ماذا بعد مذكرة اعتقال البشير
الدكتور عزت السيد أحمد
بعد نحو سنة من التحضير والتهديد والوعيد أقدمت محكمة العدل الدوليَّة يوم الثلاثاء 3/3/2009م، في سابقة هي الأولى من نوعها، على إصدار مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشير، وبخطوة طريفة دعت المحكمة أن تقوم الدَّولة السُّودانية بتسليم الرَّئيس السُّوداني، أي دعت الرَّئيس السُّوداني إلى العمل بمضمون القرار وإصدار مذكرةٍ يقرِّر فيها اعتقال نفسه لتسلمه الحكومة السُّودانيَّة لمحكمة العدل الدُّوليَّة.
هي سابقة خطيرة بكل المعايير لأنها أول مرَّة تصدر مذكرة اعتقال بحق رئيس دولة على رأس عمله.
لن نتحدَّث على ازدواجية المعايير الدوليَّة فهذي ليست بالجديدة وللكلام فيها شؤون وشجون، ولكنَّنا لا نستطيع إلا أن نذكر أنَّ مثل هذه السُّلوكات التي تصدر عما يسمى الشرعيَّة الدوليَّة لا تكون إلا بحقِّ العرب أو المسلمين بغض النَّظر عما إذا كانت على حقٍّ أم ظلماً وعدواناً. أمَّا الغرب خاصَّة وما عدا العرب والمسلمين عامَّةً فلا يمكن أن تصدر الشرعيَّة الدوليَّة أيَّ قرار بحقهم ما بالغوا في العدوان والجبروت والإجرام، وما كان من استثناءات فهي أندر من الندرة ولذرِّ الرَّماد في العيون وحسب كما كان في محاكمة الرَّئيس الصربي السابق رادوفان كارازيتش الذي استمرت محاكمته ست سنوات ومات والمحكمة في بداياتها.
على أي حالٍ فإنَّ الكلام على هذه المسألة طويل، وقد بسطنا القول فيه غير مرَّة. الذي يعنينا هنا هو إلقاء نظرة على ما بعد إصدار مذكرة اعتقال عمر حسن البشير.
إنَّ ما بعد لا ينفصل عمَّا قبل، فالمطلوب مما بعد مذكرة اعتقال البشير مرتبط بما أدَّى إليها من جانب أساسي، ولكن إلى جانب السبب المباشر هناك أسباب غير مباشرة.
لقد صدرت مذكرة الاعتقال بحق عمر حسن البشير بزعم ارتكابه مجازر وجرائم وحرب وهلم جرّاً مما يشبه ذلك. والحقيقة أَنَّهُ حتى ولو كان قام بذلك فعلاً فإنَّ هذا الأمر ليس هو سبب مذكرة الاعتقال، وإنما سبب الاعتقال هو وقوف البشير أمام محاولات انفصال الجنوب والشمال عن السودان أغنى بلد عربي على الإطلاق لأنه وحده سلة غذاء الوطن العربي، وأوسع الدول العربية مساحة، وأثراها موارد، وأخصبها أرضاً. ولذلك يرى الغرب وخاصَّة الولايات المتحدة انه لا يجوز أن يبقى السودان دولة واحدة، ولأسباب كثيرة منها:
ـ الحيلولة دون إمكان قيام دولة قوية في أي مستقبل قريب أو بعيد في السودان.
ـ الحيلولة دون قيام تنمية متكاملة في السودان.
ـ إعاقة أي جهود أو مساعي وحدوية عربية في المستقبل القريب أو البعيد بزيادة عدد الدول العربيَّة الأمر الذي سيعيق أي تقارب عربي عربي.
ـ الاستفادة من فرصة وجود معارضة مرتزقة في الجنوب ودارفور ترضى بالوصاية الأمريكية واستنزاف خيرات السودان.
ولذلك فإنَّ أوَّل ما يمكن توقعه مما بعد قرار اعتقال البشير هو التَّمهيد لفصل الجنوب ودارفور على الأقل عن السودان، وذلك من خلال إثارة البلبلة والخلافات والشعور بعدم الطمأنينة، وإيجاد المسوغات للتدخل الدولي لحماية الانفصاليين.
