الأدب الإسلامي والتحدي الفني (1 - 3)
بقلم: د . عبد القدوس أبو صالح
رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية
رئيس تحرير مجلة الأدب الإسلامي
.................................................
تمهيد :
لقد وضعت في العصر الحديث نظريات كثيرة في تفسير التاريخ ونشأة الحضارات، وكان من أشهـر هذه النظـريات " نظرية التحدي " التي قال بها المؤرخ الفيلسوف
" توينبي " .
وهذه النظرية أصدق ما تكون على تاريخ الأمة الإسلامية الذي يمثل سلسلة من التحديات المتلاحقة أو المتداخلة في بعض الأحيان .
ولقد كان المسلمون يتعرضون في كل هذه التحديات إلى محنة قوية ، تكاد تزلزل كيانهم، أو يتخبطون في تيه لا يكادون يجدون لهم مخرجاً منه ، أو يجابهون غزواً ساحقاً من أمم شديدة البأس .. حتى إذا بلغ السيل الزُّبى، وبلغت القلوب الحناجر، واستحكم اليأس والذل لجأ المسلمون إلى دينهم واعتصموا به، فأمدّهم بالقدرة على دفع التحدي الذي يجابههم ، مهما كان شأنه ، ومهما تطاول أمده .
ولعل من أول التحديات المعاصرة التي جابهها المسلمون هو التحدي العسكري الذي رده المسلمون بالدماء والشهداء، ثم كان التحدي العقدي الذي رده المسلمون بمئات الكتب وآلاف البحوث ، مما كوّن مكتبة كاملة للفكر الإسلامي وردودِه على مزاعم المستشرقين وشبهات الملحدين والعلمانيين ، ثم جاء التحدي الاقتصادي بين رأسمالية ظالمة وشيوعية هدامة واشتراكية مخرّبة ، وكان الرد على التحدي الاقتصادي بإقامة نظرية الاقتصاد الإسلامي وإنشاء المصارف الإسلامية ، ثم جاء أخيراً التحدي الفني الذي رُدَّ عليه بالدعوة إلى نظرية الأدب الإسلامي .
ولقد كان من الطبيعي -كما يقول الأستاذ محمد قطب- (1) أن يتأخر الرد على التحدي الفني لأن الأمة بادرت أول الأمر إلى دفع التحدي العسكري والاستيطاني الذي جثم فيه الاستعمار على صدر الأمة وجنى خيراتها ، ثم التفتت للرد على التحدي العقدي غيرة على دينها ، ثم عمدت إلى رد التحدي الاقتصادي حرصاً على أن يكون طعامها ومعاشها حلالاً ، وانتهت بالرد على التحدي الفني حماية لتراثها وذاتها وهوّيتها ولغة قرآنها .
ولقد تبنت رابطة الأدب الإسلامي العالمية دفع التحدي الفني بالدعوة إلى مذهب الأدب الإسلامي وصياغة نظرية متكاملة له ، تقف أمام المذاهب والنظريات الأدبية العالمية شاهدة عليها ومقدمة البديل الإسلامي عنها .
1 ) مسوّغات رد التحدي الفني :
لقد كان من أهم مسوغات الدعوة إلى مذهب الأدب الإسلامي وإقامة نظرية متكاملة له العوامل التالية :
1 - أهمية الأدب وتأثيره :
إن أول مسوّغ للدعوة إلى الأدب الإسلامي يكمن في أهمية الأدب وقوة تأثيره . وقد شاءت حكمة الله أن يكون القرآن معجزة بلاغية ليؤثر في الوجدان مثل تأثيره في الألباب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل : " إن من البيان لسحراً " .
وأقول لكل ملتزم بالإسلام ولكل داعية إسلامي : لقد ذهب العصر الذي كان فيه الأدب أُلْهيةً فنية وترفاً فكرياً بانقضاء عهود التكسب بالشعر ، وهي عهود قديمة ، وبسقوط مذهب الفن للفن ، وهو مذهب حديث ، وأصبح الأدب اليوم – كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم – أداة بل سلاحاً للدفاع عن الإسلام والحض على الجهاد وصياغة الوجدان ، ورفع مستوى المسلمين رجالاً ونساء ، وأطفالاً وشباباً، بما تملكه الكلمة الأدبية الأصيلة الهادفة من قدرة على التأثير في القلوب والعقول في آن واحد .
