مذكر بالحكم الشرعي والآية الكريمة

سافرنا على طائرة حربية بمعدات وأسلحة حديثة جديدة

وفي المعسكر المعد إلينا وجدنا اهتماما بالغا بنا وبطعامنا وحسن ضيافة من السعودية

وفي اليوم التالي كان الكثير من علماء السعودية بيننا يحدثونا عن الآية الكريمة وتفسيرها , وفي اليوم التالي جاء المفتي وبعض العلماء إلينا ليذكرونا بنفس الآية وذات الحكم الشرعي , وبعدها جاء نجوم الفن والغناء وكرة القدم و وفي اليوم التالي جاء الرئيس نفسه , ليذكرنا بدور مصر واتفاقية الدفاع المشترك وحق إخواننا ودور مصر الإقليمي والدولي ....الخ

أحد اللواءات غمزني مرة ضاحكا أنهم في حرب 73 لم يكونوا يحظون بهذا الاهتمام

بدأت الحرب وانتهت وعاد مصطفي إلى مصر محملا بخيرات الله و وكانت الدولة بأسرها في استقباله بدء من الرئيس وحتى مسئول الحزب في منطقته النائية الصغيرة , وبعداها بدأت سلسلة من الرحلات والأحاديث في المدارس والصحف عن دور القوات المصرية في نصرة الإخوة وردع المعتدى وتحرير الكويت المحتل

خرج مصطفى من الجيش وأكمل حياته المهنية وتزوج وعلق صورته بالزي الحربي والرئيس يكرمه في ابرز مكان ببيته , وطل يحدث كل زائريه بما كان من بطولاته في حرب تحرير الكويت , ويكرر على مسامعهم كيف استنقذ قائده بعض العراقيين من أيدي جندي أمريكي كان ينكل يهم , وكيف كان الامريكان يخشون من بأس الجيش المصري ويتعجبون من قدرته وذكائه ..الخ

مرت الأيام وتوالت الأعوام

وسمع مصطفى جمعة بما يحدث للمسلمين في غزة وهاله ما رآه من جثث الاطفال وعويل النساء وبكاء الرجال , لم يلتفت مصطفى لما يقوله البعض عن تواطؤ مبارك وجيشه في هذا الحصار وتلك المذبحة

وفي صبيحة يوم ضبابي استيقظت زوجته لتجده واقف تحت صورته القديمة مع الرئيس يتمتم ببعض كلماته القديمة حول اتفاقية الدفاع المشترك وردع المعتدي ونصرة المظلوم ودور مصر الإقليمي والدولي ...

نظر على زوجته وقال : الكويت ليست أغلى من غزة .. واليهود لسوا أحسن من العراقيين ...

ودع مصطفى زوجته وقبل أبنائه واخبرهم أنه سيصبح مصدر فخرا لهم جميعا

توجه مصطفى إلى غزة وحده

وعبر الطرق الصحراوية والممرات الرملية والدروب الخفية التي اعتاد عليها في الجيش دخل غزة ........

والتحق بالمجاهدين هناك

كأن يؤلمه أن يسمع تطاول البعض على مصر ورئيسها ... ويدافع عنهم جميعا ويعتبر نفسه الدليل على براءة مصر وحكومتها من العار الذي يصفها به البعض

وفي القتال مع اليهود لم يرى مصطفى سوى طائرات تقذف الحمم على الأبرياء ثم تمضي , لا خطة ولا هدف استراتيجي ولا تكتيك سوى قتل اكبر عدد من المسلمين

أصيب مصطفى إصابة بالغة ,وأفاق في مستشفى الشفاء ليجد الدنيا من حوله مظلمة تماما فقد ذهب بصره إلى الأبد وطارت احد أذنه وراحة يده

وأصبح عليلا لايقوى على الجهاد

قرر الرجوع إلى مصر

وحذره المسلمون في غزة من ذلك وعواقبه , لكنه رفض الاستماع إليهم

وفي ليلة مظلمة طلب من احد السائقين بالمستشفي أن يوصله إلى معبر رفح مع مصر فأخبره السائق أن المعبر مغلق ,

لكن مصطفى طمأنه أنه المصريين سيفتحون له المعبر وقال أنا بطل قومي في مصر ومعي وسام من الرئيس شخصيا ,