هذا المخطط على خطورته ليس الوحيد وإنما هناك ما هو أخطر من ذلك. فقد باتت الولايات المتحدة عاجزة عن خوض الحروب في المنطقة العربية بعدما عانت ما عانت من وجودها في العراق وفي الصومال وتريد السَّيطرة على الوطن العربي من خلال سياستها السَّابقة التي برعت فيها وهي سياسة الابتزاز والإذلال التي تسيطر بها على كثير من الدول العربية ولا ندري ما الأشياء التي تبتز بها هذه الدول العربية حتى تخضع لها هذا الخضوع المذل المشين الفاضح.
هناك دول عربية وإسلامية ما زالت خارج الطوق الأمريكي وتعد متمردة، وبعضها موضوع على قائمة الإرهاب أو دعم الإرهاب، وقد عجزت الولايات المتحدة عن تركيع أو تطويع هذه الدول بمختلف الوسائل والأساليب والضغوطات التي مارستها، وهي في الأصل عاجزة عن خوض حروب ضد هذه الدول، ليس لقوة هذه الدول، ولا لضعف الولايات المتحدة، ولكن لأنها لا تستطيع فتح طاقة جهنم على نفسها كما فعلت في العراق التي احتلتها بسهولة ولكنَّ بقاءها في العراق مصيبة لا تستطيع احتمالها، وخروجها من العراق مصيبة لا تطيق دفع ضريبتها.
فماذا تفعل الولايات المتحدة الأمريكية؟
اخترعت هذه التجربة الجديدة بضحية اسمها الرئيس السوداني عمر حسن البشير بزعم محاكمته على ما ارتكبه من جرائم حرب وإبادة ضد أهالي بلده دارفور. ويشبه ذلك تجربة محاربة الإرهاب باحتلال الدول التي تدعم الإرهاب باحتلال أفغانستان أولاً لقراءة خريطة التفكير العالمي وردود الأفعال التي يمكن أن تكون، ودشَّنت ذلك باحتلال العراق.
إذن مع خطورة النتيجة الأولى التي توقعناها من مذكرة الاعتقال فإنَّ هذه المذكرة تجربة لقراءة خريطة ردود الأفعال العالمية عامَّة والعربيَّة خاصَّة، فإذا ما نجحت هذه الخطوة، وقد نجحت بامتياز حتى الآن، فإنَّها ستكون سلاحاً لا يقلُّ خطورة عن احتلال الدول احتلالاً فعليًّا، هذا إن لم يكن أكثر فاعليَّة من الاحتلال، فمن خلال التلويح بمذكرة التوقيف ضد أيِّ رئيس في العالم العربي أو الإسلامي يمكن أن يصير مادة سهلة للابتزاز وتقديم التنازل، هذا إن لم تستخدم الولايات المتحدة هذه الورقة استخداماً مباشراً ضد أي رئيس أو زعيم أو قائد تعجز عن أن تطاله بالطرق الأخرى، مثل القائد حسن نصر الله، أو القائد خالد مشعل أو غيرهما.
محكمة الحريري على الأبواب ووراء الأكمة ما وراءها، ولا أظنُّ إلا أنَّ هذه المحكمة ستقوم على ابتزاز كبير وكثير لعدد من المسؤولين الكبار في سوريا ولبنان.
سيقول البعضٌ بضعف الأدلة، وسنقول متى كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى دليل أصلاً حَتَّى تتهم وتدين وتحاكم؟ وهل صدرت مذكرة اعتقال البشير بتهم مؤكَّدة؟
إذا نجحت الولايات المتحدة في اعتقال البشير أو ابتزازه فإنها ستكرر التجربة، ولن تكثر من تكرارها إلا إذا وجدت انصياعاً لا لبس فيه ولا خجل من العرب خاصَّة والمسلمين عامَّة. فماذا فعل العرب والمسلمون؟
تحتاج الإجابة إلى مقال خاصٍ.
----------------------------
الدكتور عزت السيد أحمد
drezzat74@gmail.com
http://www.drezzat.9f.com
مع أطيب تحياتي وأعطر أمنياتي
المفضلات