والأدب اليوم – كما يقول الأستاذ محمد قطب (1) : سلاح يستعمله أعداء الإسلام في إفساد الأجيال وإشاعة الانحلال .. فما أجدرنا أن نستعمله في الدفاع عن الإسلام وبناء الأجيال ..
وما من مذهب فكري منحرف إلا استعمل الأدب وسيلة لنشر آرائه ، وحشد الأتباع حوله حتى كان من قـول سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي : إن العالم اليـوم يحكمه القلم ، وتحكمه الكلمة " .
والكتاب العلمي أو الكتاب الفكري وإن كان إسلامياً فإن قُرّاءه محدودو العدد، أما الشعر والقصة، والتمثيلية والمسلسلة المرئيتان أو المسموعتان ، فلا يكاد جمهورها يحُدّ، وهو جمهور من مختلف الطبقات والأعمار .
وإذا كان الكتاب الفكري يخاطب العقل فيَقنع أو لا يقنع فإن الكتاب الأدبي من شعر أو قصة أو مسرحية مقروءة أو مذاعة أو متلفزة .. يؤثر في الوجدان تأثيراً خفياً لا يكاد يحس ، ولكن هذا التأثير ما يزال يتغلغل في الوجدان حتى يتمكن منه ، ثم يؤثر في الفكر ، ويصوغ الشخصية صياغة خير أو شر .
2 - تصحيح العلاقة بين الأدب والعقيدة :
ما من شك في أن الدعوة إلى الأدب الإسلامي هي الوسيلة التي لابد منها لتصحيح العلاقة بين الأدب والعقيدة ، وإيجاد الانسجام بين عقيدة المسلم وعطائه الأدبي وتكامل شخصيته .
والإسلام ينظّم حياة الفرد من أصغر شؤونه إلى أكبرها، والأديب – كما يقول الأستاذ محمد قطب – مسلم أولاً، ثم أديب ثانياً . والأدب إحساس بالجمال، وتعبير عن هذا الإحساس، والإفراز الأدبي جزء من الحياة والحياة كلها يحكمها الإسلام، والمسلم أديباً كان أو غير أديب ينبغي أن تكون حياته مشمولة بالإسلام وخاضعة له . وإذا ظن الأديب أنه يمكن بعد أداء فرائضه أن يسرح كما يشاء ، وأن يقول كل ما تسوّل له النفس الأمـارة بالسوء فهذا غلط ، وبعض الأدباء يقول : أنا حـر، ما من أحد له سلطـة عليّ، وأنا لا أرتضي أي قيد كان ، وبخاصة قيد الدين، وأنا أرفضـه وأتمرد عليه .. والنتيجة تكون إلحاداً كما نرى في كثير من النماذج الشعرية، وكما نرى في بعض الروايات الأدبية مثل رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، أو تكون عبثية محضة مثل رواية القاهرة الجديدة للكاتب نفسه .
3 - تيار التغريب :
ذلك أن الأدب الإسلامي يمثل ردة فعل ضد تيار التغريب الذي تناول شعوب العالم الإسلامي بأسرها، وبلغ من خطورته أن الدكتور طه حسين الذي لقب بعميد الأدب العربي قاد تيار التغريب في العالم العربي وألف كتاباً باسم " مستقبل الثقافة في مصر " ومضى يدعو فيه إلى الأخذ بالحضارة الغربية بكل ما فيها، ويقول بضرورة " أن نسير مسيرة الأوربيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً – كما يقول بالحرف الواحد - ، ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يُحبُّ منها وما يُكره ، وما يحمد منها وما يعاب (2) " . وحقاً إنه " مستوى فكري نازل " كما يصفه الأستاذ أبو الحسن الندوي (3) ، وقد تصدى لهذا التيار عدد كبير من الأدباء الإسلاميين، وكان في مقدمتهم شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال الذي كان من قوله مخاطبـاً أحد المتفرنجين (4) : " ليس وجودك إلا تجلِّيَ الإفرنج لأنك بناء قد بنوه ، وهذا الجسم فارغ من معرفة النفس ، فأنت غمد محلّى بغير سيف ، وجود الله غير ثابت في نظرك ، ووجودك أنت غير ثابت في نظري " . ويخاطب إقبال أحد المربين قائلاً : " علّم طلابك معنى الاعتزاز بالنفس والاعتداد بالشخصية ، علمهم كيف يشقون الصخور ، ويدكون الجبال ، فإن الغرب لم يعلمهم إلا صنع الزجاج " .