ركب مصطفى السيارة

وجالت به أمانيه وأحلامه عن رد فعل مصر تجاه جهاده وبطولته

وتذكر ما فعله مع الجيش وهو عائد من حرب الكويت .. مهرجانات واستقبالات رسمية وشعبية وأحاديث صحفية وتلفزيونية ومؤتمرات جماهيرية وطلابية

بالإضافة طبعا إلى المبالغ المالية القيمة التي مكنته من الزواج سريعا



أفاق مصطفى من ذكريات تلك , وهو يبتسم ويتمتم

فكيف بالقتال ضد اليهود في غزة وأنا راجع اليهود مصاب بشدة والدولة بحاجة إلى تحسين صورتها التي يشهوها البعض لحسابات أخرى ...

على أولا أن أشترى بذلة مناسبة لمقابلة المسئولين ....وربما الرئيس ..نفسه كما فعل معي في السابق

ربما أطلب منهم إجراء عملية جراحية لعيني كما فعلوا مع زوجة جمعة الشوال في مسلسل دموع في عيون وقحة ..

لكن ذلك سيأخذ وقتا حتى يرى المصريون جميعا بطلهم القومي وماذا فعل لأجل غزة ....

سأرفض مقابلة قناة الجزيرة بالطبع . لأنها تشوه سمعة مصر دائما ...

أفاق مصطفي من أحلامه على سؤال احد الرجال عند بوابة المعبر

أين تذهب يا أخي

أنا مصري وأريد العبور لمصر

المعبر مغلق ولا يفتح ..ثم همس الرجل له : أيش بيك يا مجنون راح يقتلون المصريين

لكن مصطفى ضحك وقال له لو سمحت أخبرهم أني أريد الحديث مع أحد الضباط المصريين للضرورة

ذهب الرجل بعدما يأس من إقناع مصطفي وبدء له أحيانا انه معتوه من ابتسامته المستمرة

على الفور أحضر مصطفى لمقابلة ضابط مصري على الحدود

فأخبره انه مقاتل مصري قديم وحائز على وسام من الرئيس وذهب للقتال اليهود في غزة فأصيب وهو ألان راجع لأرض الوطن ..

غاب الضابط خمس دقائق لا غير

ثم حضر هو ومجموعة من العسكر واخذ مصطفى إلى الجانب المصري من المعبر

كان مصطفى مبتسما ويشعر بالفخر ويخبره عقله بما لا تخبره به عيناه ..

فهو يراى الجميع حوله ينظرون إليه بعظمة زائدة وإكبار جليل

وكان شعوره هذا يطغى على حسه فيحيى من لا يراهم بعينه ويتمتم بكلمات الشكر لهم ...

دخل مصطفي مكتبا صغيرا ..أخذت فيه بياناته الكاملة وتاريخ عبوره وتاريخ عودته

بعد قليل كانت هناك طائرة خاصة تقل مصطفى إلى القاهرة

وحين نزل من الطائرة توقع أن يسمع الهتاف والأناشيد الوطنية وتصور لبرهة أن التلفزيون يبث هذه اللحظة وحاول أن يرتب كلمات قليلة ومؤثرة يصرح بها

تقدم إليه احدهم وقال له من يقودهم أمشي مع الباشا يا مصطفي

تخيل مصطفى أنهم يقدمونه إلى كبار المسئولين الذي ينتظرونه مثلما حدث في عودته من حفر الباطن

سمع صوتا يقول له مد يدك يا أبني ..

مد مصطفى يده ليصافح المسئول الكبير الذي يستقبله

لكنه بهت وهم يقلبون يديه إلى الأرض ثم يضعونها في القيد الحديدي ..

وقبل أن ينطق أو يفيق من صدمته كان يلقى به في شنطة سيارة قذرة أخذت تنهب الأرض مسرعة نحو مقر مباحث امن الدولة بوسط القاهرة

حاول مصطفى ان يتذكر تلك الأقوال المأثورة عن اتفاقيات الدفاع العربي المشترك ودرع المعتدي ونصرة المظلوم وآيات سورة الحجرات وخطابات الرئيس

وقبل ان تسعفه ذاكرته بهذا كان عاريا معلقا في احد مكاتب التعذيب من يديه السليمة

ويجهش مصطفى بالبكاء أمامي ...

لا لجزعه في المعتقل

ولكن لسذاجته يوما ما ..

نقلاً عن أخي بايزيد الصاعقة

الطحاوي