ترجمة / علاء البشبيشي
"بالنسبة لسكان العالم، الشتاء ما زال على الأبواب، والبرد القارس لم يبدأ بعد، لكن الأمر مختلف بالنسبة لـ 100 مترجم عراقي وعائلاتهم، قامت القوات الدانمركية بنقلهم إلى ملاجئ مؤقتة في يوليو الماضي، فقد بدا شتاؤهم أشد برودة مما كان متوقعًا".
بهذه الكلمات حاولت صحيفة "انترناشيونال هيرالد تريبيون" تشخيص معاناة المترجمين العراقيين الذين اختاروا العمل مع القوات الدنماركية، وغيرها من قوات الاحتلال في بلادهم، تبخرت آمالهم، وتهدمت قصورهم التي بنوْها في الهواء، بعد أن كانوا يعوّلون على الاحتلال أن يعينهم، وذويهم. لكنهم حين جاءوه وقت الحاجة، لم يجدوه شيئًا، ووجدوا أنفسهم بين مِطرقة المقاومة في بلدانهم، وسندان اللجوء السياسي في الخارج. ويتذرع هؤلاء المترجمون عادة بأنهم يعملون مع الاحتلال، مساعدةً في إعادة إعمار بلادهم، بل وتعتبرهم الصحف الأمريكية والبريطانية في كثير من الأحيان "الأبطال المنسيين"، الذين قدموا الكثير، ولم يأخذوا شيئًا في المقابل.
رفقة الاحتلال. . جحيم لا يطاق
وتنقل الصحيفة عن أحد المترجمين العراقيين، 27 عامًا، قوله: "ظننت أنني سأتلقى معاملة كريمة هنا، وأنهم سيعيروننا انتباههم، لكن يبدوا وكأننا قد نُسينا". وقد امتنع المترجم العراقي عن ذكر اسمه بالكامل؛ خوفًا على عائلته التي مازالت تعيش في العراق، فيما كان يتذكر أحداثًا أليمة مرت به وهو في صحبة الجنود الدانمركيين أثناء دورية في البصرة، داخل عربة مصفحة، حيث فاجأتهم المقاومة بلغم أرضي انفجر في العربة التي كانوا يستقلونها، يحكي هذه الأحداث المترجم العراقي، وهو مضطجع على أريكة في ملجئه، قائلاً: "الرصاص يتطاير في كل مكان، وكان الجنود يبكون، ظننت حينها أنني فقدت قدمي". لم تقطع قدماه جراء الانفجار، لكن قدمه اليسرى أصيبت بشظية من اللغم، لذلك تم نقله إلى أحد المستشفيات العسكرية التابعة للقوات البريطانية، حيث أجريت له جراحة، تعافى منها بعد 3 أشهر، وعاد إلى قاعدة عسكرية دانمركية خارج البصرة.
ويضيف المترجم: "ومن يومها لم أتلق أي رد اعتبار، أو إعادة تأهيل بعدما حدث لي، لا في العراق ولا في الدنمارك، ومازالت رجلي تؤلمني كثيرًا، وتتورم حينما يبرد الجو".
لكن المشكلة بدأت تتفاقم حينما قررت الدانمرك سحب قواتها، 460 جنديًا، من العراق هذا العام، حيث أثير جدل حول مسئولية الحكومة الدنماركية تجاه العراقيين الذين عملوا معها، وكانوا ضمن موظفيها في الميدان. لكن ردودهم الأولية أتت بائسة، فالدانمرك أضحت أكثر الدول الأوروبية معارضة للمهاجرين خلال العقد الماضي، بل وأصبحت تمثل للمسلمين الكثير من العداء؛ بسبب أزمة الرسوم المسيئة، التي نشرتها صحيفة دانمركية في العام 2006، والتي تحولت لأزمة عالمية بعد تعنت الصحيفة والحكومة، ورفضهما الاعتذار.