4 - واقع الأدب العربي :
والأدب الإسلامي هو الذي يستطيع أن ينقذ الأدب العربي من وهدة التقليد والتبعية والفوضى ، فالأدب العربي – كما يقرر الأستاذ محمد قطب (5) – أدب مزور، يعيش اليوم بلا هدف ولا غاية ولا ذاتية ولا قواعد ولا منهج مرسوم " .
وقد أصبح كثير من النتاج الأدبي المعاصر يقوم على مهاجمة العقيدة الإسلامية صراحة وعلى التهجم على مقام الألوهية ، وتصوير الإسلام مرادفاً للتخلف ، وفي هذا المجال يقول الأستاذ محمد قطب (5) : " لا نجد في الأدب العربي المزور أن الحياة مرسومة من خلال العقيدة ، بل نجد تعمداً في إغفال العقيدة وعدم ذكرها إلا أن يكون الأمر سخرية بالدين والمتدينين " .
ولم يدرك كثير من المشتغلين بالأدب العربي أن تغريب الحياة الفنية والأدبية لا يختلف عن تغريب الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
5 - واقع الأدب في العالم الإسلامي :
لا يكاد واقع الأدب لدى شعوب العالم الإسلامي يختلف عما هو عليه في العالم العربي ، من سيطرة الاتجاهات المنحرفة وغياب الهُوّية الإسلامية مع الدعوة إلى الشعر الحر ليحل محل شعر التراث، ومع غلبة موجة الجنس على القصة والرواية، والفتنة بالحداثة الفكرية الشاملة التي تجد مسارها في فنون الشعر والأدب .
6 - واقع الأدب العالمي :
والأدب الإسلامي يمثل طوق النجاة أمام فوضى المذاهب الأدبية وكثرتها وماديتها وعجزها ، وعدم الانسجام بين الأديب غير المسلم وبين العالم جعله – كما يقول الدكتور عبد الباسط بدر(6) – يبحث عن الحلول في متاهات وسراديب معتمة كالجنس لدى ألبرتو مورافيا أو الصراع الطبقي لدى ماكسيم غوركي ، أو التمرد على كل شيء لدى سارتر ، وكل ذلك جعل الأدب العالمي يحفل بمظاهر الضياع والقلق والتمرد والعبث، ويغرق في حمأة الجنس والانحلال ، ويهدف إلى الإفساد العقدي والخلقي .
2 ) أهداف الرد على التحدي الفني :
1 - أدب عقدي لمليار مسلم :
والإسلام عقيدة متميزة لنحو أكثر من مليار مسلم .. وينبثق عن هذه العقيدة تصور إسلامي كامل للكون والحياة والإنسان . والأمة الإسلامية أمة متميزة ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ) سورة البقرة 2/143
فما بالنا نتدنى عن هذه الدرجة الرفيعة حتى نتسوّل ، لا في السياسة والاقتصاد فحسب ، بل في الفن والأدب ولماذا لا يكون لنا مذهب أدبي متميز ؟! ..
2 - صياغة الوجدان الإسلامي :
والأدب الإسلامي أمر لابد منه لصياغة الوجدان الإسلامي دون انفصام بين الوجدان والعقل أو بين الدين والأدب ، وهو أمر لازم لتنشئة جيل ملتزم بالإسلام،
معتزّ بتراثه واثق من نفسه ، منفتح على عصره دون شعور بالنقص، ودون فقدان للهوية والأصالة . " وإذا كان الأدب – كما يقول الدكتور أحمد محمد علي (7) – تجسيداً لعواطف الأمة ومشاعرها وأحاسيسها وتصوراتها وأخيلتها فإنه في المجتمع الإسلامي لابد أن يكون إسلامياً وإلا كان المجتمع زائفاً إما في إسلامه وإما في أدبه ، أو على أقل تقدير يكون مصاباً بمرض الانفصام ما بين عقله ووجدانه .
وإذا كان الأدب تعبيراً عن ذات الأديب فإنه عند الأديب المسلم لابد أن يكون إسلامياً ، وإلا كان الأديب زائفاً ، إما في إسلامه وإما في أدبه ، أو على أقل تقدير يكون مصاباً بمرض الانفصام ما بين دينه وأدبه " .
