الكائـــــــــــــن
إلى العزيزين: محمد أسليم
زكي العيلة و الرجل الأديب الطيب الزين نزار رغم ما بيننا من اختلاف في وجهات نظر..
العارفون قالوا:
" هو يعرف سر الأرض و سر الماء و النار"
و قالوا:
" في أعماقه يكمن الماء و النار.."
و الآخرون استغربوا فقالوا:
" و هل يلتقي الماء بالنار !؟.."
فرد العارفون:
" ذاك سر من الأسرار.."
و أردف واحد منهم:
" أ لم تسمعوا بالجبل الذي فيه غار، إذا دهنت فتيلة و أدخلتها فيه أوقدت ؟.."
و زاد آخر:
" ... و به عينان.. إحداهما باردة و الأخرى حارة، و المسافة التي بينهما مقدار شبر.."
أما الأطفال فقالوا:
ـ أين ولد؟
ـ هل ولد من بطن الأم كما ولدنا نحن؟..
ـ لا يمكن أن يولد كما يولد البشر... انظروا إنه يخرج من بين ثنايا الأرض..
و سمعهم شيخ فقال:
ـ هو يولد في كل مكان، و موجود بكل مكان، و تكوينه يكون في عمق الأرض. و حين تتم دورة تكوينه، يبرز على السطح معلنا ولادته، كالنبات...
كالإنسان، أصله من تراب...
ـ أجل معلمنا قال:
" الإنسان أصله من تراب.. يولد من تراب و يعود إلى التراب.."
ـ إذن أصله و أصل البشر سواء..
ـ لكنه لا يعقل
ـ و لا يحس
ـ و لا ينعم
ـ و لا يشقى
ـ و لا يفكر
ـ و لا يدرك أنه موجود
و عندما طلع فجر يوم من أيام الربيع، برز الكائن من أعماق الأرض كزهر الجلنار، ليجد الأطفال في انتظاره...
هللوا مرحبين به، و كانوا هيأوا لمقدمه مساحات خضراء، ليلعبوا معه فيها لعبة البناء: منازل ذات حدائق غناء، و نوافذ كثيرة يدخل منها النور و الهواء، و مدارس بساحات تزينها أشجار..
إلا أن الكائن لم تستهوه لعبتهم.
ألحوا عليه في اللعب معهم فامتنع.
و حين تملكهم اليأس في استدراجه لمشاركتهم لعبهم، ابتعدوا عنه قليلا و التفوا على بعضهم البعض يتشاورون في أمر، ثم عادوا إليه، صنعوا حوله دائرة و جلسوا:
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعقل؟
ـ أيها الكائن الظريف، في أي مكان من أعماق الأرض تتكون؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل في داخلك يكمن الماء و النار؟
ـ أيها الكائن الظريف هل تنعم؟
ـ أيها الكائن الظريف، ماذا تعرف عن الأرض من أسرار؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تشقى؟
ـ أيها الكائن الظريف، كيف تنتقل من مكان إلى مكان؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تفكر؟
ـ ... و تدرك أنك موجود؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعيش عدد سنين الإنسان؟
ـ أيها الكائن الظريف، هل تعيش أكثر؟
ـ مئة ! ..
ـ ألف ! ..
ـ هل أكثر!؟..
ـ أيها الكائن الظريف، أكيد أنت تعيش أكثر
ـ و تعرف من التاريخ الغابر
ـ .. و ما لم به نخبر
ـ أنا أحب التاريخ
ـ و أنا كذلك
ـ و أنا أموت فيه
ـ معلمنا هو الذي حبب لنا التاريخ
ـ معلمنا قال: " هذه الأرض أرضكم فأحفظوا تاريخها"..
ـ معلمنا قال:" إذا كنتم تحبون أرضكم فادرسوا تاريخها"
ـ " أحموه"..
ـ " من التزييف"
ـ " و التشويه"
ـ و في اليوم التالي تغيب عنا
ـ و تغيب في اليوم الذي أعقبه
ـ و لم نعد نراه في الأيام الأخر
ـ غاب عنا إلى الأبد
ـ و قبله غاب أبو خالد
ـ كان يحب الأطفال
ـ و أبو عامر
ـ كان يقص علينا حكايات الأبطال
ـ و أخو سمية
ـ كان يخترع لنا الألعاب المسلية
ـ قل لنا أيها الكائن الظريف،أين يغيب مثل هؤلاء الرجال؟
و حين استنفذت لعبتهم كل الأسئلة، و الكائن الظريف في وسطهم سادر، كأنه لم يسمع، تمددوا داخل المساحة الخضراء.
و ما هي إلا ثوان، حتى غيبهم النوم داخل عوالمه الأرجوانية، و الكائن الظريف يراقبهم متأملا وجوههم المعفرة بالتراب، و الحالمة بالمنازل و الحدائق و النوافذ و المدارس و الساحات و الأشجار...
و فجأة، هاجت الأرض من تحتهم واضطربت، فانتصب الكائن مستنفرا...
صوت صوتا لم تسمعه إلا أذان الصغار، فهبوا من رقادهم مذعورين ليجدوا أمامهم عساكر، و عسسا مدججين بالسلاح و العصي الغليظة و التروس و الغاز المسيل للدموع...
صوت الكائن ثانية، فرأوا منه مشهدا عجبا، إذ انفلت من بين ثنايا الأرض، و حلق في الفضاء..
و صوت ثالثة، فانشطر على ذاته إلى عدة أشطر..
و صوتت الأشطر، فتحولت إلى طير حطت على أكتافهم ، غردت في أذانهم، فارتسمت على الشفاه ابتسامة رضى و اطمئنان.
ثم حطت على أكفهم، و غردت تغريدة تقطر ماء..
كل قطرة منه تصير حجرا،
يتقد لهبا و نارا،
طفقوا يرمون به العساكر و العسس المدججين بالعصي الغليظة و السلاح، و هم يصيحون:
ـ الكائن الظريف يعقل
ـ و يحس
ـ و ينعم
ـ و يشقى
ـ و يفكر
ـ و يحب التاريخ
ـ و يدرك أنه موجود.
و قال العارفون:
" هو يعرف سر الأرض و سر الماء و النار
و قالوا:
ـ في أعماقه يكمن الماء و النار
و قال الأطفال:
ـ اصمتوا
ـ و أنصتوا
ـ فها الحجر يتكلم.
ـــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية: عري الكائن ( 1994 الطبعة الأولى)
المفضلات