ولشهور عديدة تم رفض الدعوات المطالبة بإعطاء هؤلاء المترجمين العراقيين حق اللجوء السياسي للدانمرك، لكن عندما تواترت الأنباء حول مقتل أحد المترجمين في يونيو الماضي، غالبًا بسبب معاونته للقوات الدانمركية، زادت الدعوات المطالبة بمنح المترجمين حق اللجوء السياسي للدانمرك.
خياران.. أحلاهما مر!
وقتها اختبأ ما يقارب 100 مترجم يعملون، أو عملوا في السابق، مع القوات الدانمركية، وذهبوا إلى مطار البصرة، حيث القاعدة العسكرية التابعة للقوات الدانمركية. وحينها عُرض عليهم إما العيش في العراق وإعطائهم مساعدات مالية، وتوفير فرص عمل لهم، أو الذهاب للدانمرك وطلب حق اللجوء السياسي، لهم وذويهم. لكنْ كثيرون منهم اختاروا الذهاب للدانمرك، وانتقل 362 مترجمًا بالفعل للعيش في كوبنهاجن صيف هذا العام، وفق ما صرحت به وزارة الدفاع.
وتم نقلهم هناك للعيش في مخيمات للاجئين في جزيرة "جوتلاند" المطلة على بحر البلطيق، وكانت الصفقة أن تُعامل الحكومة الدانمركية هؤلاء المترجمين العراقيين كبقية اللاجئين الذين يعيشون في الدانمرك، لكن الأوضاع أتت بما لا تشتهيه السفن، فالدنمارك تعتبر من أكثر الدول الأوروبية تشددًا في قوانين الهجرة.
تم إخبار هؤلاء المترجمين بأنهم "لن يتلقوْا معاملة خاصة، فلم يجبرهم أحد أن يتعاونوا مع القوات الدنماركية في العراق"، بحسب ما قاله رئيس لجنة السياسة الخارجية في البرلمان الدنماركي.
وأشارت الصحيفة إلى أنه لا توجد إحصائيات رسمية تقدر عدد من قتل من العراقيين المتعاونين مع الاحتلال، لكن الشواهد المتواترة تقول: إن أعداد الذين قتلوا منهم قاربت المئات، وربما الآلاف. رغم كل ذلك، يبدوا أن المترجم العراقي "يونس"، وهو أحد اللاجئين، مازال يتملق الدنماركيين، قائلاً: "الدنماركيون ليسوا ملائكة، لكنهم لم يتركونا وحدنا".
ومازالت المناقشات مستمرة في العديد من دول العالم حول كيفية التعامل مع المتعاونين العراقيين مع قوات الاحتلال، فقد قالت الحكومة البريطانية إنها ستسمح لعدد محدود ممن تعاونوا معها في العراق بالتقدم بطلبات اللجوء لبريطانيا، ورغم أن الدنمارك تعتبر الدولة الوحيدة التي قامت بنقل هذا العدد الكبير من العراقيين إليها، إلا أن الكثيرين من المترجمين وعائلاتهم ما زالوا يشتكون من بُعد المسافة بين المناطق التي هجّروا إليها، وبين الجامعات التي سيكمل أولادهم الدراسة فيها، حيث تبلغ المسافة مئات الكيلومترات للوصول لأقرب جامعة، فضلاً عن مشكلات الزواج من غير الدنماركيات، وغيرها من الأزمات التي وجد هؤلاء المترجمون العراقيون أنفسهم وأهليهم فيها.
وفي هذا السياق يقول "باني"، مترجم عراقي، يبلغ من العمر 24 عامًا: "لسنا لاجئين عاديين، فلم نأت هنا لرغبة في العيش في الدنمارك أو للمتعة أو لتحصيل أموال، بل لأننا عملنا مع الدنماركيين". في إشارة إلى المسئولية التي تتحملها هذه القوات تجاه هذه المآسي.
ويقول "جاسم"، 25 عامًا: "لم يأت أحدنا من وزارة الدفاع، أو عبر الخارجية، فهل سيأتي إلينا أحد هنا، ويقول لنا ولو "شكرًا؟!".
المفضلات