3 – مواجهة موجة الإلحاد والانحلال :
يقول الأستاذ محمد قطب (1) : " إن الأدب اليوم سلاح يستعمله أعداء الإسلام في إفساد الأجيال وإشاعة الانحلال " وأقول : إن ذلك الإفساد والانحلال تجليا في أمور كثيرة كان من أظهرها وأخطرها نشر الإلحاد ومجاراة الثورة الجنسية التي أشاعها اليهود في العالم كما خططوا لها في بروتوكولات حكماء صهيون .
وإذا كان نشر الإلحاد يبدو واضحاً في كثير مما كتبه المفكرون العلمانيون فإنه يأتي في النتاج الأدبي بطريقة إيحائية غير مباشرة كما نجد في ثلاثية نجيب محفوظ، أو بطريقة رمزية كما في روايته أولاد حارتنا، وقد يأتي صريحاً دون رمز ولا إيحاء كما نجد في رواية " وليمة لأعشاب البحر " حيث تجاوزت الدعوة إلى الإلحاد لتمتلئ الرواية بسب الذات الإلهية في عبارات بذيئة لم ترد من قبل على لسان أي ملحد فاجر في التاريخ البشري .
وأما مجاراة موجة الجنس فقد جعلت توفيق الحكيـم في قصة " الرباط المقدس "
يسوّغ الزنا ويزين خيانة المرأة لزوجها ، وسرت هذه الموجة في معظم قصص نجيب محفوظ ورواياته حتى تساءل الناقد الأستاذ أنور المعداوي (8) : " ولماذا يتعرض نجيب محفوظ للجنس ؟ ويهدف عامداً إلى تشريح العلاقة الجنسية في أكثر أعماله ؟ هل يعمد إلى هذا بقصد إثارة القارئ -كما يفعل غيره من الكتاب بغية الرواج– أم أن له اتجاهاً معيناً يتسم بالمنهجية التي يلتزمها كلون من ألوان التعبير عن وجوده الفعلي ؟ .. ، ثم يضيف المعـداوي قوله : " هناك قطاعات عرضية قليلة تخرج عن نطـاق البعـد الموضـوعي الرئيسي للمشكلة في خطوطها العامة .. وذلك حين يعمد نجيب محفوظ إلى التفصيلات الجزئية لما يدور أحياناً من أحداث ذاتية في الجو العائلي لآل شوكت ، أو في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات من أمثال زبيدة وجليلة وزنوبة " .
وتبقى قصص نجيب محفوظ على قدر من الرصانة أمام موجة القصاصين والقصاصات الجديدة من أمثال كوليت خوري وغادة السمان وسلمى الأمير اللواتي جاءت قصصهن تقليداً مشوّهاً للكاتبة الوجدانية فرانسوا ساغان ، وأصبح الجنس في كثير من قصصهن محوراً اتجاهياً للسلوك إن لم نقل المحور الأول في البناء القصصي .
كذلك مضى كثير من الشعراء المعاصرين يسابقون الكتاب الروائيين متباهين بما في قصائدهم من الإلحـاد والتعرض للخـالق عز وجل بالسخرية والهزء والازدراء - تعالى الله عما يصفون - ويكفي أن نمثل لذلك ببيت للشاعر الحداثي بلند الحيدري وهو بيت أقل ما يقال فيه أنه لولا رحمة الله لخسف بنا الأرض، إذ لم يتعرض أحد لهذا الشاعر، بل كان يلقى الحفاوة والتكريم، ويشرف على إحدى المجلات الخليجية وذلك حيث يقول : (9)
لو مرة عرفت يا إلهي الكسيح ..
كيـف الزنــا يصــير !..
وأما في مضمار الجنس فقد قامت مدرسة خاصة يرأسها الشاعر نزار قباني الذي أراد أن يرثي زوجته فمضى يتغزل بجسدها ، ولننظر كيف يشيع شعره الفاحشة بين الذين آمنوا بمثل قوله :
مجنـونـة من ضـاع عهـد شبابهـا محرومـة لم تلثـم
4 - عالمية الأدب الإسلامي ورسالته :
ونظرية الأدب الإسلامي ضرورية لإبداع أدب يتخذ لغة القرآن لغته الأولى ، لأنها اللغة التي يتعبد بها المسلمون ربهم آناء الليل والنهار ، ولكن الأدب الإسلامي يمثل آداب الشعوب الإسلامية كلها على مختلف لغاتها وأجناسها .. ومن هنا تتحقق للأدب العربي عالميته ما دامت اللغة العربية هي اللغة الأولى للأدب الإسلامي ، كما تتحقق للأدب الإسلامي عالميته مادام هذا الأدب يمثل في مضمونه العقدي وتصوره الإسلامي أدب الأمة الإسلامية كلها ، وهي الأمة التي وصفها الله تعالى بقوله : ( وإن هذه أمتُكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) . سورة المؤمنون 52/23
ومن هنا أيضاً تكون نظرية الأدب الإسلامي ورسالته ضرورة لتوحيد الآلام والآمال للشعوب الإسلامية حين تصدر في أدبها عن نظرية أدبية متكاملة وحين تنقل آدابها إلى لغاتها المختلفة .
والأدب الإسلامي ضروري لرفع الأمة الإسلامية إلى معركة المصير التي لا ينتصر فيها المنهزمون نفسياً ، ولا ينتصر فيها القرود المقلدون ، والمعارك الإسلامية عبر التاريخ واكبها الشعر والنثر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو المؤيد من السماء – اتخذ الشعر سلاحاً في المعركة واتخذ الخطابة أداة للدعوة ، وكل الدعوات الإصلاحية والفكرية والاجتماعية والسياسية عبر تاريخنا القديم والحديث اتخذت من الكلمة وسيلة مؤثرة في القلوب والعقول وفي حشد الأتباع والأنصار ، وتلك شهادة التاريخ فيما قاله صلاح الدين الأيوبي : " ما فتحت البلاد بالعساكر بل أخذتها برسائل القاضي الفاضل " .
5 – مواجهة العولمة الثقافية :
ما من شـك في أن " العولمة " مصطلح برّاق، وبديـل مخـادع عن مصطلـح
" الاستعمار " الذي لم يعد مقبولاً في أشكاله المتعددة ، بين الاستعمار العسكري والاستيطاني والاقتصادي والفكري الذي يسمى بالعولمة الثقافية .
وإذا كانت الأمة الإسلامية ردت على الاستعمار العسكري بالجهاد ، وما تزال ترد به على الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، كما ردت من قبل في الجزائر وغيرها ، وردت على الاستعمار الاقتصادي بإقامة الاقتصاد الإسلامي، وردت على الاستعمار الفكري بإقامة مكتبة للفكر الإسلامي ، فإنها لن تستطيع أن ترد على العولمة الثقافية إلا بالأدب الإسلامي الذي يدعو الأمة إلى التمسك بهويتها وذاتيتها والاعتزاز بدينها وتراثها ولغة قرآنها وأخلاقها الإسلامية .
ومازال الأدب الإسلاميُّ المنهجِ والفكرِ والروح أدباً لم تلوثه أدران المادة ، ولم ترهبه سطوة الباطل ، ولم يروضه بريق الحضارة الغربية ، فهو أدب ملتزم [ بالإسلام ] يضرب بجذوره في أعماق تاريخ الأمة .. ويرتوي من روحها المؤمنة ، ويثمر رسالة يمتد نورها في آفاق العالم العربي والإسلامي " (10) .
3 ) منهج الرد على التحدي الفني :
إذا كانت رابطة الأدب الإسلامي العالمية هي التي تمثل الأدب الإسلامي والملتزمين به فإن منهج هذه الرابطة في الردّ على التحدّي الفني ، وموقفها من معارضي الأدب الإسلامي هو المنهج الذي يقوم على الموضوعية والنصفة والمجادلة بالتي هي أحسن .
وها هي ذي مجلة الأدب الإسلامي تعلن في افتتاحية العدد الأول الصادر في شهر رجب سنة 1414هـ ما يلي :
" تقبل المجلة الرأي المعارض ، وتنشره ما دام ملتزماً بالموضوعية والرصانة ، وذلك إيماناً بحرية الكلمة وجدوى الحوار ، وثقة بالمبادئ التي تنطلق منها ، والأهداف التي تسعى إليها " .
وجاء في افتتاحية العدد الثالث من هذه المجلة والصادر في شهر ربيع الأول سنة 1415هـ أن الرابطة " أصبحت رمزاً للاعتدال مع الاعتداد بالهدف " .
وكتبنا في افتتاحية العدد / 21 / الصادر في سنة 1419هـ : " ويشهد كل منصف لمواقف الرابطة ومنشوراتها ، وما تعقده من ندوات وتقيمه من مؤتمرات أن هذه الرابطة إنما تصدر في أهدافها ووسائلها ومختلف أوجه نشاطها عن المنهج الذي اقتبسته من سماحة رئيسها أبي الحسن الندوي ، وهو منهج الحكمة والاعتدال ، والبعد عن الغلوّ ، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة " .
وكتبنا في افتتاحية العدد /37/ والصادر سنة 1424هـ تحت عنوان " منهج رابطة الأدب الإسلامي العالمية " ما يلي :
" وكان من منهج الشيخ الحكيم أبي الحسن الندوي ، وإيمانه بنبذ العنف ، ودعوته إلى ما في الإسلام من السماحة والإنسانية أنه أقام دعوة سميت بحركة الإنسانية، جمع فيها بين كبار الشخصيات الإسلامية والهندوسية ، وكان من أهداف هذه الحركة إطفـاء نـار العصبية والطائفية في الهند ، وكان من مبادئها قول الله تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم ) . سورة الإسراء 17/70
وقد ختمنا هذه الافتتاحية بقولنا : " وأخيراً فإننا ندعو أعضاء الرابطة في أنحاء العالم العربي والإسلامي أن يلتزموا بمنهج الرابطة ، وأن يدعوا إلى الاعتدال والبعد عن الغلوّ والتطرف ونبذ العنف في مقالاتهم وإبداعاتهم وندواتهم ومؤتمراتهم ، حتى تنطفئ الفتن ، ويعم الأمن والاستقرار ، وحتى تقف الأمة صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، سواء في مضمار التنمية والتطوير أم في مواجهة الأخطار المحدقة بالعالم العربي والإسلامي قاطبة " .
ولقد قلت في حوار مع ملحق الأربعاء في جريدة المدينة : (11)
" ولقد دفعنا حرصنا على الانفتاح على الآخر أننا حينما نرد على شبهات المعترضين ، نرفض أن ننزل إلى مستوى المهاترات والتجريح الشخصي، وإذا صدر مثل هذا عن أحد أعضاء الرابطة فإننا نلفت نظره إلى قوله تعالى [ ادفع بالتي هي أحسن ].
وها أنذا أدعو كل من يخالفنا في توجهنا الأدبي إلى أن نتمسك جميعاً بأدب الخلاف، وأن نرتفع إلى مستوى المسؤولية ، وأن نحتكم جميعاً إلى تلك المقولة الفذة التي قالها الأستاذ رشيد رضا، وهي أن نتعاون فيما نتفق فيه وأن يعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه ، وذلك حتى نستطيع جميعاً مواجهة الخطر الذي يتهدد الأمة جميعاً سواء كان الخطر الخارجي الذي يتمثل في إسرائيل ومن وراءها، أو الخطر الداخلي الذي أصبح يتهدد عدداً متزايداً من الدول العربية والإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وهي الحصن الأخير للإسلام ، ولكنها أصبحت اليوم هدفاً للإرهاب الذي يريد أن يفسد صفو أمنها واستقرارها، وهو ما ميز بلاد الحرمين عبر عشرات العقود من السنين .
4 – مظاهر الرد على التحدي الفني :
1- الموقف من المذاهب الأدبية العالمية :
بدأت نهضة الأدب العربي في العصر الحديث بما بدأه محمود سامي البارودي من العودة إلى تمثّل الشعر التراثي في عصوره الزاهية ، ثم بدأ ما سمي بحركة الإحياء بالانفتاح على الثقافة الغربية شيئاً بعد شيء ، وقد تم ذلك على يد أمير الشعراء أحمد شوقي ثم على يد مدرسة الديوان ثم جماعة أبولّو .
وهكذا بدأ تأثير المذاهب الأدبية الغربية التقليدية ثم تجاوز الأمر إلى الافتتان بالمذاهب والمناهج النقدية الحديثة .
وقد قامت الدعوة إلى مذهب الأدب الإسلامي وصياغة نظريته المتكاملة لتكون مقوّمة لتلك المذاهب الدخيلة ، وشاهدة عليها .
وكان موقف الأدباء الإسلاميين من تلك المذاهب والمناهج منطلقاً من أن الحكمة ضالة المؤمن وحيثما وجدها فهو أحق بها ، فقد أفادوا مما في تلك المذاهب من الإيجابيات وابتعدوا عما فيها من سليبات ، وإن كان توجسهم واضحاً أشد الوضوح من مذهب الحداثة وما يدور في فلكها من المناهج النقدية التي أصبحت في نظرهم فتنة العصر، حتى تحوّل بعض أدبائنا إلى ظلال مشوهة للأدباء الأوروبيين الضائعين ، وتحول عدد من أبنائنا إلى مسوخ شائهة همها أن تقلد هذا أو ذاك .
أ – الموقف من المذاهب الأدبية التقليدية :
قام الناقد الإسلامي الدكتور عبد الباسط بدر بدراسة مذاهب الأدب الغربي التقليدية على ضوء رؤية إسلامية ناقدة ، وأظهر أصول تلك المذاهب التي تضرب بجذورها في الأدب اليوناني القديم " الذي يجمع الدارسون على أنه الحلقة الأولى في تاريخ الآداب الغربية على اختلاف لغاتها " (12) .
وقد تناول الدكتور عبد الباسط تلك المذاهب التقليدية بدءاً من المذهب الكلاسيكي إلى المذهب الوجودي ، وأظهر ما فيها من إيجابيات، وما يداخلها من سلبيات لا تتفق مع التصور الإسلامي، ولا تقبل في معايير النقد الأدبي الذي يقوم على ذلك التصور (13) .
وقد أسهب الدكتور عماد الدين خليل في بيان تأثر [ الأدب ] الإسلامي بالمذاهـب الأدبيـة التقليديـة إلا أنه أظهر بوضـوح " أنه فـن يأبى تأليه الإنسان كلاسيكيـاً، وإغراقـه الذاتي الإنسـاني رومانسيـاً، وتمجيد لحظات الضعف والسقـوط البشـري واقعيـاً، وتسويغ الانحراف الفكري أو النفسي أو الأخلاقي وجودياً، فليس ثمة عبث وجودي كما يرى كامي ، وليس ثمة لا مسؤولية للحياة والوجود كما يرى كافكا، وليس ثمة حرية أخلاقية مطلقة من كل قيد كما يرى سارتر، وليس ثمة تناقضات نفسية لا نهاية لها تنتهي دائماً بالضياع كما يرى ديستويفسكي .
ذلك أن [ الأدب ] الإسلامي يستمد تجاربه الباطنية من خلال الحقيقة لا الزيف، ومن الاستقامة لا الانحراف . فللوجود غاية ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ) ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يُرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) . وللحياة معقولية لأنها صدرت عن إرادة الله التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها . وحرية الإنسان في كيانه ليست حرية الفوضى الخلقية التي تنتهي دائماً بتهديم الإنسان وتمزّق علاقته مع الوجود الخارجي من حوله " (14) .
ب – المذاهب والمناهج النقدية الحديثة :
ويأتي أخيراً في عالمنا العربي مذهب الحداثة لتكون الفتنة الحالقة لكل شيء ، وهي حداثة ذات أصول فلسفية شاملة ، ولكنها بدأت في العالم العربي عن طريق الإبداع الفني متوسلة بالدعوة إلى التجديد وهي تريد التهديم ، وقد بدأت بدعوى تحديث الشكل لتنتهي إلى إفساد المضمون ، بل إنها مضت في إطار الشكل تدعو إلى تفجير اللغة في قواعدها النحوية والصرفية ، وبالهجمة على شعر التراث وفيه شواهد اللغة وتفسير القرآن الكريم .
وما من شك في أن سنة الحياة تقتفي التطور والتجديد ، وإلا أصبحت الحياة مستنقعاً راكداً لا حياة فيه . وما أظن أحداً يرفض التجديد لأنه يرفض الجديد، ويتمسك بالقديم لمجرد أنه قديم . ولكن المشكلة تتضح فيما يمكن أن يكون التجديد فيه بألا يكون في ثوابت العقيدة وما يعرف من الدين بالضرورة ، وفي كيفية التجديد حتى لا ينقلب إلى نوع من الفوضى والتخريب ، وفي أهداف المجددين بألا تكون مدخولة أو مشبوهة .
وهكذا اختلط مصطلح التجديد لدى الكثيرين بمصطلح الحداثة الفكرية الشاملة، فلم يبق تجديداً ولا تحديثاً خالصاً . وقد طرحت الدعوة إلى الحداثة الأدبية في الوطن العربي ، فكانت كلمة حق أريد بها باطل ، إذ أريد بالحداثة استغواء الشعراء والأدباء الناشئين ، أو التستر بها لإخفاء ما يبطنه الدعاة إليها من نشر مذهب الحداثة بمعناها الفلسفي الشامل ، وإلا فمن يرفض الحداثة بمعنى الجدة، والتحديث بمعنى التجديد ، وبمعنى الربط بين الأصالة والمعاصرة، ومواكبة ركب الحياة المتطورة ؟!..
ومن هنا أقول : إن الباطل المستخفي وراء ما أسميه بمصيدة الحداثة كونها مذهباً فلسفياً هداماً ، يتناول سائر جوانب المعرفة الإنسانية حتى ليبدو جانب الأدب فيها جزئياً ولا أقول هامشياً .
وإن قراءة كتب أدونيس وأضرابه ، وأولها كتابه عن الثابت والمتحول تدل على أن هؤلاء المغرضين لا يريدون لهذه الأمة أن يبقى لها قرآنها ولا عقيدتها ولا إسلامها ولا تراثها ، بالإضافة إلى أنهم سعياً وراء تحقيق غاياتهم المدخولة يوالون الإشادة بكل ملحد وزنديق في تاريخ المسلمين كالحلاج والسهروردي ، وتعظيم الحركات الهدامة كثورة الزنج وحركة القرامطة ، مع إعلاء شأن الذين قاموا بها على أنهم أبطال الأمة ورموز التحرّر .
وقد بين الناقد الإسلامي الكبير الدكتور محمد مصطفى هدارة خطر الحداثة الفكرية الشاملة إذ قرر أنها " في الحقيقة أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تتضمن كل هذه المذاهب والاتجاهات وهي – كما يقول – لا تخص مجالات الإبداع الفني أو النقد الأدبي ، ولكنها تعم الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على السواء " (15)
ومن العجيب أن الحداثة انتقلت إلى عالمنا العربي بعد أن لفظها الغرب أو تجاوزها، وفي هذا يقول الدكتور حسن بن فهد الهويمل (16) : " والعالم العربي المسكون بالفجيعة والتيه مغرم بالطارئ وعاشق للرمم التي ينفيها أصحابها . لقد رفض الغرب الحداثة ورفض البنيوية ، ونهضنا نمسح عنهما تراب الذل ، وظهر في الغرب ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية .. وسيأتي الزمان الذي نرفض فيه الحداثة والبنيوية ، ونتعلق بما بعدهما . يقول أحد الدارسين للحداثة : " هكذا فقد آلت السيرورة التاريخية للحداثة الغربية إلى الانحسار بحيث لم يبق منها سوى مسارات وتجارب ضيقة ومحدودة وليست ذات أهمية كبيرة , وقد راح الناقد الغربي منذ مطلع الثلاثينات لاستخدام مصطلحات جديدة ، هي مصطلح ( ما بعد الحداثة )، ومصطلح ( ضد الحداثة ) " .
ويضيف الدكتور الهويمل قوله (17) : " وهذا الناقد الانجليزي ( ديفيد لوج ) يرى أن كل الحركات المعاصرة تشكك بالحداثة ، ويرى أن فن ما بعد الحداثة فن طليعي، والناقد فيليب هوبسيام يؤكد أن معظم الشعراء قد كفوا عن التجريب الحداثي .
والناقد جيوفري يثرلي يرى أن الشعر الإنجليزي في الربع الثاني من هذا القرن لم يتأثر بتقاليد الحداثة، ويقول : إن الحداثة انتهت تاركة وراءها صرحها المهشم المتناثر".
وقد عرف الكتاب الغربيون الحداثة بما يدل على حقيقتها وهذا ما نجده في تعريف الفيلسوف نيتشه بقوله : " إن الحداثة اليوم توجد على صورة رغبة في مسح كل شيء وصل من الماضي ، على أمل أن تجد الحداثة في النهاية لحظة تعتبرها الحاضر الحقيقي ، أو نقطة الأصل لتنطلق منها من جديد " .
وعرفها جان بودبار (18) بأنها "نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي، أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو الثقافات التقليدية " .
وقد " أخذت الحداثة العربية المعاصرة عن الفكر الغربي كل شيء تقريباً ، فتجلت فيها – على نحو لا تخطئه العين – ملامح حداثته ، فإذا هي نسخة منها ، بل قد يغلو القوم عندنا في بعض الأفكار أكثر مما يغلو فيها أولئك ، ويتحمسون للدفاع عن الدار أكثر من حماسة أصحابها أنفسهم " (19) .
المفضلات